مميزات وفضائل الحرم المكي والمدني
مميزات وفضائل الحرم المكي:
أولاً - بناء الكعبة ومزيتها وفضيلة المسجد
الحرام:
بنيت الكعبة المشرفة خمس مرات: بناء الملائكة أو آدم، أو شيث بن آدم،
وبناء إبراهيم على القواعد الأولى، وبناء قريش في الجاهلية بحضور الرسول صلى الله
عليه وسلم قبل البعثة، وبناء ابن الزبير، حين احترقت، وبناء الحجاج بن يوسف. وهذا
البناء هو الموجود اليوم.
وقد تم توسيع المسجد الحرام في عهد عمر بل إن عمر أول من بناه، ثم في
عهد عثمان، ثم في عهد الوليد بن عبد الملك، ثم في عهد المهدي، واستقر الأمر على
ذلك، إلى أن تم توسيعه الأخير في عهد السعوديين، قال الشافعي : أحب أن تترك الكعبة
على حالها، فلا تهدم، لأن هدمها يذهب حرمتها ويصير كالتلاعب بها. وقد كساها النبي
صلى الله عليه وسلم ثياباً يمانية، ثم كساها أبو بكر وعمر وعثمان ومعاوية وابن
الزبير ومن بعدهم.
وكان الوليد بن عبد الملك أول من ذهَّب البيت في الإسلام. ويجوز تزيين
الكعبة بالذهب والحرير ما لم ينسب إلى الإسراف. ويجوز تطييب الكعبة ويحرم أخذ شيء
منه للتبرك وغيره، ومن أخذه لزمه رده إليها، فإن أراد التبرك أتى بطيب من عنده
فمسحها به، ثم أخذه.
والبيت الحرام : أول بيت من بيوت الله وجد على ظهر الأرض ليعبد الناس
فيه ربهم، أولية شرف وزمان، لقوله سبحانه: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ
لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ
بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران:
96-97] فأول دلائله وعلائمه الظاهرة: مقام إبراهيم، وثانيها أنه يجب تعظيمه بنسبته
إلى الله، حتى إنه كان اللاجئ إليه عند العرب يصير آمناً مادام فيه، وقد أقر الله
تعالى هذه المزية في قوله : {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ
وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]
{أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا} [القصص: 57] {أَوَلَمْ
يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ
حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67] لذا يكره عند مالك والشافعي حمل السلاح في مكة لغير
ضرورة أو حاجة، فإن كانت حاجة جاز، ثبت في صحيح مسلم عن جابر أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال : "لا يحل أن يحمل السلاح بمكة".
وتضاعف في الحرم لحسنات، قال تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ
بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] وثواب الصلاة
فيه يعدل مائة ألف صلاة، قال صلى الله عليه وسلم : "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف
صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من صلاة في مسجدي
هذا بمائة صلاة". وفي لفظ عند أحمد من حديث ابن عمر : "وصلاة في المسجد الحرام أفضل
من مائة ألف صلاة" وروى الطبراني عن أبي الدرداء : "الصلاة في المسجد الحرام بمائة
ألف صلاة، والصلاة في مسجدي بألف صلاة، والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة" وهذا
يدل على أفضلية هذه المساجد الثلاثة : المسجد الحرام ثم المسجد النبوي ثم المسجد
الأقصى، والمسجد الحرام أفضل المساجد على الإطلاق، ويقصد بالذات للعبادة فيه، لقوله
صلى الله عليه وسلم : "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام، ومسجدي
هذا، والمسجد الأقصى".
ويطلق المسجد الحرام غالباً ويراد به هذا المسجد، وقد يراد به الحرم،
وقد يراد به مكة، كما في قوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ
حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] وقد ازدادت أهميته يجعله من
أهم أماكن شعائر الحج في أيام معلومات.
ثانياً - المجاورة بمكة وفضيلتها:
إن حرم مكة كالمسجد الحرام في مضاعف ثواب الصلاة بل وسائر أنواع
الطاعات.
