التسميات

الموسيقى الصامتة

Our sponsors

‏إظهار الرسائل ذات التسميات الشبهات والرد عليها. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الشبهات والرد عليها. إظهار كافة الرسائل

31‏/12‏/2014

شبهات في مصطلح الحديث






شبهات في مصطلح الحديث

  • أولاً: تدوين الحديث وأثره في الفقه
  • ثانياً: التدوين وأثره في صحة الحديث
  • ثالثاً: المصطلح بين الشكل وبين المضمون
  • رابعاً: منهج المحدثين في حقل تطبيقه 


      إن بعض الناس ممن لم يتمعن منهج المحدثين وأعمالهم العلمية القيمة تصور هذا المنهج النقدي تصوراً شائها يقلب حقيقته، ويغير الواقع تغييراً يدعو للنقد والاعتراض. وهو فيما يبدو ما وقع فيه كثير من المستشرقين الذين كتبوا عن هذا العلم، وإذا بهم ينتقدون عمل المحدثين ويطعنون فيه بمطاعن شاعت بينهم، وإن كان قد حمل رايتها أحد كبرائهم مثل جولد تسيهر المستشرق المجري اليهودي، الذي فاق غيره، حتى (( يعتبر الدارسون- أي من المستشرقين واتباعهم - ما توصل إليه في هذا الصدد نتائج حاسمة على وجه العموم، وكان حسبهم عند التعرض للقضايا الأساسية والتفصيلات الجزئية أن يحيلوا على نتائج جولد تسيهر)) (1).
_________________________
1.     قرر ذلك فؤاد سيزكين في بحث كتابه الحديث من كتابة "تاريخ التراث العربي": 1: 1: 225. والاستاذ سيزكين تلقى
عن المستشرقين مدة طويلة وعرف أحوالهم واطلع على أبحاثهم.
نقول هذا ونحن نحسن الظن، ولا نفترض أن ثمة في الصدور نزعة تنزع بأصحابها لتوجيه هذا الطعن، أو أية عوامل أخرى تدفع بعضهم إلى ذلك (1).
      والحقيقة أننا ما كنا لنعير شبهات هؤلاء القوم اهتمامنا، ولا نوليهم إشارة أبداً لولا أننا وجدنا من بني جلدتنا أتباعاً ومنبهرين يعملون لنشر أفكارهم، ويرددون مقالاتهم.
_____________________
1.     بَيّن الأستاذ الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله أن قسماً كبيراً من المستشرقين يعمل في دوائر استخبارات وزارات
الخارجية للدول الأجنبية. انظر كتابة " السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي: "21-28.

أولاً: تدوين الحديث وأثره في الفقه
      وهي شبهة شائعة حتى أصبحت كأنها مسلمة يلقيها بعض المتخصصين في الدراسات الفقهية على طلاب الجامعات يزعم أن تدوين الحديث تأخر عن تدوين الفقه وانتشار المذاهب الفقهية، وهو بزعمه الأمر الذي أدى إلى الخلاف بين الفقهاء، بل إن بعض من حمل هذه الفكرة من المتمجهدين قد زاد على ذلك وراح يبالغ إلى درجة توهم البعد بين بعض المذاهب الفقهية المعتمدة وبين السنة النبوية..!!.
      وهذه الشبهة من أصلها قول من أبعد النجعة عن الحقيقة، وعمد إلى المبالغة في تضخيم الأثر المتوهم لتأخر تدوين الحديث المزعوم.
والحقيقة التاريخية تثبت خلاف ما ادعاه هؤلاء، وذلك لما نقدمه فيما يلي:
1-أن حفظ الحديث قد توفر لدى الصحابة رضوان الله عليهم بأقوى ما يكون، وكان جماعة من الصحابة على إحاطة بجملة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وجد كل صقع وقطر من لأقطار من يؤدي بلاغ الحديث بجملته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصحابة ثم من التابعين وهكذا، ناهيك عن حفظهم للقرآن واعتنائهم بدرسه والتفقه فيه، وهو الأصل الأول في التشريع، فكانوا بذلك بغنى عن التدوين لما وعته صدورهم من العلم.
2- ما سبق أن ذكرناه من تحقق التدوين منذ عهده صلى الله عليه وسلم، وهو على كل حال يدل على أن الحديث حظى من التدوين والنشر بما لم يحظ به الفقه إلا بعد عهد.
      3- أن تدوين الفقه بدأ في ضمن تدوين الحديث، حيث جمعت المصنفات والموطآت الأحاديث المرفوعة والآثار الموقوفة والمقطوعة. فالحقيقة أن العكس هو الصواب، وهو أن تدوين الحديث سبق تدوين الفقه، وانتشار المذاهب.
      4- أن أسباب الخلاف بين الفقهاء ترجع في حقيقتها إلى أمور جوهرية أوسع وأبعد مدى بكثير جداً من غيبة حديث أو رواية عن الفقيه، ولو استقصينا المسائل التي وقع فيها الخلاف بسبب ذلك لكانت مسائل يسيرة من أبواب الفقه، كثير منها في الآداب والمستحبات، أما سائر المسائل الخلافية فيرجع الخلاف فيها إلى أسباب جوهرية أخرى تتصل بطبيعة تلك المسائل الاجتهادية التي من شأنها ومن سنة الله أن تختلف فيها الفقاهات والأفهام، سواء في ذلك قوانين الشريعة الإسلامية، والقوانين الوضعية، كما هو معلوم لمن ألم بأوضاع التطبيقات القانونية.
وقد وقع الخلاف في عهده -صلى الله عليه وسلم- بين الصحابة في نص واحد وجهه إليهم جميعهم يوم بني قريظة ولم يعنف صلى الله عليه وسلم أحداً من الفريقين، وها هي ذي المصادر الإسلامية فيها الكثير مما يرويه الفقيه من حديث صحيح لا شك في صحته عنده ثم يخالف مادل عليه ظاهر الحديث لقيام دليل آخر عنده على خلافه، أو لأن له فهماً في النص غير الفهم الذي وقع لغيره، أو غير ذلك من الأسباب التي يطول شرحها، ((وموطأ مالك)) مثال ظاهر لذلك، فقد روى فيه أحاديث كثيرة، ولم يعمل بظاهرها.
هذا كله وغيره كثير من الوجوه تبطل ادعاء تأخر تدوين الحديث عن تدوين الفقه، وتبطل زعم أن ذلك التأخر كان منشأ تفرق المذاهب الإسلامية الفقهية.

ثانياً: التدوين وأثره في صحة الحديث
      هذه دعوى اخترعها بعض غلاة المستشرقين من قديم، وأقام بناءها على وهم فاسد.
      يقول هذا الزعم: أن الحديث بقي مائتي سنة غير مكتوب، ثم بعد هذه المدة الطويلة قرر المحدثون جمع الحديث، وصاروا يأخذون عمن سمعوا الأحاديث، فصار هؤلاء يقول الواحد منهم: سمعت فلاناً يقول سمعت فلاناً عن النبي صلى الله عليه وسلم.
      لكن لما أن الفتنة أدت إلى ظهور الانقسامات والفرق السياسية فقد قامت بعض الفرق بوضع أحاديث مزورة حتى تثبت أنها على حق.
      وقد قام علماء السنة بدراسة أقسام الحديث ونوعوه إلى أقسام كثيرة جداً، وعلى هذا يصعب الحكم بأن هذا الحديث صحيح أو هذا الحديث موضوع.
      وقد سبق لنا في بحوث كتابة الحديث، وتأريخ الإسناد وشروط الرواة، التحقيق الذي يغني عن نقاش هذا الزعم، فنكتفي بهذه الخلاصات للرد عليه هنا:
      1- أن تدوين الحديث قد بدأ منذ العهد الأول في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وشمل قسماً كبيراً من الحديث.
وننه هنا ما يجده المطالع للكتب المؤلفة في رواة الحديث من نصوص تاريخية مبثوثة في تراجم هؤلاء الرواة تثبت كتابتهم للحديث بصورة واسعة جداً تدل على انتشار التدوين وكثرته البالغة، حتى لقد يقع في ظن الباحث أن الحديث قد دُوِّنَ جميعُه منذ عهده المبكر (1).
      2- إن تصنيف الحديث على الأبواب في المصنفات والجوامع مرحلة متطورة متقدمة كثيراً في كتابة الحديث، وقد تم ذلك قبل سنة 200 للهجرة بكثير، بل أنه قد تم في أوائل القرن الثاني، بين سنة 120-130هـ(2). بدليل الواقع الذي يحدثنا عن ذلك، فهناك جملة من هذه الكتب مات مصنفوها في منتصف المئة الثانية، مثل جامع معمر بن راشد (154) وجامع سفيان الثوري (161) وهشام بن حسان (148) وابن جريج (150) وغيرها كثير.
_______________
1.     انظر على سبيل المثال فؤاد سيزكين في " تاريخ التراث العربي: 1:1: 231 وما بعد، وفيه نقول هامة وتتبع جيد.
2.     كما حدده أبو طالب المكي في قوت القلوب: 1 : 350 وانظر تاريخ التراث العربي: 1: 229 .

