شروط الزواج
لمبحث الأول
شروط الانعقاد:
يشترط لانعقاد الزواج شروط. منها ما يرجع إلى العاقد، ومنها ما يرجع إلى
الصيغة، ومنها ما يرجع إلى محل العقد.
أ- فأما ما يرجع إلى العاقد فشرطان:
أولهما: أن يكون كل من العاقدين أهلاً لمباشرة العقد بأن يكون مميزاً. سواء كان
كامل الأهلية كالبالغ الرشيد أو ناقصها كالصبي المميز، غير أن كامل الأهلية عقده
نافذ، وناقصها عقده موقوف.
فان كان أحد العاقدين فاقد التميز كالمجنون والصبي غير المميز فلا ينعقد
الزواج، لأن فاقد التميز لا إرادة له، ومتى انعدمت الإرادة انعدم
العقد.
وثانيهما: أن يعلم كل من العاقدين ما صدر من الآخر. بأن يسمع كلامه أو يرى إشارته
ويعرف مراده منها. بأن يعرف أن هذه العبارة أو تلك الإشارة يقصد بها إنشاء العقد
وإن لم يعرف معاني الكلمات اللغوية.
فلو لقنت امرأة غير عربية لفظ زوجتك نفسي فقالتها للرجل الذي يطلب
زواجها وهي تعرف أن هذه الكلمة تقال لإنشاء عقد زواج انعقد العقد وإن لم تكن تعرف
معناها اللغوي.
بـ- وأما ما يرجع إلى الصيغة "الإيجاب
والقبول":
فأولاً: اتحاد مجلس الإيجاب والقبول. ومعنى الاتحاد هنا ألا يصدر من
العاقدين أو أحدهما ما يلغي الإيجاب بعد صدوره. كأن يرجع الموجب عن إيجابه قبل
القبول، أو يعرض الطرف الآخر فلا يجد ذلك القبول إيجاباً يرتبط به. فلا ينعقد
العقد، لأن المكان وإن كان واحداً إلا أن وجود الفاصل بين الإيجاب والقبول بالعمل
الأجنبي منع الاتحاد حكماً.
هذا ومجلس عقد الزواج بالنسبة للتعاقد بطريق الرسالة أو الكتاب هو مجلس
تبليغ الرسالة أو قراءة الكتاب أمام الشهود، فلو بلغ الرسول الرسالة إلى المرأة ثم
اشتغلت بشيء آخر ثم قبلت فلا ينعقد العقد، وكذلك لو قبلت في مجلس آخر لعدم اتحاد
المجلس فيهما.
ولا يلزم من اشتراط اتحاد المجلس أن يكون القبول فور الإيجاب، لأن المراد كما قلنا . ألا
يوجد منهما أو من أحدهما ما يلغيه، فلو صدر الإيجاب وطال الوقت والمجلس قائم ولم
يوجد رجوع من الموجب، ولا اشتغال بشيء آخر ممن وجه إليه الإيجاب ثم صدر القبول
انعقد العقد.
هذا إذا كان العقد بين حاضرين، فان كان بين غير حاضرين بكتاب مكتوب أو
برسالة رسول فالقبول مقيد بمجلس تبليغ الرسالة أو قراءة الكتاب لأنه هو مجلس العقد
في هذه الصورة كما قلنا.
وثانياً: أن يوافق القبول الإيجاب حتى يتلاقيا على شيء واحد، ويتحقق
اتفاق الإرادتين، فإذا تخالفا مخالفة كلية أو جزئية لا ينعقد الزواج إلا في حالة ما
إذا كانت المخالفة إلى خير للموجب فإنه ينعقد، لأنه التوافق موجود وإن لم يكن
صريحاً، وتفصيل ذلك:
أن المخالفة إما أن تكون في محل العقد أو في مقدار
المهر.
فإذا كانت في المحل. مثل أن يقول الراغب في الزواج: زوجني ابنتك عائشة
فيرد عليه بقوله: زوجتك ابنتي فاطمة، وفي هذه الصورة لا ينعقد
العقد.
وإن كانت في مقدار المهر بأن يقبل بأقل أو أكثر مما أوجبه الموجب فلا
يخلو. إما أن تكون المخالفة فيها خير للموجب أو ليس فيها
ذلك.