قال صلى الله عليه وسلم : "رمضان بمكة أفضل من ألف رمضان بغير مكة" رواه
البخاري وقال أيضاً : "من حج من مكة ماشياً، حتى يرجع إليها أيضاً : "من حج من مكة
ماشياً، حتى يرجع إليها كتب له بكل خطوة سبعمائة حسنة من حسنات الحرم، وحسنات الحرم
بمائة ألف حسنة" رواه الحاكم.
وقال جماعة من العلماء منهم ابن عباس وابن مسعود ومجاهد وأحمد بن حنبل :
تضاعف السيئات بمكة كما تضاعف الحسنات. وقال بعض المتأخرين : القائل بالمضاعفة :
أراد مضاعفة مقدارها أي غلظها لا كميتها في العدد، فإن السيئة جزاؤها سيئة، لكن
السيئات تتفاوت، فالسيئة في حرم الله أكبر وأعظم منها في طرف من أطراف
البلاد.
ويعاقب فيها على الهم بالسيئات وإن لم يفعلها، قال تعالى : {وَمَنْ
يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} وهذا مستثنى
من قاعدة الهم بالسيئة وعدم فعلها، تعظيماً لحرمة الحرم.
أما المجاورة بمكة:
فذهب مالك وأبو حنيفة إلى كراهتها، خوفاً من التقصير في حرمتها، والتبرم وإعتياد المكان
والأنس به، وذلك يجر إلى قلة المهابة والتعظيم، ولتهييج الشوق بالمفارقة لتنبعث
داعية العود، وخوفاً من ركوب الخطايا والذنوب بها، فإن ذلك محظور، والراجح عند
الحنفية في قول وهو عدم كراهة المجاورة بمكة أو بالمدينة، واختار بعضهم أن المجاورة
بالمدينة أفضل منها بمكة.
وذهب الشافعية والحنابلة إلى استحباب المجاورة لمن لم يخف الوقوع في محظور بمكة أو
المدينة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن مكة: "إنك لأحب البقاع إلى الله عز
وجل، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت" رواه الترمذي.
قال أحمد: والمقام بالمدينة أحب إلي من المقام بمكة لمن قوي
عليه، لأنها مهاجر المسلمين وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يصبر أحد على
لأوائها وشدتها إلا كنت له شهيداً وشفيعاً يوم القيامة".
ثالثاً - هل مكة أفضل أم المدينة ؟
انعقد الإجماع على أن أفضل بقع الأرض على الإطلاق المكان الذي ضم جسده
صلى الله عليه وسلم، وعلى أن مكة والمدينة أفضل بقاع الأرض
بعده.
واختلفوا في أيهما أفضل مكة أم المدينة ؟ فقال مالك تبعاً لعمر وغيره من
الصحابة المدنيين بتفضيل المدينة، لأنها موطن الهجرة، ومستقر الصحابة، ومثوى الرسول
الله صلى الله عليه وسلم، ولما ورد في فضلها من الأحاديث الصحيحة، منها : "إنها
طيبة - يعني المدينة - وإنها تنفي الخَبَث كما تنفي النار خبث الفضة" رواه
مسلم.
وذهب أكثر العلماء إلى تفضيل مكة، للحديث السابق عن مكة: "والله إنك
لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت" رواه
الترمذي.
وأوجه تفضيل مكة على المدينة، منها:
1- وجوب قصدها للحج والعمرة، وهما واجبان لا يقع مثلهما
بالمدينة.
2- أن الله تعالى حرمها يوم خلق السموات والأرض.
3- أن الله جعلها حرماً آمناً في الجاهلية والإسلام.
4- لا يدخلها أحد إلا بحج أو عمرة وجوباً أو ندباً.
رابعاً- آداب دخول مكة:
يستحب لمن دخل مكة ما يأتي:
1- ينبغي لمن أحرم بحج أو عمرة من الميقات أو غيره أن يتوجه إلى مكة، ومنها
يكون خروجه إلى عرفات.