      وقد وجد العلماء بعض هذه الجوامع، ويجري الآن تحقيق جامع معمر بن راشد في الهند، ليكون إخراجه شاهد حق ودليل صدق على ما بيناه في هذه المسألة.
      3- إن علماء الحديث وضعوا شرطاً لقبول الحديث تكفل نقله عبر الأجيال بأمانة وضبط، حتى يُؤدَّى كمت سُمِعَ من رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أوضحنا من شروط الراوي التي توفر فيه غاية الصدق لما اجتمع فيه من الدوافع الدينية والاجتماعية والنفسية، مع الإدراك التام لتصرفاته وتحمل المسؤلية، كما أنها توفر فيه قوة الحفظ والضبط بصدره أو بكتابه أو بهما معاً مما يمكنه من استحضار الحديث وأدائه كما سمعه. وكما أوضحناه من شروط الصحيح والحسن التي تكفل ثقة الرواة ثم سلامة تناقل الحديث بين حلقات الإسناد وسلامته من القوادح الخفية. ثم بيناه من دقة تطبيق المحدثين لهذه الشروط في الحكم على الحديث بالضعف لمجرد فقد الدليل على صحته، من غير أن ينتظروا قيام دليل مضادً له.
      4- إن علماء الحديث لم يكتفوا بهذا، بل تنبهوا إلى عوامل في الرواية المكتوبة لم يتنبه إليها هؤلاء المتطفلون بالاقتراح عليهم، فقد اشترط المحدثون في الرواية المكتوبة شروط الحديث الصحيح، لذلك نجد على مخطوطات الحديث تسلسل سند الكتاب من راو إلى آخر حتى يبلغ مؤلفه، ونجد عليها اثبات السماعات وخط المؤلف أو الشيخ المسمع الذي يروي النسخة عن نسخة المؤلف أو عن فرعها..
      فكان منهج المحدثين بذلك أقوى وأحكم، وأعظم حيطة من أي منهج في تمحيص الروايات، والمستندات المكتوبة.
      5- إن البحث عن الإسناد لم ينتظر مئتي سنة كما وقع في كلام الزاعم، بل فتش الصحابة عن الإسناد منذ العهد الأول حين وقعت الفتنة سنة 35 هجرية، لصيانة الحديث من الدس.
      وقد ضرب المسلمون للعالم المثل الفريد في التفتيش عن الأسانيد، حيث رحلوا إلى شتى الآفاق بحثاً عنها، واختباراً لرواة الحديث، حتى اعتبرت الرحلة شرطاً أساسياً لتكوين المحدث.
      6- أن المسلمين _كما تبين مما سبق. لم يغفلوا عما اقترفه الوضَّاعون وأهل البدع والمذاهب السياسية من الاختلاق في الحديث، بل بادروا لمحاربة ذلك باتباع الوسائل العلمية الكافلة لصيانة السنة في قيود رواية المبتدع، ولبيان أسباب الوضع وعلامات الحديث الموضوع.
      7- إن هذا التنوع الكثير للحديث ليس بسبب أحواله من حيث القبول أو الرد فقط، بل إنه يتناول إضافة إلى ذلك أبحاث رواته وأسانيده ومتونه، وهو دليل على عمق نظر المحدثين ودقة بحثهم، فكان على هذا القائل أن يسلم لهم، كما أننا نستدل على دقة العلم وإحكام أهله له بتقاسيمه وتنويعاته. بل لا يُعد علماً ما ليس فيه تقسيم أقسام وتنويع أنواع؟!!
      8- إن علماء الحديث قد أفردوا لكل نوع ممن الحديث وعلومه كتباً تجمع أفراد هذا النوع من أحاديث، أو أسانيد أو رجال، فلا يصلح بعد هذا أن يقول قائل: كيف نعرف هذا الحديث أنه صحيح من بين تلك الأنواع.
      ونحن نقول له: كذلك وقع التنوع في كل علم وكل فن، فلو قال إنسان: كيف نحكم على هذا المرض بأنه كذا وأنواع الأمراض تعد بالمئات، وكيف نبين هذا المركب الكيمائي من بين المركبات التي تعد باللآلاف لأحلناه على الخبراء المتخصصين ليأخذ منهم الجواب الشافي، والحل المقنع.
      فكما يرجع في الطب غلى الأطباء، وفي الهندسة إلى المهندسين وفي الكيمياء غلى علمائها، والصيدلة غلى أصحابها... كذلك فارجع في الحديث على علماء الشرع المتخصصين في هذا العلم لأخذ البيان الجلي المدعم بالأدلة القاطعة عن كل حديث تريده وتود معرفة حاله.

ثالثاً: المصطلح بين الشكل وبين المضمون
يقول المستشرقون:
      (( .. إن وجهات النظر التي تبناها النقد الإسلامي للسنة لم يكن بإمكانها أن تساهم في تشذيب المادة المحترمة للأحاديث من الزيادات التي هي أكثر ظهوراً إلا في مقياس محدود، ففي النقد الإسلامي للسنة تهيمن النزعة الشكلية في القاعدة التي انطلق منها هذا العلم.
      والعوامل الشكلية هي بصورة خاصة العوامل الحاسمية للحكم على استقامة وأصالة الحديث، أو كما يقول المسلمون: على صحة الحديث، وتختبر الأحاديث بحسب شكلها الخارجي فقط. ثم إن الحكم الذي يمس قيمة مضمونها يتعلق بالقرار الذي يعطونه حول تصحيح سلسلة الرواة. عندما ينتصر إسناد في امتحان هذا النقد الشكلي ويكون قد نقل به فكرة مستحيله ملوثة بتناقضات خارجية وداخلية وعندما يقدم هذا الإسناد سلسلة غير منقطعة لشيوخ جديرين بالثقة تماماً وعندما يبرهن على أن هؤلاء الأشخاص كان في إمكانهم أن يكونوا على صلة فيما بينهم فإن الحديث يعتبر عند ذلك صحيحاً، ولا يبادرن أحد لأن يقول: بما أن المتن يتضمن استحالة منطقية أو تاريخية فإني أشك في أن يكون الإسناد منتظماً)).
      هذا أخطر إشكالات المستشرقين وأشهرها، وإن كان أشدها ضعفاً وأوضحها سقوطاً، لكنهم عنوا بتسديده نحو قواعد المصطلح ليظهروا هذا العلم بمظهر العلم الناقص الذي يرى شيئاً شكلياً هو ما أسموه " النقد الخارجي" أي نقد السند، على حين أنه يعشو بصره عن أشياء خطيرة في النقد، حيث إنه بزعمهم لا يعتني بنقد المتن الذي يسمونه "النقد الداخلي"، وقد سرت العدوى بهذا الظن الخاطىء إلى بعض كتابنا ومفكرينا مثل الدكتور أحمد أمين (1)، والدكتور أحمد عبد المنعم البهي (2)، فقد قرر الدكتوران هذا الطعن في الحديث، بدافع من التقليد للمستشرقين وحب التظاهر على الناس بمعرفة شيء خفي بزعمهم عن الأئمة الكبار، من حيث إن هؤلاء المقلدة هم ومتبوعوهم ليسوا من علم المحدثين في ذلك المكان، ومثَل الدكتورين في مقاليهما كمثل تلميذ يتلقف ما يسمعه ثم يردده دون أن يدرك ما فيه من عظيم البهتان.
________________
1.     في كتاب "ضحى الإسلام" :2: 130 و 131.
2.   في مقالة المنشور في مجلة العربي الكويتية عدد / 89/ص13،    