فان كانت ضارة مثل أن يقول الراغب في الزواج: زوجني ابنتك فلانة بمائة
فيقول الآخر: زوجتكها بمائتين.
وفي هذه الحالة لا ينعقد العقد، لأن الإيجاب والقبول تخالفا في المهر،
وهو وإن لم يكن ركناً في العقد إلا أنه عند ذكره بمقداره مع الإيجاب يلتحق به ويصير
كجزء منه فيجب أن يكون القبول موافقاً لهذا المجموع.
وإن كانت المخالفة فيها خير للموجب مثل أن يقول الراغب في الزواج: زوجني
أختك فلانة بألف ليرة، فيقول الآخر: زوجتكها بخمسمائة، أو يقول ولي المرأة: زوجتك
أختي بألف ليرة، فيقول الآخر قبلت زواجها بألفين.
ففي هذه الحالة ينعقد العقد، لأن المخالفة هنا فيها موافقة ضمنية لإيجاب
الموجب، والإرادتان متوافقتان، فإن من يلزم نفسه بالأكثر يقبل بالأقل، ومن يقبل أن
يزوج بنته أو أخته بالقليل لا يمانع في زواجها بالكثير.
غاية الأمر أن الزيادة في المهر من قبل الزوج لا تستحقها الزوجة إلا إذا
قبلتها، فلو لم تقبلها صراحة في المجلس لا يجوز لها بعد ذلك أن تطالب بها، لأن
التمليك لا يكون بدون قبول إلا في الميراث بجعل الشارع، أما النقصان من جانب الزوجة
فلا يشترط فيه قبول الزوج، لأنه إسقاط وحط عنه وهو لا يحتاج إلى
قبول.
وثالثاً: أن تكون الصيغة منجزة. بأن تكون مفيدة لمعناها في الحال غير
معلقة على أمر سيحدث في المستقبل.
أو مضافة إلى زمن مستقبل. كأن يقول الرجل للمرأة : تزوجتك فتقول قبلت
فلا خلاف بين الفقهاء في ذلك.
فإن علقه كأن يقول: تزوجتك إن قدم فلان من سفره وقَبِلَت، أو قال لها:
تزوجتك في أول العام القادم وتقول قبلت فلا ينعقد العقد. لأن الزواج من التمليكات
وهي لا تقبل التعليق ولا الإضافة، لأن الشارع وضعه ليفيد حكمه في الحال بدون تأخير
فتعلقيه على أمر سيحدث في المستقبل يخرجه عما وضعه الشارع له ويجعله محلاً للمقامرة
واحتمال حصول آثاره أو عدم حصولها، وإضافته تعطيل لعمله في فترة الزمن ما بين صدور
الصيغة إلى مجيء الوقت المضاف إليه.
فكان كل منهما منافياً لوضعه الشرعي فيبطل العقد معهما.
جـ- أما ما يرجع إلى المحل وهو المرأة المعقود عليها فيشترط
فيها:
أولاً: أن تكون أنثى محققةالأنوثة، فلو عقد على غير الأنثى كالخنثى
المشكل لا ينعقد العقد لعدم المحلية ويكون باطلاً، فإن زال الإشكال بأن غلبت فيه
علامات النساء جاز العقد.
ثانياً: ألا تكون المرأة محرمة عليه تحريماً قطعياً لا شبهة فيه. لا
يختلف في حرمتها سواء كان التحريم مؤبداً كالأم والبنت والأخت وباقي المحرمات، أو
مؤقتاً كزوجة الغير والمسلمة بالنسبة لغير المسلم، والوثنية بالنسبة للمسلم وهو ما
يعبر عنه بكون المرأة محلاً أصلياً للزواج.
فإن عقد على واحدة من هؤلاء كان العقد باطلاً، لأن هذه المرأة ليست
محلاً أصلاً للزواج فيكون العقد خالياً من المحل والعقد لا يوجد بدون
محله.
معنى صحة الزواج أن يكون العقد صالحاً لترتب الآثار الشرعية عليه، ولكي
يكون الزواج صحيحاً بعد انعقاده لابد أن تتوافر فيه الشروط
الآتية:
أولاً: ألا تكون المرأة محرمة على الرجل الذي يريد التزويج بها تحريماً ظنياً بأن كانت حرمتها ثابتة بدليل ظني
أو مما يخفى تحريمها للاشتباه في أمره،كتزويج المرأة على عمتها أو خالتها فإنه ثابت
بدليل ظني، وتزوج المعتدة من طلاق بائن، وتزوج أخت زوجته التي طلقها في أثناء عدتها
لخفاء كل منهما والاشتباه فيه.