2- إذا بلغ الحرم المكي دعا، فقال : "اللهم هذا حرمك وأمنك، فحرمني على
النار، وآمني من عذابك يوم تبعث عبادك، واجعلني من أوليائك وأهل طاعتك". هذا
ويستحضر من الخشوع والخضوع في قلبه وجسده ما أمكنه.
3- إذا بلغ مكة اغتسل بذي طوي(1) بنية غسل دخول مكة، فإن جاء من طريق آخر اغتسل في غيرها. وهذا الغسل
مستحب لكل أحد حتى الحائض والنفساء والصبي.
4- السنة أن يدخل مكة من ثنية كَداء(2)، وإذا خرج راجعاً إلى بلده خرج من ثنية كُدا(3).
5- الأصح عند الشافعية أن يدخل مكة ماشياً لا
راكباً.
6- يدخلها الإنسان ليلاً أو نهارً، فقد دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم
نهاراً في الحج، وليلاً في عمرة له، والأفضل في الأصح عند الشافعية دخولها
نهاراً.
7- ينبغي أن يتحفظ في دخوله في إيذاء الناس في الزحمة، ويتلطف بمن يزاحمه،
ويلحظ بقلبه جلالة البقعة التي هو فيها والتي يتجه إليها.
8- ينبغي لمن يأتي من غير الحرم ألا يدخل مكة إلا محرماً بحج أو عمرة.
والأصح عند الشافعية أن دخولها محرماً مستحب، وواجب عند
غيرهم.
9- يستحب إذا وقع بصره على البيت أن يرفع يديه، فقد جاء أنه يستجاب دعاء
المسلم عند رؤية الكعبة، ويقول:
" اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتعظيماً وتكريماً ومهابة، وزد من شرفه
وعظمه ممن حجه أو اعتمره تشريفاً وتكريماً وتعظيماً وبراً " ويضيف إليه :" اللهم
أنت السلام، ومنك السلام، فحينا ربنا
بالسلام ".
ويدعو بما أحب من مهمات الآخرة والدنيا، وأهمها سؤال المغفرة. وينبغي أن
يستحضر عند رؤية الكعبة ما أمكنه من الخشوع والتذلل والخضوع، فهذه عادة الصالحين
والعارفين.
ويقول قبالة البيت:" اللهم البيت بيتك، والحرم حرمك، والأمن أمنك، وهذا
مقام العائذ بك من النار ".
10- يستحب ألا يعرج أول دخوله على استئجار منزل أو تغيير ثياب وغير ذلك إلا
الطواف الذي هو طواف القدوم وهو سنة عند الجمهور واجب عند المالكية. ويترك بعض
الرفقة عند متاعهم ورواحلهم حتى يطوفوا، ثم يرجعوا إلى رواحلهم ومتاعهم واستئجار
المنزل.
ويستحب للمرأة الجميلة أو الشريفة ألا تبرز للرجال، وتؤخر الطواف ودخول
المسجد إلى الليل.
ويستحب الدخول إلى البيت الحرام من باب بني شبية، ويقدم رجله اليمنى في
الدخول، ويقول: "
أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم،
بسم الله، والحمد لله، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح
لي أبواب رحمتك ".
_____________________
(1) في أسفل مكة.
(2) بأعلى مكة ينحدر منها إلى المقابرة.
(3) بأسفل مكة بقرب جبل قعيقعان وإلى صوب ذي طوي.
وإذا خرج قدم رجله اليسرى، وقال هذا، إلا أنه يقول:" وافتح لي أبواب
فضلك " وهذا الذكر والدعاء مستحب في كل مسجد.
11- إذا دخل المسجد ينبغي ألا يشتغل بصلاة تحية المسجد، ولا غيرها، بل يقصد
الحجر الأسود، ويبدأ بطواف القدوم، وهو تحية المسجد الحرام، والطواف مستحب لكل داخل
محرماً كان أو غير محرم، إلا لأداء الصلاة المكتوبة أو قضائها، أو فوات الجماعة
فيها، أو فوات الوتر أو السنة الفجر وغيرها من السنن الراتبة، فيقدم كل ذلك على
الطواف ثم يطوف.