ومن الدليل على ما قلناه:
      1- إن الدكتور أحمد أمين ذكر أنهم قسموا الحديث بحسب النقد الخارجي إلى صحيح وحسن وضعيف وشاذ.. الخ. والحقيقة التي نعرفها منذ حداثة عهدنا بعلم الحديث أنهم قسموا الحديث بحسب النقد الداخلي والخارجي إلى الأقسام التي ذكرها، لا بحسب النقد الخارجي فقط.
      بيان ذلك أنك تجد من شرط الحديث الصحيح والحسن أن لا يكون شاذاً ولا معلا، ثم نقرأ كلام القوم وإذا بهم يقسمون الشذوذ إلى شذوذ في المتن وشذوذ في السند، كذلك يقولون: إن العلة قد تكون في المتن كما قد تكون في السند، فلو كان ناقد المحدثين اطلع على مؤلف يسير في علم الحديث أكان يجترىء على أن يقول ما قال، بل إنا نكتفي منه أن ينظر نظرة في تعريف علوم الحديث إذاً لوجده علماً يبحث في أموال السند والمتن، لكنه سقط فيما عابه بزعمه على المحدثين بسبب تقليده للمستشرقين حيث إنه لم يتثبت ولم يعتبر ظروف المستشرقين التي هي أكبر دافع يدفع لاختلاق المطاعن، فحق عليه المثل " رمتني بدائها وانسلت".
2- إن المحدثين قد احتاطوا من النظرة الشكلية حيث قرروا قاعدة اتفقوا عليها وهي أنه لا تلازم بين صحة السند وصحة المتن، وبالعكس أيضاً فإنه لا تلازم بين ضعيف السند وضعف المتن، وهذا واضح في قواعد هذا العلم مُسَلَّم به لا يحتاج إلى الاستكثار من النقول والتطويل بها وهو يدل بما لا يدع مجالاً للشك على أن المحدثين النقاد قد احتاطوا لكل احتمال وأعدوا له العدة له والعدة العلمية في منهج موضوعي متعمق بعيد البعد عن الشكلية والانخداع بالمظاهر .
      3- إن النقد الداخلي كان أول علوم الحديث وجوداً حين كان الناس على العدالة، وذلك في عصر الصحابة والعجيب أن الدكتور أحمد البهي قال في آخر مقالته التي أومأنا إليها: " وقد ذكر العلماء وجوهاً في رد المتن على معناه مع صحة السند.."، ومثَّل لذلك بقصة فاطمة بنت قيس، وقصة علي بن أبي طالب حين رد حديث معقل ابن سنان في مهر من مات عنها زوجها ولم يدخل بها ولم يسم لها مهراً فقال علي رضي الله عنه: "لا ندع كتاب ربنا لقول اعرابي بوّال على عقبيه. الأمر الذي يبين أن الكاتب غلب عليه التقليد فجاءت مقالته متناقضة ينسف آخرها أولها!!، وتثبت هي نفسها أن النقد الداخلي قد عنى به المحدثون منذ قديم العهد برواية حديث النبي صلى الله عليه وسلم. بل إنا نجد أن نقد المتن يؤدي إلى الحكم على الحديث بأشد الأحكام وهو الوضع، حيث قرروا أن الوضع قد يعرف من النظر في المروي. كما سبق أن أوضحنا.
      4- إن فكرة الاعتماد على النظر في المتن وحده ليست من اختراع المستشرقين، بل ان تجربتها قد سبقت في تاريخ المسلمين القديم على أيدي أناس جعلوا الرأي وحده يتحكم في المتون سلباً وإيجاباً نفياً وإثباتاً، وقد أسفرت التجربة عن أسوإ النتائج وأغرب التناقضات.
      لقد استحسن بعض المتزهدين الجهلة وضع الحديث في الترغيب والترهيب وقالوا: "نحن نكذب له"، والوعيد انما جاء لمن "كذب عليّ"، فجعلوا هذا العبث في النص الصريح ذريعة للاختلاق على النبي صلى الله عليه وسلم، وكأنهم جهلوا أن فعل "كذب عليه" معناه ألصق به ما لم يقله، سواء أكان له أم طاعناً فيه، وهكذا أدى التصور الخاطىء بهذه الطائفة إلى أن تتصور أن كل كلام صحيح فإنه قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم _فصاروا يسندون ما يشاؤون إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم_ وهو منه ومنهم براء.
      وفي الطرف المقابل نهض أناس لرفض المتون الصحيحة لمجرد بعدها عن خيالاتهم ومألوفاتهم، كما فعل بعض المبتدعة من المعتزلة وغيرهم، وإذا بهم يبلغون من الاسفاف مبلغاً عظيماً، حيث راحوا يحتكمون إلى المشاهدات المادية المعتادة يقيسون عليها ما ورد من النصوص في عوالم مغيبة غير مادية، كالاحاديث في الملائكة أو الجن ينكرونها أو يتأولونها تأويلات هزيلة، حتى خرجوا بذلك عن نصوص الإسلام القطعية، بل عن الأديان السماوية، فلو رام أحدهم أن ينتقل إلى النصرانية لما وجد له فيها متنقلاً، أو إلى اليهودية لم يجد متسعاً..‍‍.
وهذا كله يثبت أبلغ إثبات أن نقد المتون ليس له بمفرده تلك الجدوى إلا إذا كان في ضمن الإطار العام لنظرية النقد الشامل الذي سلكه المحدثون وانتهوه.
      5- إن النقد الخارجي للأحاديث أي نقد الأسانيد الذي عابه العائبون وسموه شكلياً يتصل اتصالاً وثيقاً بالنقد الداخلي أي نقد المتون، لأن إثبات ثقة الرواة وكونهم جديرين بالثقة هذا الذي استخف به تسيهر وأشياعه عملاً شكلياً سطحياً، بل انه مرتبط بالمتن ارتباطاً قوياً، وذلك لأن توثيق الراوي لا يثبت بمجرد عدالته وصدقه بل لا بد من اختيار مرويات بعرضها على روايات الثقات، فان وجدنا رواياتهم وافقة ولو من حيث المعنى لرواياتهم أو موافقة لها في الأغلب والمخالفة نادرة عرفنا حينئذ كونه ضابطاً ثبتا.
      وهذه كتب الجرح والتعديل ملأى بالجرح لرواية المناكير والأباطيل نسوق أمثلة لذلك من كتاب المغني في الضعفاء للإمام الذهبي:
      -إبراهيم بن زكريا الواسطي. قال ابن عدي: حدث بالبواطيل. وقال أبو حاتم: حديثه منكر.
- إبراهيم بن زياد القرشي، عن خُصَيْفٍ، وعنه محمد بن بكار الريان بخبر منكر جداً، ولا يدري من هو؟.
- إبراهيم بن زيد الأسلمي، عن مالك، وهاه ابن حبان والدارقطني، وله عن مالك خبر كذب.
      - إبراهيم بن سالم النيسابوري. قال ابن عدي: له مناكير.
      - إبراهيم بن سعيد المديني، منكر الحديث، ولا يكاد يعرف.
      - إبراهيم بن سَلْمٍ، قال ابن عدي: منكر الحديث لا يعرف.
      فهذه ست تراجم اخترناها من عشرة فقط من كتاب مختصر جداً في نقد الرواة يأتي جرحهم بنقد مروياتهم. وذلك يوضح قوة ارتباط نقد السند بالمتن وعلاقته بمرويات الرواة علاقة وشيجة لا يصح أن يدور حولها جدال.
      6- إن ظهور الفِرَق دعا علماء الأمة إلى تحري أحوال الرواة ودراستها من كافة الوجوه، ولا سيما بيئة الراوي ومذهبه، حتى إنهم لم يقبلوا رواية من يدعو لبدعة ولو كان الحديث الذي يرويه غير متعلق ببدعته، فقد كانوا في الاحتياط أبلغ مما يريده المتطفلون عليم.
      وأننا ندعو الناقدين كلهم أن يأتوا بحديث من كتب السنة الأصول يدل على وضعه ما ذكروه من عامل سياسي كدعم بني أمية أو غيرهم، أو عامل بيئة أو غير ذلك. 
      اللهم إلا يكون بعض هؤلاء الوالغين في علم المحدثين قد اطلع على بعض تلك الأحاديث في كتاب "الآليء المصنوعة في الأحاديث الموضوعة" للإمام السيوطي، أو في كتاب "تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة" للحافظ أبي الحسن بن عراق فحسب بما أوتي من السعة في علم الحديث أن هذه الكتب هي مصادر نقل السنة النبوية؟! فحق له أن يقول ما شاء له القول..!!
وحق للعقلاء المنصفين أن يقروا بحقيقة الجهود العظيمة والوسائل العلمية الدقيقة التي اتبعها المحدثون في خدمة الحديث.