فهذا الزواج يكون منعقداً، لأن المرأة محل للزواج في الجملة حيث يرى بعض
الفقهاء صحته لكنه يكون فاسداً لعدم صلاحيته في ذاته لترتب الآثار عليه، وما يترتب
عليه من بعض الآثار جاء نتيجة الدخول بتلك المرأة بعد العقد. فإن وقع العقد وجب
التفريق بينهما إن لم يتفرقا باختيارهما، ولا يجب به شيء إن وقع التفريق قبل
الدخول، فان أعقبه دخول ترتب عليه بعض الآثار من وجوب المهر والعدة وثبوت النسب إن
أثمر هذا الزواج.
وبهذا يعلم أن الزواج بالمرأة المحرمة يختلف حكمه باختلاف نوع التحريم.
فإن كان قطعياً متفقاً عليه جعل العقد باطلاً، وكان انتفاء هذه الحرمة شرطاً
لانعقاد العقد.
وإن كان ظنياً أو مختلفاً فيه كان للعقد وجود، غير أنه لا يصلح في ذاته
لترتب الآثار عليه، فان أعقبه دخول ترتب على هذا الدخول بعض آثار الزواج لوجود
العقد صورة. وكان انتفاء هذه الحرمة شرطاً لصحة العقد بحيث إذا تخلف هذا الشرط كان
العقد فاسداً.
وهذه التفرقة مبنية على التفرقة بين الباطل والفاسد في الزواج كما يرى أهل
التحقيق من فقهاء الحنفية. وهي التي تتفق مع اختلاف صور الزواج غير الصحيح كما
أشرنا إلى ذلك من قبل.
وأما من لا يفرق بين الزواج الباطل والفاسد فقد سوى بين المحرمات كلها وجعل انتفاء
المحرمية شرطاً لصحة العقد سواء كانت قطعية أو ظنية مختلفاً فيها أو مما يخفى أمرها
للاشتباه فيها.
ثانياً: أن يتولى العقد ولي المرأة.
وهذا عند من لا يصحح الزواج بعبارة النساء وهم جمهور
الفقهاء.
أما عند من يصحح الزواج بعبارتها وهم الحنفية فلا يشترطون هذا
الشرط، لأن للمرأة البالغة الرشيدة أن تزوج نفسها عندهم.
أما غير البالغة الرشيدة كالصغيرة والمجنونة فلا بد من الولي عندهم لا
لصحة العقد
فقط بل لوجود أيضاً، لأن عبارتهما ملغاة لا اعتبار
لها.
ثالثاً: أن يكون العقد أمام شهود، وهذا الشرط غير متفق عليه بين الفقهاء بل اختلفوا في أصل اشتراطه كما
اختلف القائلون به فيما تصح به الشهادة.
فالكلام عليه في موضعين: الأول في أصل الاشتراط، والثاني فيما يعتبر في
الشهود عند الشارطين.
أما الأول فقد اختلف الفقهاء فيه على قولين:
فذهب جمهور الفقهاء ومنهم الأئمة الأربعة، إلى أن الشهادة شرط لازم في
عقد الزواج لا يعتبر صحيحاً بدونها، لأنه وان وردت النصوص به مطلقة في القرآن إلا
أن السنة قيدت هذا الأطلاق.
فقد روى الترمذي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "
البغايا اللاتي ينكحن أنفسهن بغير بينة".
وروى الإمام أحمد عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل".
كما روى الدارقطني عن عائشة قالت قال رسول الله: "لا نكاح إلا بولي
وشاهدي عدل".
فهذا الرويات يقوى بعضها بعضاً وقد اشتهرت فتصلح لتخصيص العام في القرآن
{فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} [النساء: 3] وتقييد المطلق فيه:
{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}.
وقد روى ذلك عن جميع من الصحابة منهم عمر وعلي وابن عباس
وغيرهم.
وقد روى مالك في الموطأ عن أبي الزبير المكي أن عمر بن الخطاب أتى بنكاح
لم يشهد عليه إلا رجل وامرأة فقال:" هذا نكاح السر ولا أجيزه ولو كنت تقدمت فيه
لرجمت".