ولو دخل وقد منع الناس من الطواف صلى تحية
المسجد.
12- يستحب لمن حج أن يدخل البيت، ويصلي فيه ركعتين، كما النبي صلى الله عليه
وسلم. ولا يدخل البيت بنعليه ولا خفيه، ولا يدخل حِجْر اسماعيل؛ لأنه من البيت، ولا
يدخل الكعبة بسلاح.
وثياب الكعبة إذا نزعت يتصدق بها، ولا يأخذ من طيب البيت شيئاً، ولا
يخرج من تراب الحرام، ولا يدخل فيه من الحل، ولا يخرج من حجارة مكة وترابها إلى
الحل.
13- يستحب لمن دخل مكة حاجاً أو معتمراً أن يختم القرآن فيها قبل
رجوعه.
14- يندب عند المالكية طواف الوداع، ويجب عند الأئمة
الآخرين.
خامساً- خصائص الحرم المكي ومحظوراته :
للحرم المكي أحكام خاصة، أهمها ما يأتي:
1ً- ينبغي ألا يدخله أحد إلا بإحرام، وهو مستحب عند الشافعية، واجب عند
غيرهم.
2ً- يحرم صيد الحرم بالإجماع على الحلال والمحرم إلا المؤذيات المبتدئة
بالأذى غالباً، وهو مضمون بإتلافه.
3ً- يحرم قطع شجر الحرم ونباته الرطب الذي ينبت بنفسه ولا يستنبته الناس
كالشيح والشوك والعوسج، إلا ما فيه ضرورة كالاذْخر( نبات طيب الرائحة )، ويلحق به
كما أبان المالكية ستة: السَّنَا (المعروف بالسنامكي ) للحاجة إليه في التداوي،
والهَشّ (قطع ورق الشجر بالمِحْجَن ) (1)، والعَصَا، والسواك، وقطع الشجر للبناء والسكنى بموضعه، وقطعه لإصلاح
الحوائط والبساتين. لقوله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة:" إن هذا البلد حرَّمه
الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا
يُعْضَد(2) شوكة، ولا يُنَفَّر صيده، ولا يَلْتقط لقطته إلا من عرَّفها، ولا
يُخْتَلى خلاه(3)، فقال العباس: يا رسول الله، إلا الإذخِر، فإنه لقَيْنهم وبيوتهم،
فقال: إلا الإذخر" رواه البخاري ومسلم. ويجب عند الجمهور ضمانه خلافاً
للمالكية.
ولا يحرم قطع ما أنبته الآدمي من الشجر كالجوز واللوز والنخل ونحوه كشجر
الأراك، والرمان والخس والبطيخ والحنطة، ولا بأس بقطع اليابس من الشجر والحشيش لأنه
قد مات، وليس له أخذ ورق الشجر، ويباح أخذ الكمأة من الحرم لأنها ليست من جنس
النبات، بل هي من ودائع الأرض، وكذا الفقع، لأنه لا أصل له، فأشبه الثمرة. ولا شيء
بقتل غراب وحدأة وفأرة وحية وكلب عقور وبعوض ونمل وبرغوث وقراد وسلحفاة وماليس
بصيد، على الخلاف والتفصيل السابق.
وأما صيد وَج ( واد بالطائف ) وشجرة : فحرام لا يضمن عند الشافعية،
لحديث :" ألا إن صيد وج وعضاهه- يعني شجره - حرام محرم " رواه البيهقي. وهو مباح
حلال عند الحنابلة؛ لأن الأصل الإباحة، والحديث ضعفه أحمد، لكن لا يضمن قطعاً عند
الشافعية.
4ً- يمنع إخراج تراب الحرم وأحجاره، والمعتمد عند أكثر الشافعية كراهة
ذلك،. وقال الحنفية : لا بأس بإخراج الأحجار وترابه.
5ً- يمنع عند الجمهور كل كافر من دخول الحرم، مقيماً كان أو ماراً.
وأجازه أبو حنيفة ما لم يستوطنه.