رابعاً: منهج المحدثين في حقل تطبيقه
يقول تسيهر ومن يقلده:
(( والناقد المسلم يبقى بارداً أمام المناقضات للتاريخ وللعرف الاجتماعي ذات النوع الأكثر عامية ( يعني أنها مسفة جداً ) بشرط واحد هو أن يكون الإسناد بحسب القاعدة. والامتياز النبوي لمحمد هو وسيلة للتغلب على مثل هذه المشكلات)).
(( ونوضح هذه الخصوصية لنقد الحديث عند المسلمين بذكر مثال مأخوذ من حقل تطبيقه نفسه، فيوجد بين الفئات العديدة من الأحاديث المغرضة فئة نستطيع أن نسميها فئة (( أحاديث المذهب))، وهذه الأحاديث هي الأحاديث المختلقة في داخل نزعة مذهب علمي التي يقصد بها البرهنة على تفوق هذا المذهب في مقابل نزعة منافسة وأن يخلع شيئاً من الثقل والقوة على آرائها المذهبية. ولم تنتحل الأحاديث المغرضة بعدد كبير ضد البدع الاعتقادية فقط، بل إن الواضعين كانوا يدخلون النبي نفسه كحكم أعلى في الخلاف الذي يفصل بين علماء العراق وعلماء الحجاز، فللبرهنة على أن أبا حنيفة هو أفضل فقيه من فقهاء الشريعة الدينية اخترع تلامذته الحديث التالي: (( يكون في أمتي يوماً رجل يقال له أبو حنيفة وسيكون سراج الأمة )). وقد وجب أن يكون أبو هريرة الصحابي هو الصحابي الذي قد سمع هذا الحديث بشكل مباشر من فم النبي، ولم يجهدوا مطلقاً في أن يجعلوا الناس يصدقون بأن النبي قد ذكر فعلاً اسم العالم العراقي )).
انتهت الترجمة الحرفية لما قاله بورشيه مستخلصاً عن جولد تسيهر استاذ المستشرقين المتحاملين على الإسلام.
وقد كنت أتساءل عن المنهج الذي يريد هؤلاء الناس أن نأخذه عنهم كي نحسن نقد الروايات حتى عثرت عليه ظاهراً جلياً في مناقشاتهم لأهل الحديث، وظهر أوضح ما يكون في هذه الكلمة التي يتحدث فيها عن مثال تطبيقي من علم الحديث، فإذا منهجهم المنتظر منهج متهافت يقوم على التسرع في الحكم والمجازفة، بعيداً عن التحقيق والروية، حتى لقد أصاب هؤلاء الناقدون من أنفسهم المقاتل بطعنهم المفتعل في منهج المحدثين وتطبيقهم لقواعد الحديث.
1- إن المحدثين قد ذكروا ان من دلائل الوضع في الحديث مخالفة للوقائع الحسية المشاهدة، أو للتاريخ، وذلك أمر مفروغ منه في كتب المصطلح، مطبق على أوسع نطاق في نقد الأحاديث كما يشاهد في كتب الأحاديث الموضوعة.
      وهذه واقعة لطيفة لها دلالتها الهامة جرت مع الحافظ أبي بكر الخطيب البغدادي سنة 447، قال الذهبي في تذكرة الحفاظ: (( أظهر بعض اليهود كتاباً باسقاط النبي صلى الله عليه وسلم الجزية عن الخيابرة -يعني يهود خيبر-، وفيه شهادة الصحابة، فعرضه الوزير على أبي بكر؟ فقال: هذا مزَوَّر‍ قيل: من أين قلت هذا؟، قال: (( فيه شهادة معاوية وهو أسلم عام الفتح بعد خيبر، وفيه شهادة سعد بن معاذ، ومات قبل خيبر بسنتين )). فاستحسن الوزير ذلك منه ولم يقبل منهم ما في هذا الكتاب(1).
      فهذا الناقد المسلم لا يتردد لحظة ولا يتوقف عن الحكم ببطلان الوثيقة المزورة التي أسندها النبي صلى الله عليه وسلم أساتذة الإفك في العالم، وها نحن نجعل هذه التجربة التي خاضها أجداد تسيهر من قبلُ هديةً إليه تعبيراً عن الموقف البارد الذي يزعمه في حق النقاد المسلمين. ولا ندري إذا كان تسيهر وأمثاله لا يزالون بعد هذا يقولون: (( الناقد المسلم يبقى بارداً أمام المناقضات للتاريخ وللعرف الاجتماعية ذات النوع الأكثر عامية )). إذن فما الذي يمكن أن يعتبر موقفاً حامياً إلا ما يجب أن يراه على أيدي أحفاد البخاري ومسلم، وابن الصلاح والنووي، والعراقي والعسقلاني، في الأرض المقدسة، ولن يكون ذلك بعيداً بإذن الله تعالى.
      2- زعم أن الامتياز النبوي أي ادعاء كون الخبر المغيب أو الخارق للعادة معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم وسيلة للتغلب على التناقضات التاريخية في الأحاديث.
      وهذا القول منه غاية في المكابرة والبعد عن الحق، حيث أحال المعجزات وإنباء النبي صلى الله عليه وسلم عن الغيب إلى اختلاق الرواة عوضاً من أن يجعله هذا الإعجاز يعيد النظر في موقفه، كما فعل بعض المستشرقين حيث اعتنق الإسلام حين انزاحت عن بصائرهم غشاوة التعصب.
___________________
         (1) التذكرة: 1141، انظر طبقات الشافعية الكبرى: 4: 35، والاعلان بالتوبيخ للسخاوي: 10، والخطيب البغدادي للدكتور يوسف العش: 235.