غير أنهم مع اتفاقهم على أن الزواج بدون شهود غير صحيح
اختلفوا في وقت الشهادة: فذهب المالكية إلى أنه لا يلزم أن تكون
الشهادة وقت العقد وإن كان ذلك مستحباً.
فلو دخل قبل أن يشهد كان عاصياً ويفرق بينهما، فالإشهاد شرط
تمام.
وذهب الأئمة الثلاثة -أبو حنيفة والشافعي وابن حنبل- إلى أن الأشهاد واجب وقت العقد، لأن الحديث نفى الزواج بغير شهود،
والنفي مسلط هنا على الصحة، فإذا وجد العقد بدون شهود كان غير
صحيح.
وبهذا يكون العقد بحضرة الشهود صحيحاً بالاتفاق، ولكن لو أوصى الزوج
الشهود بالكتمان وعدم الإعلان هل يؤثر ذلك في العقد ويبطله أو
لا؟.
ذهب المالكية إلى أنه يبطل العقد، لأنه يصير نكاح سر وهو باطل لأن المطلوب فيه
الإعلان كما حض عليه رسول الله بقوله: " أعلنوا النكاح واضربوا عليه
الدفوف".
وذهب غيرهم من الحنفية والشافعية إلى أن هذا لا يؤثر في العقد ولا يجعله
سراً، وكيف يكون سراً وقد حضره أربعة وهم العاقدان
والشاهدان.
وأما الموضع الثاني: فقد اشترط القائلون بوجوب الإشهاد في الشهود شروطاً اتفقوا في بعضها
واختلفوا في بعضها الآخر.
وأهم هذه الشروط. العقل والبلوغ والحرية والإسلام إذا كان الزوجان
مسلمين، والتعدد، وسماع كل شاهد كلام العاقدين مع فهم المقصود منه
إجمالاً.
أما اشتراط العقل: والبلوغ والحرية فلأن الشهادة فيها معنى الولاية، لأنها تلزم المشهود
عليه بالمشهود به حيث ينبني عليها القضاء الملزم، ولولا الشهادة ما كان قضاء ولا
إلزام، وليس لغير الأحرار البالغين العقلاء ولاية حتى على أنفسهم، فكيف تثبت لهم
ولاية على غيرهم؟.
ومن ناحية أخرى أن المقصود من حضور الشهود إظهار خطر هذا العقد بإعلانه
وتكريمه، وبحضور غير هؤلاء لا يتحقق شيء من ذلك، بل يكون عقده بحضور غيرهم استهانة
به.
وعلى هذا لا يصح العقد بحضور الصغار ولو كانوا مميزين والمجانين
والعبيد.
وأما اشتراط الإسلام فيما إذا كان الزوجان مسلمين، فلما في الشهادة من معنى الولاية على
المشهود عليه كما قلنا ولا ولاية لغير المسلم لقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ
اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} [النساء:
141].
ولأن من أغراض الشهادة على هذا العقد إعلانه وتكريمه، وشهادة غير
المسلمين على زواج المسلمين لا تكريم فيها، ولا يتحقق بها إشارة بين
المسلمين.
ولأن لهذا العقد اعتباراً دينياً فلابد من أن يشهده من يدين بدين
الزوجين.
وهذا الشرط في زواج المسلمين لم يخالف فيه أحد من الفقهاء الشارطين
للشهادة.
ولكنهم اختلفوا فيما إذا كان الزوج مسلماً والزوجة
كتابية:
فذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يشترط إسلام الشهود، فيصح أن يشهد عليه كتابيان سواء اتفقا
معها في دينها أو اختلفا معها فيه.
وذهب الأئمة الثلاثة -المالكية والشافعية والحنبلية- إلى أنه يشترط الإسلام، لأن الشهادة على العقد الصادر من جانب الرجل
المسلم والزوجة غير المسلمة، فلو جوزنا هذه الشهادة للزم أن تكون شهادة غير المسلم
على المسلم فيقع المحظور السابق وهو جعل لغير المسلم نوع ولاية على المسلم وهو
ممنوع شرعاً.