6ً- لا تحل لقطة مكة وحرمها لمتملك، وإنما تحل لمنشد يحفظها ويعرفها
بخلاف سائر البلاد، للحديث المتقدم:" ولا تلتقط لقطته إلا من
عرفها".
7ً- تغلظ الدية على القاتل الذي قتل في حرم مكة، لقوله
تعالى:
{وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى
يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} [البقرة: 191] لأن للحرم تأثيراً في إثبات الأمن. وتغلظ
وإن كان القتل خطأ، سواء أكان القاتل والمقتول معاً في الحرم، أم أحدهما دون
الآخر.
وقدر التغليظ عند أحمد : هو الزيادة في العدد أي بمقدار الدية وثلث
الدية.
وعند الشافعي : التغليظ جاء في أسنان الإبل، لا الزيادة في
العدد.
ولا تغلظ الدية بالقتل في حرم المدينة، في الأصح عند
الشافعية.
ويجوز عند الجمهور خلافاً لجماعة، قتال البغاة في حرم مكة على بغيهم إذا
لم يمكن ردهم عن البغي إلا بالقتال؛ لأن قتال البغاة من حقوق الله تعالى التي لا
يجوز إضاعتها، فحفظها في الحرم أولى من إضاعتها.
_______________________
(1) العصا المعوجة، أمَّا ضبط العصا على الشجر ليقع ورقه فهو
حرام.
(2) الحشيش الرطب.
(3) يقطع.
وتقام الحدود والقصاص في الحرم عند المالكية والشافعية، لقوله
تعالى:
{وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى
يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل ابن خَطَل لما
وجد متعلقاً بأستار الكعبة، وأمر النبي بقتل الفواسق الخمس في الحل والحرم؛ لأنها
مؤذيات طبعاً.
وروي عن أحمد وأبي حنيفة أن من وجب عليه الحد أو القصاص آمن مادام في
الحرم، لقوله تعالى:{ ومن دخله كان آمناً } ولقوله صلى الله عليه وسلم:" لا
يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً".
8ً- تحريم دفن المشرك فيه ونبشه منه.
9ً- تخصيص ذبح دماء الجزاءات في الحج والهدايا في
الحرم.
10ً- لا دم على المتمتع والقارن إذا كان من أهل
الحرم.
11ً- لا يكره عند الشافعية صلاة النفل التي لا سبب لها في وقت من الأوقات
في الحرم، سواء في مكة وسائر الحرم.
12ً- إذا نذر قصده، لزمه عند الشافعية الذهاب إليه بحج أو عمرة، بخلاف
غيره من المساجد، فإنه لا يجب الذهاب إليه إذا نذره، إلا مسجد رسول الله صلى الله
عليه وسلم والمسجد الأقصى، فإنهما يتعينان أيضاً، للحديث السابق:" لا تشد الرحال..
".
13ً- إذا نذر النحر وحده بمكة، لزمه عند الشافعية النحر بها، وتفرقة اللحم
على مساكين الحرم، ولو نذر ذلك في بلد آخر، لم ينعقد نذره في أصح
الوجهين.
14ً- يحرم عند الشافعية استقبال الكعبة واستدبارها بالبول والغائط في
الصحراء.
15ً- مضاعفة الأجر في الصلوات وسائر الطاعات بالمسجد
الحرام.
16ً- يستحب لأهل مكة أن يصلوا العيد في المسجد الحرام، والأفضل لغيرهم
الصلاة في المصلى، إذا كان المسجد عند الشافعية ضيّفاً، فإن كان واسعاً فالمسجد
أفضل من المصلى.
17ً- لا يجوز إحرام المقيم في الحرم بالحج خارجه.
مميزات وفضائل الحرم المدني:
سادساً- فضل المسجد النبوي:
بنى الرسول صلى الله عليه وسلم مع الصحابة هذا المسجد بمساحة 70
x60 ذراعاً، ثم وسعه عمر، وعثمان، وعبد الملك بن مروان وابنه الوليد، وتم
توسيعه الأخير على يد الملك عبد العزيز آل سعود، وضم إليه مساحة كبرى من جهة الغرب
مصلى أثناء الحج.