والحقيقة أن أنباء الغيب المنقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم بالأسانيد الصحيحة الثابتة كثيرة تفوق درجة التواتر في جملتها، ويبلغ عدد كثير منها التواتر بمفرده، كالأحاديث الواردة في ظهور المسيح الدجال اليهودي وفي نزول المسيح عيسى بن مريم عليه السلام مما لا يسع أحداً إنكاره إلا أن ينكر عقله وحسه.
      وإذا كانت أنباء الغيب لا تقبل في زعم تسيهر فلا ندري لماذا يتعب نفسه في الطعن على الإسلام واصطناع البحث العلمي من أجل ذلك هو إنما يفعل ذلك لتشكيك المسلمين وتشتيتهم تمهيداً لتحقيق النبوءة المزعومة عن أرض الميعاد!!.
      على أن المسلمين لم يتلقوا أحاديث الخوارق وأنباء الغيب جزافا من غير تمييز، بل محصوها وفحصوها فحصاً دقيقاً ميزوا به الصواب من الخطأ والصدق من الكذب، وها هي ذي الأحاديث الكثيرة في ذم الأمويين وفي مدحهم وفي التنبيء ببعض الوقائع لهم تملأ بطون الكتب الخاصة بالأحاديث الموضوعة والتحذير منها، وها هي ذي أيضاً الأحاديث الساقطة في فضل العباس وفي التنبيء بدولة العباسيين والأحاديث فيهم مدحاً أو غير ذلك قد جمعت في كتب الموضاعات والضعيفات التالفة للتحذير منها.
      أرأيت لو كان المحدثون يودون إثبات المعجزات ولو بالتلفيق أفما كانوا يختارون من هذه الأحاديث ما فيه إنباء عن واقع مجرد بعيد عن المدح أو الذم على الأقل؟! فما لنا لا نجد لهذه الروايات ظلاً في كتب السنة المعتمدة؟! ولماذا نجد كتب الموضوعات تحذر من جملة كبيرة من أحاديث المعجزات والخوارق...؟!
3- إن الحديث الذي أورده على " أنه مأخوذ من حقل تطبيق هذا العلم نفسه" لهو نفسه برهان عظيم يثبت دقة نظر المحدثين، فانهم قد وسموا بالكذب رواية مأمون بن أحمد السلمي الهروي منذ الأيام التي ظهر فيها وطلع على الناس بهذا الحديث ونحوه، وكان منهم آنذاك عَصْرِيُّه الإمام أبو حاتم بن حبان البستي رحمه الله، كما نقل عنه الإمام الذهبي في ميزان الاعتدال.
وقد كنت فيما خلا من الزمن أتساءل عن هؤلاء الناقدين أن يكونوا اطلعوا في كتب الأحاديث الموضوعة والتالفة على بعض تلك الأحاديث التي يتذرعون بها فحسبوا بما أوتوا من السعة في علم الحديث أن هذه الكتب هي مصادر السنة النبوية؟! فقد- والله- وجدت ذلك واقعاً بهم أفحش وضع وأبينه سقوطاً حيث مخرقوا على العالم بحديث موضوع كذبه المحدثون ونفوه منذ اللحظة الأولى لصدوره من آفكه!.
      4- قوله: "ولم يجهدوا مطلقاً في أن يجعلوا الناس يصدقون بأن النبي قد ذكر فعلاً اسم العالم العراقي ".
      هذا قول مناقض للحقيقة وللواقع تماماً، حيث إن هذا الحديث قد استْتُنْكِر هو وأضرابه غاية الاستنكار من قبل العلماء كلهم ومن قبل العامة على حد سواء، حتى سقط رواية نفسه ولم يعد يسمع منه. أحد، وقد قال الحاكم في المدخل بعد أن أورد هذا الحديث: " ومثل هذه الأحاديث يشهد من رزقه الله أدنى معرفة بأنها موضوعه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم _".
      فهل يصدق بعد هذا من زعم أن الناس تلقوا الحديث بالقبول حتى إن الواضعين بزعمه الفاسد ورأيه الكاسد " لم يجهدوا مطلقاً في أن يجعلوا الناس يصدقونه"، أو أن الواقع هو عكس ذلك وأن الأمة جميعها قد رفضت هذا الحديث رفضاً باتاً قاطعاً منذ الوهلة الأولى لصدوره عن مزوره كما رفضت سائر الأكاذيب وتبرأت منها.
      5- إن هذا الحديث من أشهر الأحاديث الموضوعة، لكثرة ما نبه عليه العلماء في مختلف العصور في تصانيفهم الحديثية المشتهرة المتداولة بين الخاصة والعامة من كتب الموضوعات وكتب مصطلح الحديث وكتب الرجال:
      1-ذكره ابن حِبَان ( 354هـ) في كتابه الضعفاء وحذر منه كما ذكر الذهبي في الميزان.
      2-وذكره الحاكم ( 405هـ) في المدخل إلى كتاب الاكليل.
3-وذكره محمد بن طاهر المقدسي ( 507هـ) في تذكرة الموضوعات: 144.
4-وذكره الإمام عبد الرحمن بن الجوزي ( 597هـ) في الموضوعات الكبرى:2: 47-49
وقال: "حديث موضوع لعن الله واضعه".
5- والذهبي (748هـ) في ميزان الاعتدال.
6- والحافظ ابن حجر ( 852هـ) في لسان الميزان ج5 ص 8.
7- والسخاوي ( 902هـ) في فتح المغيث: 114.
8-و9- والسيوطي ( 911هـ) في تدريب الراوي : 181، والآليء المصنوعة: 1: 457.
10-والحافظ ابن عراق ( 963هـ) في تنزيه الشريعة : 2: 30.
11-و12- والشيخ علي القاري في شرح شرح النخبة: 128، والموضعات الكبرى: 76، وقال: "موضوع باتفاق المحدثين".
13- والشوكاني في الفوائد المجموعة: 420.
14- والأبياري في حاشيته نيل الأماني: 53.
15-والعلامة حسين خاطر في لقط الدرر: 73.
هذه خمسة عشر مرجعاً في أعصر متتالية منذ عصر الراوي الوضاع حتى عصرنا هذا، وفي حقول الحديث المتنوعة: حقل القواعد كالمدخل وتدريب الرواي، وحقل التطبيق الذي زعم الطاعن أنه يرجع إليه كالميزان وغيره من كتب الرجال، وكتب الموضوعات مثل كتاب ابن الجوزي والسيوطي وابن عراق، كل المصادر في شتى الحقول توضح كذب هذا الحديث وتفضح إفكه، وهي كلها بحمد الله مشهورة معروفة متداولة، ثم يأتي بعد ذلك من يزعم أنه يدين المحدثين من حقل تطبيقهم بأنهم يسيرون الأحاديث الموضوعات أو أنها تنطلي عليهم، على حين أنهم سيروا في الناس وأذاعوا في كل عصر ومصر في كل زمان ومكان التحذير من الأحاديث الموضوعة والتنبيه عليها بما في ذلك هذا الحديث نفسه الذي استشهد به الطاعن، حيث توالي المحدثون على التحذير منه في المصنفات المشهورة المتدوالة على مر العصور وكر الدهور. فهل لمنصف بعد ذلك أن يقبل شيئاً من أمثال هذا المستشرق، أو يعول على دعواهم التجرد والموضوعية..؟!.

      من مآخذنا على المستشرقين:
      لقد اسفرت المناقشة العلمية الموضوعية لمن انتقد المحدثين عن فشلهم في مطاعنهم التي وجهت إلى منهج المحدثين النقدي، بل إنها زادته قوة وثباتاً، على حين كشفت أهداف الطاعنين وزيف بهارجهم المصطنعة،وكشفت اختلال منهجهم العلمي من وجوه كثيرة نلخص منها ههنا:
1- وضع النصوص في غير موضعها، وتحميلها مالا تطيقه ألفاظها ولا يستمد من معانيها.
2- اعتمادهم على نصوص مفردة متقطعة عما ورد في موضوعها مما يوضح المراد منها ويبينه، وذلك كثير في أبحاثهم. ومنه استدلال تسيهر على أن تصنيف الحديث تأخر إلى القرن الثالث بما ورد عن الإمام أحمد أنه قال في سعيد بن أبي عَرُوبَة ( 156هـ): (( هو أول من صنف الأبواب بالبصرة... لم يكن له كتاب إنما كان يحفظ" فاستدل بقوله:"لم يكن له كتاب" على أنه لم يؤلف كتاباً )). مع أن المحدثين يستعملون هذا في الدلالة على أن المحدث حافظ متين الحفظ لا يعتمد على الكتاب في روايته للحديث. وهذا لا يدل على أن المحدث لم يصنف كتاباً من محفوظاته، وهو يصرح في أول كلمته بأنه صنف، والشواهد على ذلك كثيرة في ترجمة سعيد من كتب الرجال.
3- أنهم يعولون على مصادر ليست في مستوى البحث العلمي، مثل كتاب "الأغاني" لأبي
الفرج الأصبهاني، وهو ليس كتاباً علمياً، ولا كتاب حديث، إنما يعتمد عليه في الأدب والفكاهات، ثم هو صاحب بدعة تحمله على الطعن في أئمة الإسلام، ومع ذلك فلم يبال ناقد منهج المحدثين أن يستشهد به في الحط من قدر إمام جليل، كالإمام مالك بن أنس.
4-أنهم يوردون مقدمات جزئية ضعيفة ثم يبنون عليها نتائج ضخمة فضفاضة لا تناسب تلك المقدمات ولا تنتج منها.
      ونتخذ هنا حديث الهروي المختلق في ذم الشافعي ومدح أبي حنيفة مثالاً لذلك.
هذا الحديث زعم الناقد أنه درج في الناس وغفل المحدثون عنه، بينما هو أشهر في بيان وضعه من نار على عَلم. ولو فرضنا أن باحثاً وجد حديثاً ضعيفاً جاز على بعض المحدثين فهل يدل ذلك على فضل منهج النقد من أساسه؟ كلا! فإن القانون كثيراً ما يكون سليماً ثم تأتي الآفة من تصرف بعض العاملين به أو من ذهوله. فهذا لو تحقق إنما يكون سهواً من المحدث الذي جاز عليه الحديث، وأي علم في الدنيا لم يتعرض عالم من علمائه للنقد في بعض بحثه، ثم لم يكن ذلك مسقطاً لذلك العلم ولا لذلك العالم ولا لذلك العالم، إلا إذا كثر منه ذلك فانه تكون أخطاؤه محسوبة عليه تضعف الثقة به، ويبقى بنيان العلم شامخاً.
      5- إغفال الحقائق التي تخالف استنتاجاتهم وتبطلها. ومن ذلك أن جولد تسيهر حكم بالوضع على الرواية الصحيحة: " أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى ابن حزم أن يدون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
      قال تسيهر: (( إن هذا الخبر بعينه فيه نظر، فلم يرو عن مالك إلا في رواية واحدة من روايات الموطأ هي رواية الشيباني، وقد تلقف هذا الخبر الواحد علماء الحديث المتأخرون فكان منطلقاً لهم، ورَوَّجوا له، وهذا الخبر ليس إلا تعبيراً عن الرأي الحسن السائد حول الخليفة الورع وحبه للسنة)) (1).
         قال الأستاذ فواد سيزكين يتعقب ذلك (2):    
      (( ولكن لا يجوز لنا أن نبادر فنزعم أن هذا الخبر الذي ورد في الموطأ برواية الشيباني تلميذ مالك لا يعكس إلا حسن رأي المتأخرين [ في عمر ]، فليست كل روايات الموطأ بين أيدينا فنحكم بعدم ورود هذا الخبر إلا في رواية واحدة، وفوق هذا فجولد تسيهر يعلم أن هذا الخبر وارد كذلك في سنن الدرامي هذا وقد ذكره كل من ابن سعد والبخاري!!)) . اهـ.
      على أنه لو سلم لتسيهر دعواه أن التفرد بالشيء يبطله فإنه يؤدي إلى بطلان أمور كثيرة أتى بها في كتبه وأبحاثه هي لباب مقاصده فيها، فهل يقبل أن ينسحب حكمه هذا عليه؟!.
__________________________
1.    جولد تسيهر. Goldzihel , Mup, Stud. 11, 211
2.     في كتاب تاريخ التراث العربي:1 : 1: 226.