مع أن هذه الشهادة وإن تحقق بها إشهار الزواج بين غير المسلمين فلا
يتحقق بها إشهاره بين المسلمين، وليس فيها تكريم لهذا العقد الذي أحد طرفيه
مسلم.
وأما اشتراط التعدد فلأن الأصل في الشهادة المثبته أن تكون من رجلين أو رجل وامرأتين لقوله تعالى:
{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ
فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ
إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة: 282]. فهذه الآية
رسمت لنا طريق الشهادة وجعلت شهادة المرأتين مساوية لشهادة الرجل وبينت العلة في
ذلك.
ذهب الحنفية إلى أن الشهادة في النكاح لا تكون إلا من رجلين أو رجل
وامرأتين.
لأن الأصل في الشهود أن يكونوا من الرجال ولا تقبل شهادة النساء وحدهن
في غير المواضع المستثناه، وهي التي لا يطلع عليها الرجال، فلا تكفي شهادة النساء
منفردات في الزواج، لأن من أغراض حضور الشهود إعلان الزواج وهو لا يتحقق
بوجودهن، لأنه يغلب عليهن - إذا كن مسلمات متأدبات بأدب الإسلام - الاستتار
وعدم حضور مجالس الرجال، فإذا وجد معهن رجل تحقق الإعلان بين الرجال
والنساء.
وهناك بعض الصور يظهر فيها صحة الزواج بشاهد واحد، مثل ما إذا وكلت
المرأة رجلاً ليزوجها بحضورها وحضور شاهد واحد فإنه يصح، كما يصح في صورة ما إذا
وكل ولي الزوجة وكيلاً لمباشرة العقد بحضوره وحضور شاهد واحد
أيضاً.
والحقيقة أنهما شاهدان، لأن في الصورة الأولى اعتبرت المرأة هي المباشرة
للعقد والوكيل سفير ومعبر عنها، وفي الصورة الثانية يعتبر المباشر للعقد شاهداً
بالاعتبار السابق.
لكن يشترط في كل من الصورتين أن تكون المرأة بالغة ليمكن اعتبارها
مباشرة للعقد في الصورتين وليصح توكيلها في الصورة الثانية، لأن القاعدة
المقررة: أن الأصيل في العقد إذا كان حاضراً في المجلس يمكنه أن يباشر العقد
بنفسه اعتبر هو العاقد حكماً ويعتبر الولي أو الوكيل شاهداً.
أما إذا كانت صغيرة وزوَّجها أبوها بحضرة رجل واحد فإنه لا يصح لأنه لا
يمكن اعتبارها عاقدة لم يكن ثمة إلا شاهد واحد.
أما اشتراط سماع الشهود كلام العاقدين مع فهمهما المراد منه إجمالاً وإن لم يفهما معاني المفردات، لأن إعلان
العقد لا يتحقق بدون السماع والفهم، فإذا عقدا بحضور من لا يسمع ولا يفهم المراد لا
يصح العقد.
فلو كان الشاهدان أصمين أو نائمين أو سكرانين لا يعي الواحد منهما ما
يسمعه ولا يتذكره بعد إفاقته لا يتحقق الغرض من الشهادة
بوجودها.
واشتراط السماع إنما يكون في العقد بالكلام، فإذا كان بالإشارة كان
الشرط رؤيتها وفهم المقصود منها، فلو لم ير الشهود تلك الإشارة بأن كانوا مكفوفي
البصر أو رأوها ولم يفهموا المراد منها لا يصح العقد.
وأما عدالة الشهود:
فذهب المالكية والشافعية والحنابلة إلى اشتراطها واستدلوا بحديث "وشاهدي عدل" ولأن من أغراض الشهادة هنا
إظهار شأن العقد تكريمه، ولا يحصل هذا التكريم بشهادة الفسقة لأنهم ليسوا أهلاً
للكرامة في أنفسهم فلا يكرم العقد بحضورهم. كما أن من أغراضها توثيق العقد والتمكن
من إثباته عنه إنكاره والتنازع فيه، وشهادة الفسقة لا يثبت بها الزواج أما القضاء
بالاتفاق.
غير أنهم يكتفون بالعدالة الظاهرة في الجملة، فيكفي أن يكون الشاهد
مستور الحال لم يظهر فسقه، لأن النكاح يكون في القرى والبادية وبين عامة الناس ممن
لا يعرف حقيقة العدالة فاعتبار العدالة في الواقع فيه مشقة على الناس فاكتفى بظاهر
العدالة تخفيفاً عليهم.