والصلاة في هذا المسجد تربو على الصلاة في غيره بألف صلاة، لحديث أبي
هريرة المتقدم في الصحيحين: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا
المسجد الحرام" وهذا التفضيل يعم الفرض والنفل كمكة.
وقال العلماء: وهذا فيما يرجع إلى الثواب، فثواب صلاة فيه يزيد على ألف
صلاة فيما سواه، ولا يتعدى ذلك إلى الإجزاء، حتى لو كان عليه صلاتان، فصلى في مسجد
المدينة صلاة لم تجزئه عنهما، وهذا لا خلاف فيه.
وذهب بعض العلماء إلى أن هذه الفضيلة مختصة بنفس مسجده صلى الله عليه
وسلم الذي كان في زمانه، دون ما زيد فيه بعده، لقوله: "في مسجدي هذا" وذهب البعض
الآخر إلى أنه لو وُسِّع ثبت له هذه الفضيلة، كما في مسجد مكة إذا وسع، فإن تلك
الفضيلة ثابتة له، قال ابن عمر: "زاد عمر بن الخطاب في المسجد، قال: ولو زدنا فيه
حتى بلغ الجبانة(1)، كان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وفي حديث يبين فضل الصلاة في هذا المسجد: "من صلى في مسجدي أربعين صلاة
لا تفوته صلاة كتبت له براءة من النار، ونجاة يوم القيامة" رواه الطبراني ولو نذر
الذهاب إلى المسجد النبوي أو إلى الأقصى، فالأصح عند الشافعية أنه يستحب له الذهاب
ولا يجب، ويتحقق النذر باعتكاف ساعة في الأصح، والأفضل صلاة ركعتين
فيه.
سابعاً - خصائص الحرم المدني:
حرم المدينة: ما بين لابيتها، واللابة: الحرة: وهي أرض فيها حجارة سود،
ويمتاز هذا الحرم بأحكام منها ما يأتي.
1- تحريم صيد المدينة وشجرها على الحلال والمحرم كمكة عند الجمهور، خلافاً
لأبي حنيفة، للحديث: "إن إبراهيم حرم مكة، وإني حرمت المدينة، ما بين لابتيها لا
يقطع عضاهها(2)، ولا يصاد صيدها" رواه مسلم وإذا فعل استغفر الله ولا شيء عليه، ولا
يضمن القيمة عند الجمهور ولأنه ليس محلاً للنسك، لكن مكة يضمن صيدها
وشجرها.
2- يستحب عند الشافعية والحنابلة المجاورة بالمدينة، لما يحصل في ذلك من
نيل الدرجات ومزيد الكرامات، لقوله صلى الله عليه وسلم: "من صبر على لأواء المدينة
وشدتها، كنت له شهيداً وشفيعاً يوم القيامة" رواه مسلم.
والراجح عند الحنفية كما بينا: أنه لا تكره المجاورة بالمدينة، وكذا
بمكة لمن يثق بنفسه.
3- يستحب عند الشافعية الصيام بالمدينة والصدقة على سكانها وبرهم، فهم
جيران رسول الله صلى الله عليه وسلم، خاصة أهل المدينة.
______________________
(1) مقبرة المدينة.
(2) شجرة عظيم له شوك.
4- يختص أهل المدينة بمزيد الشفاعة والإكرام، زائداً على غيرهم من الأمم،
لحديث الصحيحين المتقدم عن أبي هريرة:" من صبر على لأْواء
المدينة..".
5- إذا عاين حيطان المدينة صلى على النبي صلى الله عليه وسلم، وقال:" اللهم
هذا حرم نبيك فاجعله وقاية لي من النار، وأماناً من العذاب وسوء
الحساب".