6- يقول الأستاذ فؤاد سيزكين: "هذا ونرى لزاماً علينا أن ننه إلى أن جولد تسيهر لم يدرس كتب علم أصول الحديث دراسة شاملة رغم أنه عرف قسماً منها كان ما يزال مخطوطاً في ذلك الوقت. وفوق هذا فيبدو لنا أنه لم ينظر رغم كثرة مصادره إلى بعض المعلومات في سياقها وفي ضوء ظروفها، ويبدو لنا كذلك أنه لم يصب في فهم المواضع التي قد تعطي لأول وهلة دلالة تختلف عن معناه الحقيقي اختلافاً أساسياً(1).
ويقول سيزكين أيضاَ: "أن جولد تسيهر على تضلعه في اللغة العربية قد أساء فهم بعض المعلومات الواردة في كتب الحديث وضرب بهذا منذ البداية في اتجاه خاطىء" (2).
ونحن لا نتعرض لواقع الخطأ في فهم النصوص أو في الأخذ المقتطع للنص عما يكمله أو النقل المحرف، ولا نود الخوض في اسباب ذلك ودوافعه، لكن نجد أنه لزام علينا إزاء ذلك أن نصرح بأن هذا الواقع يجعلنا عاجزين عجزاً تاماً كاملاً عن الاعتماد على شيء من نظريات المستشرقين وأبحاثهم هم وأتباعهم الذين يعتمدون عليهم.

ونسجل في النهاية هذه النتائج العامة في هذا العلم العظيم:
1- أهمية الهدف الجليل الذي نشأ من أجله علم مصطلح الحديث، أو علوم الحديث، وهو صيانة الحديث النبوي الذي هو أعظم المصادر الإسلامية بعد كتاب الله.
2- أن الأمة الإسلامية قد عُنِيَت بتحقيق هذا الهدف منذ أول عهدها بالرواية، وأهم قوانين الرواية التي اتبعوها.
3- أن القواعد العلوم الحديث، قواعد نقد شاملة تدرس جوانب الحديث كلها دراسة تامة دقيقة، وإن كانت في مصادر هذا العلم مفرقة فيما يبدو.
4- إن قواعد علوم الحديث ترتبط في مجموعها برباط وحدة الهدف ارتباطاً يشكل منها نظرية نقدية ومنهجاً علمياً كاملاً، يقوم على أساس بَدَهي مُسلَّم به تتفرع عنه أصول البحث النقدي.
وإذا كان السابقون لم يقوموا بمثل تلك الصياغة في تآليفهم فان تعليقاتهم على فوائد كل نوع من هذا العلم وعلى قواعده التي أوضحناها في مواطنها توضح تعلقهم بها ووضوح أساسها لديهم، وقد جاء كتابنا هذا يعبر عن هذا المنهج النقدي المتكامل الشامل تعبيراً نرجو أن يكون قوياً واضحاً موفقاً بفضله تعالى.
_________________
1.     المرجع السابق.
2.     المرجع السابق: 225.

      5- أن جهود المحدثين في حقل تطبيق هذا المنهج النقدي العظيم قد بلغت الغاية في الوصول إلى الهدف المنشود، وهذه تصانيفهم الكثيرة في أنواع الحديث، ما اختص منها بالصحيح، وما جمع إليه الضعيف، أو اختص بالموضوع، أو بنوع مستقل من علوم الحديث الأخرى كالمرسل والمدرج،.. هذه التصانيف برهان عملي على مدى ما بلغوه من العناية في تطبيق هذا المنهج حتى أدّوْا إلينا تراث النبوة صافياً نقياً.
      ولقد كان حقاً ما شهد به العلماء من تحقيق هذا الغرض العظيم. فقال عبد الله بن المبارك حين سئل: هذه الأحاديث الموضوعية؟ فقال: "تعيش لها الجهابذة، إنا نحن نزلنا الذِّكر وإنا له لحافظون"..
      وكان حقاً ما قال ابن خزيمة: (( ما دام أبو حامد بن الشرقي في الأحياء لا يتهيأ لأحد أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم )). وقال أيضاً : (( حياة أبي حامد بن الشرقي تحجب بين الناس وبين الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم)) .
      وقال الدارقطني: (( يا أهل بغداد لا تظنوا أن أحداً يقدر يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا حي)).
      ورحم الله الإمام الثوري حيث قال: (( الملائكة حراس السماء، ,اصحاب الحديث حراس الأرض )).
      أجل والله، ولنعم الحراس الأمناء كانوا، تحقق بهم الوعد الالهي بحفظ هذه الملة، وجرت على أيديهم هذه المكرمة التي اختص الله تبارك وتعالى بها هذه الأمة. رضي الله عنهم وأجزل مثوبتهم، وسلك بنا من محض فضله سبيلهم.
      وأخيراً، لا بد أن أشيد بالشكر لمن كرر عليَ الطلب وأكد من إخواني الكرام أن أكتب في هذا الفن الجليل، ذاكراً أثره في توجيه همتي لصياغة أفكاري وخطتي في هذا الكتاب أرجو الله تبارك وتعالى أن يمن بقبوله، وأن لا يخيب من أحسن بي ظنه، وأن يفر لي وله.
      وأحمد الله تعالت صفاته، وتباركت أسماؤه، وأثني عليه كما هو أهله، وأسأله المزيد من فيض فضله، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى إخوانه من النبيين والمرسلين وآل كل صحبه وسلم تسليماً.




التحدي الموجه إلى اللغة العربية:






التحدي الموجه إلى اللغة العربية: تارة من خلال إحلال العامية في الكتابة مكانها، وطوراً من خلال تسكين أحرفها واقتراح لغة وسطاً بين العامية والفصحى، وأطواراً عبر المطالبة بكتابتها بالأحرف اللاتينية. فضلاً عن تشجيع حشوها بالضروري وغير الضروري من المصطلحات العلمية وغير العلمية، سواء أكان لها رديف عربي مناسب أم لم يكن لها. وأحياناً من خلال تكوّن مثقفين يستخدمون الفرنسية أو الإنكليزية (وربما بعد حين الروسية) لغة التفكير والكتابة وتحويل العربية إلى لغة من الدرجة ا لثانية، وأحايين من خلال مقاومة التعريب في دوائر بعض الحكومات والكليات الجامعية والمؤسسات والشركات والمصارف. وقد كشف الفكر الإِسلامي عن الهدف الحقيقي لمثل هذه التوجهات وهو الانسلاخ عن لغة القرآن من أجل الانسلاخ عن الإِسلام والتراث الإِسلامي الفكري والحضاري. مما يجعل التغريب يدخل في آلية عمل العقل (اللغة) وفي التكوّن الروحي والضميري للأمة من خلال إبعاد الإِسلام والتراث الإِسلامي. ولم تهدأ هذه المعركة منذ قرن بين المفكرين الإِسلاميين وعدد من المفكرين العلمانيين. وكلما سددوا لبعض الاتجاهات ضربة برز اتجاه آخر بحلة جديدة وحجج جديدة. وهذا ما حدا بالدكتور صادق أمين إلى إكمال الطريق بالكشف عن سياسات هدم اللغة العربية كجزء من عملية هدم الإِسلام والسيطرة على الأمة وغزوها ثقافياً. فتتبع تلك العملية منذ بدأ بعض المستشرقين بالتشجيع على استخدام العامية فاقتفى أثرهم أحمد لطفي السيد ولويس عوض أنيس فريحة. وكشف أيضاً عن دور عبد العزيز فهمي وسعيد عقل اللذين طالبا أن تكتب العربية بالحرف اللاتيني. ثم دور توفيق الحكيم وأمين الخولي في المناداة بلغة وسط بين العامية والفصحى. كما أشار إلى محاولة طه حسين تهديم النحو العربي. ثم إلى محاولات تحطيم أسس الشعر العربي.
إن مجموعة الردود الإِسلامية على هذه الموضوعات، وبالرغم مما أبرزه المفكرون والعلماء الإِسلاميون المعاصرون من نقاط خلافية حول هذه القضية أو تلك، وما حملته من نقد للفكر الغربي أو فكر العلمانيين، لم تحظ من قبل العلمانيين العرب بما تستحقه من الاهتمام والرد. فكانوا يكتفون بترديد تلك الانتقادات وتكرارها على الإِسلام ثم يصمون آذانهم عن الردود التي يجيب بها الإِسلاميون. الأمر الذي لم يساعد على إغناء الموضوعات في ميدان الصراع الفكري في المجال الشعبي.
ويجب أن يقال هنا أن الجهد الإِسلامي المبذول في الرد على فلسفات الغر الآتية من فكر الغرب ونموذجه الحضاري.
كما أنها تخوض بينها حوارات فكرية تحمل الكثير من نقاط الخلاف. وقد أدى ذلك إلى بروز دراسات إسلامية هامة. ويَعِد بروز دراسات أخرى تؤكدها المطالبات الإِسلامية الراهنة الملحة على ضرورة تقويم فكر المرحلة السابقة وتجربتها العملية، وضرورة تقديم دراسات إسلامية منهجية وعلمية تفصيلية ومعمقة في مختلف مجالات الفكر والثقافة، وتناول مختلف المواضيع تناولاً إيجابياً قائماً بذاته فلا يكون القصد مواجهة تحديات الفكر الغربي أو الفكر العلماني دفاعاً عن الإِسلام فحسب، وإنما أيضاً باعتبارها جزءاً من عملية النهوض بالمشروع الإِسلامي البديل، وإنزاله على أرض التطبيق الواقعي والممارس العملية. ولهذا يمكن القول أن الفكر الإِسلامي لم يستنفذ حتى الآن كل ما عنده، أو كل طاقته وإمكاناته في تناول هذه التحديات الآتية من النموذج الحضاري الغربي، فهو في حالة مخاض واعد، وتدفق لم ينضب. ويعج داخل بالالحاح الشديد من أجل التعميق والتأصيل والتجديد، بل إيجاد سبيل تحقيق الأهداف الإِسلامية.ب ونظرياته الاقتصادية وفي إيضاح المفاهيم والنظريات الإسلامية حول الإنسان والحياة والمجتمع والسياسة والاقتصاد والبيئة تحاول أن تتسم بالأصالة والاتساع والعمق وتسعى إلى الاغتناء يومياً، وإلى امتلاك الأسلحة الأكثر مضاء في الرد على التحديات


30‏/12‏/2014

التحدي الذي يتهم الإِسلام بالدكتاتورية ورفض الديمقراطية






التحدي الذي يتهم الإِسلام بالدكتاتورية ورفض الديمقراطية. فرد البعض بالقول أن العلاقة بين الشعب وحكامه في الإِسلام تقوم على أساس العقد ومن ثم يحق للشعب عزل حكامه إذا جنحوا إلى الدكتاتورية مخالفين للعقد. كما جاءت الردود تركز على الشورى وربط البيعة بالأمة وبتأكيد الإٍسلام حقوق أهل الكتاب وحق المعتقد وحرية التفكير ودعا بعض المفكرين الإِسلاميين إلى وضع دستور، وإلى تنظيم الشورى بالمجالس المنتخبة وتأكيد حقوق الإنسان وحرياته التي يكفلها الإسلام. وسوف يعالج موقف المفكرين الإِسلاميين المعاصرين من هذا الموضوع لاحقاً.

التحدي الذي يتهم الإِسلام بالتنكر للوطنية والقومية بسبب نظرته العالمية







 التحدي الذي يتهم الإِسلام بالتنكر للوطنية والقومية بسبب نظرته العالمية. وقد جاءت الردود تؤكد تأييد الإِسلام لكل دفاع محق عن الوطن أو الشعب والأمة ضد أي اعتداء خارجي أو ظلم داخلي، وتأييد حق الشعوب في الكفاح من أجل الحرية والاستقلال من السيطرة الأجنبية. ولكن مع تأكيد الرفض القاطع للاتجاهات التي تحمل النزعات العنصرية أو العصبية في الوطنية والقومية أو تتنكر للإِسلام أو تعطى للوطنية والقومية محتويات علمانية وأيديولوجيات رأسمالية واشتراكية. وقد جاء الرد الأول الأقوى على هذا التحدي من قبل الإِمام حسن البنا حيث قال حول القومية: "إذا كان القصد الاعتزاز بالأسلاف، أو بحرية القوم وحق برهم وإسعادهم وتحريرهم، أو أن القوم مبتلون وبحاجة إلى تحرير .. كل هذا لا يأباه الإِسلام وهو مقياسنا بل ينفسح صدرنا له ونحض عليه. أما قومية الجاهلية - العدوان فلا". وقال حول الوطنية: "لا خلاف إن كانت تعنى حب الأرض وألفتها، والحرية والعزة للبلاد، حب المجتمع وصلاح أحواله أما إذا كانت تقسيماً للأمة فلا". الخلاف أننا نعتبر حدود الوطنية بالعقيدة، وهم يعتبرونها بالتخوم الأرضية والحدود الجغرافية. واستمر هذا التحدي إلى يومنا هذا واستمر المفكرون الإِسلاميون يقدمون ردوداً تدور ضمن الإِطار والمحتوى اللذين رد بها الإِمام حسن البنا

التحدي الذي يتهم الإِسلام بالرأسمالية أو اتهامه بالاشتراكية أو الشيوعية





التحدي الذي يتهم الإِسلام بالرأسمالية لسماحه بالملكية الفردية وحرية التجارة، أو اتهامه بالاشتراكية أو الشيوعية لما فيه من تقييد للملكية ولموقفه من الفقراء وردعه لترف الأغنياء واستئثارهم واكتنازهم الأموال. وقد اتخذت الردود أبعاداً متعددة بعضها تناول بالنقد كلا المفهومين الماركسي والليبرالي حول الملكية الخاصة. وأخرى أفردت بحوثاً في نقد النظامين الرأسمالي والاشتراكي الماركسي عموماً، وفي المقابل تم التوسع في شرح العدالة الاجتماعية في الإِسلام باعتبارها نموذجاً ثالثاً متميزاً، ما هو بالرأسمالية وما هو بالاشتراكي الماركسي أو الاشتراكي الليبرالي.
      وتبرز هنا، كتابات سيد قطب ومحمد قطب والشيخ تقي الدين النبهاني في مناقشة تمايز النظام الإِسلامي وأفضليته على النظامين الرأسمالي والاشتراكي. أما كتاب "اقتصادنا" للإِمام محمد باقر الصدر فيحتل موقعاً علمياً مرموقاً لا من جهة الفقه فحسب، وإنما أيضاً من جهة علم الاقتصاد إن جاز التعبير. وقد أثبت قدرة عالية في مناقشة النظريات الاقتصادية في الماركسية والرأسمالية.
      على أن مستهل القرن الخامس عشر للهجرة، فقد اتجه العلماء والمفكرون الإِسلاميون ليعطوا الموضوع الاقتصادي اهتماماً مركزاً، خاصة مع ازدياد المطالبات التي كان الأستاذ راشد الغنوشى من المبادرين بها وهي ضرورة تحديد نظرية إسلامية في الاقتصاد تتجاوز العموميات بالنسبة إلى مسائل النظام الاقتصادي في الإِسلام.
كما يضع الشيخ محمد الغزالي المسؤولية على عاتق الفقهاء في هذا العصر وهي أن يقولوا كلمة الفقه في مختلف المجالات التي تعني الحياة الاقتصادية بما فيها مسألة العقوبات المتعلقة بالنواحي المالية الاقتصادية.
تكمن الإِشارة هنا إلى الدراسات التي جمعها وأعدها الدكتور صالح كركر في كتاب "رؤى في النظام الاقتصادي في الإِسلام". منقولة عن مجلة "المسلم المعاصر" علها تعطي فكرة عن بعض الإِرهاصات الإِسلامية في هذا المجال. وهي "الاقتصاد في المذهبية الإِسلامية" للدكتور محمود أبو السعود، و "النظام الاقتصادي الإِسلامي" للدكتور منذر قحف، و "النظام الاقتصادي في الإِسلام" د. محمد عمر شبراء، و"صياغة إسلامية لجوانب من دالة المصلحة الاجتماعية ونظرية سلوك المستهلك" د. محمد أنس الزرقاء، و "رأس المال والمحافظة عليه في الفكر الإِسلامي"، د. محمد شوقي إسماعيل شحاته، و "التنمية الاقتصادية في المفهوم الإِسلامي" د. محسن عبد الحميد، و "أفكار ونظرات ابن خلدون الاقتصادية"، د. فاضل الحسب، "قراءة اقتصادية في كتاب الكسب" د. رفعت السيد العوضي.
      أما من الجهود الحديثة في مناقشة النظامين الرأسمالي والاشتراكي من الزاوية الاقتصادية والفقهية فكتاب الأستاذ سميح عاطف الزين "الإِسلام وأيديولوجية الإِنسان"، بينما تناولهما الشيخ نادر أسعد بيوض التميمي من الزاوية العقدية في كتابه "العقيدة الإِسلامية في مواجهة العقائد الوضعية". أما الدكتور صالح كركر فرد على التحدي من زاوية مناقشة "نظرية القيمة - العمل والعمال والعدالة الاجتماعية في الإسلام وفي المذاهب والنظم الوضعية".