فإن تبين بعد العقد أنه كان عند العقد فاسقاً لم يؤثر ذلك في العقد، لأن
الشرط العدالة ظاهراً وقد تحقق ذلك.
وذهب الحنفية إلى عدم اشتراط العدالة في الشهود فيجوز شهادة غير العدول في
الزواج.
ووجهوا رأيهم بأن الفاسق له أهلية لإنشاء عقد الزواج لنفسه ولغيره
بالولاية أو الوكالة بلا نزاع، فيكون أهلاً لأن يعقد الزواج بحضوره من باب فيصلح
شاهداً فيه، وكونه لا تقبل شهادته لا يطعن في صحة تحمله لها لجواز أن يتحملها وهو
فاسق ثم يزول عنه الفسق فتقبل شهادته. ومن هنا وضعوا ضابطاً لمن تقبل شهادته في
الزواج فقالوا: كل من صلح أن يكون ولياً في الزواج بولاية نفسه يصلح شاهداً فيه
وإلا فلا.
لأن الغرض من الشهادة على العقد ليس قاصراً على أدائها عند التنازع، بل
من أغراضها إظهار العقد وإشهاره بين الناس وهذا يتحقق بشهادة غير
العدل.
وأما الحديث الذي استدل به، فالمقصود منه مجرد الإرشاد إلى ما هو
أفضل.
ولما كانت الشهادة في الزواج عند الحنفية ليس مقصودة لإثباته عند إنكاره
والاختلاف فيه بل لإشهاره وإخراجه من السرية إلى العلنية صححوه بحضور من لا تقبل
شهادتهم من فروع العاقدين أو أصولهما وإن كانوا يمنعون هذا الشهادة في غير هذا
الموضع.
فيجوز أن يتزوج الرجل بشهادة ابنيه من غير الزوجة المعقود عليها أو
بشهادة أبيها من غيره، كما يجوز أن يتزوجها بشهادة ابنية منها على ما هو المعتمد في
المذهب.
والسبب في ذلك: أن هذا الموضع لا تهمة فيه ولا شبهة، بخلاف غيره فإن
الشبهة قائمة والتهمة موجودة، لأن المقصود بها إثبات الحقوق.
ولذلك قالوا: إن شهادة هؤلاء وإن كان ينعقد بها النكاح إلا أنه لا يثبت
بها عند الإنكار فشهادتهم تنفع في حل الزوجة ديانة لا قضاء.
فالزواج له حالتان حالة الانعقاد ويصح فيها شهادة الأعمى والفاسق والابن
والأب، وحالة الإثبات عن الإنكار وهذه لا تصح شهادتهم فيها، بل يشترط في الشاهد على
إثبات الزواج ما يشترط في غيره من العدالة وعدم التهمة.
ومن هنا قالوا: إذا كانت شهادة الابن عند اختلاف الزوجين على أحد أبويه
تقبل لعدم التهمة وان كانت له لا تقبل لوجود التهمة.
رابعاً: أن تكون الصيغة من الإيجاب والقبول مؤبدة غير مؤقتة بمدة فإن صحبها توقيت كان العقد فاسداً عينت المدة أو لم
تعين كانت المدة قصيرة أو طويلة. فلو قال رجل لامرأة: تزوجتك مدة عام مثلاً وقبلت
الزوجة، أو قال لها: زوجيني نفسك مدة عشر سنوات أو فترة من الزمن إقامتي في هذا
البلد وقبلت كان العقد فاسداً. لأن العقد بهذه الصورة يكشف عن الغرض المقصود منه
وهو مجرد الاستمتاع المؤقت، والزواج لم يشرع لهذا الغرض بل شرع للاستقرار والسكن
وتكوين الأسرة. وهذا لا يكون مع التوقيت وهو متفق على عدم
صحته.
المبحث الثالث
شروط النفاذ:
معنى نفاذ العقد: أن تترتب عليه آثاره الشرعية، فالعقد إذا كان مستوفياً
لأركانه وشروط صحته لا تترتب عليه آثاره بالفعل إلا بشروط تسمى في عرف الفقهاء
بشروط النفاذ. ويجمعها أن يكون لكل من العاقدين الحق في إنشاء عقد الزواج، ويتحقق
ذلك بكمال أهليتهما مع وجود صفة شرعية تجيز لهما إنشاء هذا العقد. وكمال الأهلية
بالحرية والبلوغ والعقل، والصفة هي الأصالة أو الولاية أو
الوكالة.