ثامناً- زيارة المسجد النبوي وقبر النبي صلى الله عليه
وسلم:
يستحب زيارة المسجد النبوي، لأنه كما في الحديث الصحيح أحد المساجد
الثلاثة التي تشد إليها الرحال، وزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه ؛ لأن
موضع قبره عليه الصلاة والسلام أفضل بقاع الأرض. وآداب الزيارة وأحكامها ما
يأتي:
1- تسن زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقوله عليه السلام: "من
زار قبري وجبت له شفاعتي" رواه ابن خزيمة وروى البخاري: "من صلى علي عند قبري، وكل
الله به ملكاً يبلغني، وكفي أمر دنياه وآخرته، وكنت له شفيعاً أو شهيداً يوم
القيامة".
فزيارة قبره صلى الله عليه وسلم من أفضل القربات وأنجح المساعي لقوله
تعالى:
{وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ
فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ
تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64]، وتتأكد الزيارة للحاج والمعتمر أكثر من
غيره، لأمرين: أحدهما- أن الغالب على الحجيج الورود من آفاق بعيدة، فإذا قربوا من
المدنية يقبح تركهم الزيارة. والثاني- لحديث ابن عمر: "من حج، ولم يزرني، فقد
جفاني" رواه ابن حبان وحديث" من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي" رواه
الدارقطني والبيهقي.
2- يستحب للزائر أن ينوي مع زيارته صلى الله عليه وسلم التقرب إلى الله
تعالى بالمسافرة إلى مسجده صلى الله عليه وسلم والصلاة فيه.
3- يستحب في أثناء السفر لهذه الزيارة أن يكثر من الصلاة والتسليم على
النبي صلى الله عليه وسلم في طريقه، خصوصاً إذا رأى أشجار المدينة
وحرمها.
4- يستحب أن يغتسل قبل دخوله ويلبس أنظف ثيابه.
5- يستحضر في قلبه حينئذ شرف المدينة وأنها أفضل الدنيا بعد
مكة.
6- ليقل عند باب مسجده صلى الله عليه وسلم ما قدمناه عند المسجد الحرام وكل
المساجد، ويقدم رجله اليمنى في الدخول، واليسرى في الخروج.
ثم يقصد الروضة الكريمة (1): وهي ما بين المنبر والقبر، فيصلي تحية المسجد، بجنب
المنبر،
(1) ما بين المنبر ومقام النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يصلي فيه حتى
توفي، أربعة عشر ذراعاً وشبر وما بين المنبر والقبر ثلاثة وخمسون ذراعاً
وشبر.
وتكون الدائرة التي في قبلة المسجد بين عينيه، فذلك موقف رسول الله صلى
الله عليه وسلم.
7- إذا صلى التحية في الروضة أو غيرها من المسجد، شكر الله تعالى على هذه
النعمة، ويسأله إتمام ما قصده وقبول زيارته، ثم يأتي القبر الكريم، فيستدبر القبلة،
ويستقبل جدار القبر، ويبعد من رأس القبر نحو أربعة أذرع، ويقف ناظراً إلى أسفل،
خاشعاً، فارغ القلب من علائق الدنيا، مستحضراً في قلبه جلالة موقفه صلى الله عليه
وسلم، ثم يسلم ولا يرفع صوته، فيقول:
"
السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا نبي الله، السلام عليك يا
خيرة الله، السلام عليك يا خير خلق الله، السلام عليك يا حبيب الله، السلام عليك يا
نذير، السلام عليك يا بشير، السلام عليك يا طُهْر، السلام عليك يا طاهر، السلام
عليك يا نبي الرحمة، السلام عليك يا نبي الأمة، السلام عليك يا أبا القاسم، السلام
عليك يا رسول رب العالمين، السلام عليك يا سيد المرسلين وخاتم النبيين، السلام عليك
يا خير الخلائق أجمعين، السلام عليك يا قائد الغر المحجلين، السلام عليك وعلى سائر
الأنبياء وجميع عباد الله الصالحين.