      

التحدي الذي يقول إن أحكام الإِسلام في الحدود تمتاز "بالقسوة والهمجية





التحدي الذي يقول إن أحكام الإِسلام في الحدود تمتاز "بالقسوة والهمجية في قطعها ليد السارق أو جلدها للزاني، أو قتلها لقاتل النفس بلا حق، فجاءت الردود لتؤكد على عدالة أحكام الإِسلام وحكمته البالغة فيما قرر من حدود، لأن فيها ردعاً للمعتدين ورحمة بأغلبية الناس الساحقة حين تصان الأعراض والأنفس والأموال والحقوق. ثم أكدت تلك الردود، من جهة أخرى، على الضوابط الكثيرة التي وضعها الإِسلام في تطبيق هذه الحدود. وكيف كان استخدامها في التاريخ الإِسلامي، على أضيق نطاق وقد أسهم الأستاذ عبد الكريم مطيع في كراسته "حد السرقة" في تبيان تلك الضوابط والشروط لتنفيذ حد السرقة.
أما الشيخ سيد سابق فبين كيف ساعدت الحدود الشرعية في الإِسلام على توفير أمن حقيقي للمجتمع والعائلة، بينما أدت قوانين العقوبات الغربية إلى ازدياد وتائر السرقات وحالات الاغتصاب والاعتداء على الأبرياء والآمنين، وهؤلاء أولى بالتفكير في ما يتعرضون له من قسوة ووحشية من التفكير بتخفيف العقوبات التي تنزل بالمجرمين. فالأولى مراعاة مصالح الناس وأمنهم وحياتهم حين يواجه موضوع الأحكام التي تردع فعلاً مرتكبي الجرائم بحقهم.

وأوضح الأستاذ محسن الميلي خلاصة لموقف السياسة الشرعية بالنسبة إلى التعامل مع الحدود وما يثار حولها من شبهات فقال: "وهكذا تبين أن السياسة الشرعية مجال واسع لتبيان صلاحية التشريع بطريقة علمية. ولكن هذه الاجتهادات يجب أن تظل دائماً في حدود مقاصد الشريعة الإِسلامية وقواعدها. ولا يجوز بحال تعطيل هذه النصوص، ولا التعسف عليها بتأويلات منحرفة. لذلك نبه علماء الإِسلام إلى خطورة هذا الباب، وإلى وجوب التزام العدل فيه والتوسط وتجنب مسلك الإِفراط والتفريط"

التحدي الذي يتهم الإِسلام بتأييد نظام العبودية والجواري




التحدي الذي يتهم الإِسلام بتأييد نظام العبودية والجواري أو أنه كان نظاماً إقطاعياً، وقد جاءت الردود جميعها تؤكد أن الإِسلام عمل على تصفية العبودية والرق. كما لا يمكن وصفه بالنظام الإِقطاعي وهو الذي أرسى نظام إرث يفتت الملكيات الكبيرة كما لا يسمح نظامه الاقتصادي والسياسي بمثل هذا النظام. وقد أسهم الأستاذ محمد قطب في رد هذه الشبه وكان قد تم تناول هذه الجوانب من زاوية إسلامية فقهية وشرعية، بينما ركز البعض على دحض ذلك التحدي من خلال دراسة التاريخ الاقتصاد السياسي في التجربة الإِسلامية العملية ويذكر هنا بصورة خاصة، مؤلف الأستاذ عادل عبد المهدي .."الثوابت والمتغيرات في التاريخ الاقتصادي للمجتمعات العربية الإِسلامية" وقد أثبت فيه خطأ مقولات الماركسيين والليبراليين في تحليلها وتحديدها لنمط المجتمع الإِسلامي في التاريخ. وأظهر عدم استقرار تلك المقولات وتضاربها فيما بينها. أما ذلك فيرجع لعدم إدراكهم للدور الذي لعبه الشرع الإِسلامي في تاريخ الاقتصادي السياسي للمجتمعات الإِسلامية.
      ويلاحظ كاتب ملف الفكر الإِسلامي في العدد السابع من السنة الثانية من عمر مجلة "الفرقان" المغربية ضعف المادة الاقتصادية والتاريخية عند طيب تيزينى حين يتحدث عن الإِقطاعية والرأسمالية في التاريخ الإِسلامي فهو يدلل عن وجود الرأسمالية والإِقطاعية لا من الوجود الواقعي للطبقات أو الوضع الاقتصادي وإنما من خلال تأويله لأفكار معينة. فيعلق كاتب الملف: لكأن الواقع انبثاق ميكانيكي عن الفكر. وهو بهذا، أي تيزينى يقع في الرؤية التي يريد نقدها، وهي الرؤية التي تصوغ التاريخ من تأويل الفكر.

التحدي الموجه إلى موقف الإسلام من موضوع المرأة وتعدد الزوجات





التحدي الموجه إلى موقف الإسلام من موضوع المرأة وتعدد الزوجات. وكان هذا من المواضيع التي أسهم في تناولها أغلب العلماء والمفكرين الإسلاميين الذي راحوا يبينون مكانة المرأة في الإسلام واحترامه لإنسانيتها، وما تتمتع به من حقوق وكرامة ومساواة مع الرجل في كثير من المجالات. وما يقيمه الإسلام من ضوابط للتعدد.
فعلى سبيل المثال يقوم الدكتور محمد البهي في كتابه "الإِسلام في حياة المسلم" بتوضيح موقف الإِسلام من المرأة وما يتميز من إبراز دورها في العائلة كزوجة وأم، ودورها في الحياة العامة، وفي ميدان العمل وفي ميدان الدفاع عن الوطن. كما يؤيد تقييد الطلاق.
وقد أثيرت في صفوف بعض المفكرين الإِسلاميين قضايا خلافية حول موضوع التعدد والطلاق وأيد الدكتور فتحي عثمان الاختلاط المأمون الذي يراعي الشروط الشرعية.

وتناول بالتوضيح مطالب محمد عبده وتلامذته بتقييد الطلاق وتقييد التعدد من خلال ربطه بالقاضي الشرعي، وردود الشيخ محمد أبو زهرة عليهم واقتراحه أن يأتي التقييد من المجتمع لا في التشريع. ويبقى موضوع المرأة في الإسلام من المواضيع الحية التي ما انفك المفكرون الإِسلاميون يتناولونه ويعالجونه من خلال الإِسلام بعيداً عن النموذج الحضاري الغربي، وبعيداً عن عدد من الأفكار والتقاليد الموروثة من عصور الجمود والانحطاط. وهذا ما سيتم التعرض له لاحقاً. وبالمناسبة نظراً لأهمية الموضوع يقترح السيد محمد تقي المدرسي عقد مؤتمرات لمعالجة هذه المشكلة بالذات وإعطائها الأولوية عوضاً عن الانشغال في القضايا الجانبية.

مشاركة الموضوع

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More