وعلى هذا إذا تولاه الزوجان مع كمال أهليتهما نفذ العقد وترتبت عليه
آثاره عند من يصحح الزواج بعبارة النساء وهم الحنفية.
وإذا كان أحدهما ناقص الأهلية كالصغير المميز والمعتوه انعقد صحيحاً
موقوفاً على إجازة من له الإجازة، لأن وجود أصل الأهلية يجعله منعقداً صحيحاً
ونقصانها يجعله موقوفاً على الإجازة ليمكن تلافي الضرر المحتمل من هذا العقد، أما
إذا كان أحدهما فاقد الأهلية كالمجنون والصغير غير المميز فان العقد يكون باطلاً
كما قدمنا.
وإذا تولاه غيرهما ممن كملت أهليتهم فإن كان ولياً أو وكيلاً نفذ
العقد.
وإن كان مجرداً من هذه الصفة انعقد موقوفاً على الإجازة، لأن وجود
الأهلية الكاملة يجعله منعقداً صحيحاً، وعدم الصفة المخولة لإنشاء العقد يجعله
موقوفاً على الإجازة. ويسمى ذلك الشخص في عرف الفقهاء بالفضولي. ومثل الفضولي في
هذا الوكيل إذا خالف مقتضى الوكالة. كأن يوكله في زواج امرأة معينة أو بمهر معين
فيزوجه غيرها أو بمهر أكثر. فإن العقد يكون موقوفاً على إجازة الموكل.
وكذلك الولي البعيد إذا عقد الزواج مع وجود الولي القريب الكامل
الأهلية، فإن عقده يكون موقوفاً على إجازة القريب.
وإذا زوج السفيه أو من عنده غفلة نفسه صح العقد ونفذ ولو كان محجوراً
عليه، لأن عقد الزواج تصرف شخصي لا يرد عليه الحجر، وإنما الحجر على التصرفات
المالية.
ولهذا لو تزوج امرأة بأكثر من مهر مثلها ثبت لها مهر المثل فقط، ولو كان
السفه في جانبها ورضيت الزواج بالأقل ثبت لها مهر المثل، وإن سمي لها أكثر صحت
التسمية إذا لم يكن سفيهاً وإلا فيقتصر على مقداره.
المبحث الرابع
معنى لزوم العقد: ألا يكون لأحد الزوجين أو لغيرهما ممن يتعدى إليه ضرر العقد حتى فسخه
بعد تمامه، وعلى هذا يكون المراد بشروط اللزوم هي الشروط التي إذا تحققت كلها لم
يكن لأحد الحق في فسخ العقد، فإن تخلفت تلك الشروط أو بعضها كان العقد غير لازم
يجوز فسخه إذا طلب ذلك صاحب الشأن.
والأصل في عقد الزواج أن يكون لازماً لأنه شرع لمقاصد لا توجد إلا مع
لزومه، ولذلك لا يصح فيه خيار الشرط ولا خيار الرؤية كما في البيع عند كثير من
الفقهاء.
غير أن هذا اللزوم لا يكون إلا إذا توفر الرضا الكامل من الجانبين، فإذا
وجد فيه ما ينقضه عند أحدهما ثبت له خيار الفسخ ويكون العقد غير
لازم.
وعلى هذا يشترط للزوم عقد الزواج إجمالاً: أن يكون خالياً مما يوجب
الفسخ.
ولما كان الموجب للفسخ يختلف باختلاف متولي العقد كان لابد من تفصيل ذلك
الشرط المجمل إلى الشروط الآتية:
أولاً: أن يكون الزوج كفئاً للزوجة إذا زوجت نفسها وهي كاملة الأهلية، أي بالغة عاقلة
رشيدة.
فإن لم يكن كفئاً لم يكن العقد لازماً إذا كان لها ولي عاصب(1) ولم يرض بهذا الزواج، فله حق الاعتراض وطلب الفسخ، لأن الكفاءة حق مشترك
بين الزوجة وأوليائها، فإذا أسقطت حقها بقي حق الأولياء. لكن هذا الحق ثابت ما لم
يسكت حتى تلد أو تحبل حبلاً ظاهراً، فإن حدث ذلك سقط حق الاعتراض، لأن حق الولد هنا
في المحافظة عليه وتربيته أقوى من حق الأولياء في الاعتراض.