جزاك الله يا رسول الله عنا أفضل ما جزى نبياً ورسولاً عن أمته، وصلى
الله عليك كلما ذكرك ذاكر، وغفل عن ذكرك غافل، أفضل وأكمل وأطيب ما صلى على أحد من
الخلق أجمعين.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنك عبده ورسوله وخيرته
من خلقه. وأشهد أنك قد بلغت الرسالة وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، وجاهدت في الله حق
جهاده.
اللهم وآته الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، وآته
نهاية ما ينبغي أن يسأله السائلون.
اللهم صل على محمد عبدك ورسولك النبي الأمي، وعلى آل محمد وأزواجه
وذريته، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد النبي الأمي، وعلى
آل محمد وأزواجه وذريته، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك
حميد مجيد".
ومن أراد الاختصار، قال :" السلام عليك يا رسول الله صلى الله عليك
وسلم".
ثم يتأخر نحو يمينه إلى الشرق قدر ذراع، فيسلم على أبي بكر رضي الله
عنه، فيقول :" السلام عليك يا أبا بكر صفي رسول الله، وثانيه في الغار، جزاك الله
عن أمة نبيه صلى الله عليه وسلم خيراً".
ثم يتأخر نحو اليمين قدر ذراع، فيسلم على عمر رضي الله عنه، فيقول :"
السلام عليك يا عمر، أعز الله بك الإسلام، جزاك الله عن أمة محمد صلى الله عليه
وسلم خيراً".
ثم يرجع قدر نصف ذراع فيقول :" السلام عليكما يا ضجيعي رسول الله
ورفيقيه ووزيريه ومشيريه والمعاونين له على القيام في الدين، القائمين بعده بمصالح
المسلمين، جزاكما الله أحسن الجزاء".
ثم يعود إلى رأس قبر النبي صلى الله عليه وسلم، في زاوية الحجرة
المسورة، ويستقبل القبلة، ويحمد الله تعالى ويمجده، ويدعو لنفسه بما أهمه وما أحبه،
ولوالديه، ولمن شاء من أقاربه، وأشياخه إخوانه وسائر المسلمين، ويبتدئ بقوله :
اللهم إنك قلت وقولك الحق :{ ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله،
واستغفر لهم الرسول، لوجدوا الله تواباً رحيماً} وقد جئناك سامعين قولك، طائعين
أمرك، مستشفين بنبيك، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في
قلوبنا غلاً للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة
حسنة وقنا عذاب النار، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله
رب العالمين.
ثم يأتي الروضة، فيكثر فيها من الدعاء، والصلاة، فقد ثبت في الصحيحين عن
أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال :" ما بين قبري
ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي" ويقف عند المنبر
ويدعو.
ثم يأتي اسطوانة أبي لبابة التي ربط نفسه بها حتى تاب الله عليه، وهي
بين القبر والمنبر، فيصلي ركعتين ويتوب إلى الله ويدعو بما شاء. ثم يأتي الأسطوانة
الحنانة التي فيها بقية الجذع الذي حن إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين تركه، وخطب
على المنبر، حتى نزل، فاحتضنه، فسكن.
8- لا يجوز أن يطاف بقبر النبي صلى الله عليه وسلم، ويكره مسحه باليد
وتقبيله، بل الأدب أن يبعد عنه كما يبعد منه لو حضر في حياته صلى الله عليه
وسلم.
9- ينبغي له مدة إقامته بالمدينة أن يصلي الصلوات كلها بمسجد رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وينبغي له أن ينوي الاعتكاف فيه، كما ينويه في المسجد الحرام. وإذا
أراد وداع المدينة صلى ركعتين وقال: " اللهم لا تجعله آخر العهد بحرم رسولك، وسهل
لي العود إلى الحرمين سهلة، وارزقني العفو والعافية في الآخرة والدنيا، وردنا إليه
سالمين غانمين".
10- كره مالك رحمة الله لأهل المدينة كلما دخل أحدهم المسجد وخرج الوقوف
بالقبر، قال: وإنما ذلك للغرباء، أو لمن قدم من أهل المدينة من سفر أو خرج إلى سفر
أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فيصلي عليه ويدعو له ولأبي بكر وعمر رضي
الله عنهما.