ثانياً: ألا يقل مهرها عن مهر أمثالها من قوم أبيها إذا زوجت
نفسها ولو كان الزوج كفئاً لها، فلو زوجت نفسها من كفء بأقل من مهر مثلها
ولها ولي عاصب لم يرض بهذا الزواج كان العقد غير لازم، وللولي حق الاعتراض وطلب
الفسخ، لأن الأولياء - كما يجري به العرف بين الناس - يفتخرون بكثرة المهور
ويتعيرون بنقصانها.
وهذا الحق ثابت ما لم يقبل الزوج زيادة المهر إلى مهر المثل أو تلد
المرأة أو تحبل حبلاً ظاهراً، فإن حصل شيء من ذلك سقط حق الاعتراض عند أبي
حنيفة.
ولو رضي أحد الأولياء دون الآخر بزواج غير الكفء أو بأقل من مهر المثل
سقط حق الباقي في طلب الفسخ ولزم العقد على القول الراجح في مذهب
الحنفية.
وإنما سقط حق الاعتراض في هذه الحالة لأنه ثبت بسبب مشترك لا يتجزأ وهو
القرابة فلا يقبل التجزئ وإسقاط بعض ما لا يتجزأ إسقاط الكل.
ثالثاً: أن يكون المزوج لفاقد الأهلية أو ناقصها كالمجنون والمعتوه والصغير والصغيرة الأب أو الجد المعروفين بحسن
التصرف والاختيار.
فلو زوج الأب أو الجد واحداً من هؤلاء كان العقد لازماً، ولو كان الزواج
من غير كفء أو بأقل من مهر المثل. حتى لو بلغ الصغير أو أفاق المجنون وعقل لا يكون
لهما الحق في الفسخ، لأن الشأن في الأب والجد المعروفين بحسن التصرف والاختيار أن
يعملا على مصلحة من في ولايتهما، فإذا تساهلا وزوجا بغير الكفء أو بأقل من مهر
المثل لا يكون ذلك إلا لمصلحة تفوق الكفاءة والمهر.
ومثلهما في ذلك ما إذا زوج الابن أمه التي سلب عقلها بغير كفء أو بأقل
من مهر المثل فإن العقد يلزم وليس لها حق طلب الفسخ إذا ما
عقلت.
(1) الولي العاصب هو القريب للمرأة قرابة لا تتوسط فيها الأنثى وحدها كالأب
والجد لأب وان علا والابن والأخ الشقيق أو لأب والعم الشقيق أو لأب وهكذا. فان لم
يكن لها ولي عاصب وقع عقدها لازماً.
أما إذا كان الأب أو الجد معروفاً بسوء التصرف فان عقدهما يكون غير لازم
ويثبت حق الفسخ عند البلوغ إن كان المزوج صغيراً ويسمى خيار البلوغ أو عند الإفاقة
إن كان مجنوناً أو معتوهاً ويسمى خيار الأفاقة.
وكذلك إذا زوج واحداً من هؤلاء غير الأب والجد، كالأخ والعم وابن العم
فان العقد لا يكون لازماً حتى ولو كان الزوج بالكفء وبمهر المثل، لأن شفقة هؤلاء
وحرصهم على مصلحة من في ولايتهم لا تبلغ درجة الكمال فلا تساوي شفقة الأب والجد،
فلاحتمال ألا يكون في هذا الزواج مصلحة ثبت حق الفسخ لهؤلاء.
رابعاً: ألا يكون الزوج قد غرر في أمور تتعلق بكفاءته، كأن يدعي نسباً معيناً تم
الزواج على أساسه ثم ظهر كذبه كان العقد غير لازم بالنسبة إلى طرف الزوجة فلها أو
لوليها حق طلب الفسخ.
أما تغرير المرأة بالرجل فلا يمنع لزوم العقد، لأن الرجل يملك الطلاق
فله أن يطلق إذا ما ظهر له تغريرها ولا حاجة به إلى طلب
الفسخ.
0 التعليقات:
إرسال تعليق