التسميات

الموسيقى الصامتة

Our sponsors

‏إظهار الرسائل ذات التسميات السيرة النبوية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات السيرة النبوية. إظهار كافة الرسائل

03‏/01‏/2015

البيت النبوي





البيت النبوي
  1. كان البيت النبوي في مكة قبل الهجرة يتألف منه عليه الصلاة والسلام، ومن زوجته خديجة بنت خويلد، تزوجها وهو في خمسة وعشرين من سنه، وهي في الأربعين، وهي أول من تزوجها من النساء، ولم يتزوج عليها غيرها. وكان له منها أبناء وبنات، أما الأبناء، فلم يعش منهم أحد. وأما البنات فهن زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة، فأما زينب فتزوجها قبل الهجرة ابن خالتها أبو العاص بن الربيع، وأما رقية وأم كلثوم فقد تزوجهما عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه الواحدة بعد الأخرى. وأما فاطمة فتزوجها علي بن أبي طالب بين بدر واحد، ومنها كان الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم.
ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ممتازاً عن أمته بحل التزوج بأكثر من أربع زوجات لأغراض كثيرة، فكان عدد من عقد عليهن ثلاث عشرة امرأة، منهن تسع مات عنهن، واثنتان توفيتا في حياته، إحداهما خديجة، والأخرى أم المساكين زينب بنت خزيمة، واثنتان لم يدخل بهما. وها هي أسماؤهن وشيء عنهن.
  1. سودة بنت زمعة، تزوجها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في شوال سنة عشر من النبوة، بعد وفاة خديجة بأيام، وكانت قبله عند ابن عم لها يقال له السكران بن عمرو فمات عنها.
  2. عائشة بنت أبي بكر الصديق، تزوجها في شوال سنة إحدى عشرة من النبوة، بعد زواجه بسودة بسنة، وقبل الهجرة بسنتين وخمسة أشهر، تزوجها وهي بنت ست سنين، وبني بها في شوال بعد الهجرة بسبعة أشهر في المدينة، وهي بنت تسع سنين، وكانت بكراً، ولم يتزوج بكراً غيرها، وكانت أحب الخلق إليه، وأفقه نساء الأمة، وأعلمهن على الإطلاق.
  3. حفصة بنت عمر بن الخطاب، تأيمت من زوجها خينس بن حذافة السهمي بين بدر وأحد، فتزوجها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
    سنة 3هـ.

  4. زينب بنت خزيمة من بني هلال بن عامر بن صعصعة، وكانت تسمى أم المساكين، لرحمتها إياهم ورقتها عليهم، كانت تحت عبد اللَّه بن جحش، فاستشهد في أحد، فتزوجها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سنة 4هـ. ماتت بعد الزواج بشهرين أو ثلاثة أشهر.
  5. أم سلمة هند بنت أبي أمية، كانت تحت أبي سلمة، فمات عنها في جمادى الأخرى سنة 4هـ فتزوجها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في شوال من نفس السنة.
  6. زينب بنت جحش بن رياب من بني أسد بن خزيمة، وهي بنت عمة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وكانت تحت زيد بن حارثة - الذي كان يعتبر ابناً للنبي صلى الله عليه وسلم - فطلقها زيد. فأنزل اللَّه تعالى يخاطب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : {فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها} وفيها نزلت من سورة الأحزاب آيات فصلت قضية التبني - وسنأتي على ذكرها - تزوجها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة سنة خمس من الهجرة.
  7. جويرية بنت الحارث سيد بني المصطلق من خزاعة، كانت في سبي بني المصطلق في سهم ثابت بن قيس بن شماس فكاتبها. فقضى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كتابتها، وتزوجها في شعبان سنة 6هـ.
  8. أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان، كانت تحت عبيد اللَّه بن جحش، وهاجرت معه إلى الحبشة، فارتد عبيد اللَّه وتنصر وتوفي هناك، وثبتت أم حبيبة على دينها وهجرتها،فلما بعث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري بكتابه إلى النجاشي في المحرم سنة 7هـ. خطب عليه أم حبيبة فزوجها إياه وبعث بها مع شرحبيل ابن حسنة.
  9. صفية بنت حيي بن أخطب من بني إسرائيل، كانت من سبي خيبر، فاصطفاها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لنفسه، فأعتقها وتزوجها بعد فتح خيبر سنة 7هـ.
فهؤلاء إحدى عشرة سيدة تزوج بهن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وبنى بهن وتوفيت منهن اثنتان - خديجة وزينب أم المساكين - في حياته، وتوفي هو عن التسع البواقي.
وأما الإثنتان اللتان لم يبن بهما فواحدة من بني كلاب، وأخرى من كندة، وهي المعروفة بالجونية، وهناك خلافات لا حاجة إلى بسطها.
وأما السراري فالمعروف أنه تسري باثنتين إحداهما مارية القبطية، أهداها له المقوقس فأولدها ابنه إبراهيم، الذي توفى صغيراً بالمدينة في حياته صلى الله عليه وسلم ، في 28/أو 29 من شهر شوال سنة 10هـ وفق 27 يناير سنة 632م. والسرية الثانية هي ريحانة بنت زيد النضرية أو القرظية، كانت من سبايا قريظة. فاصطفاها لنفسه، وقيل بل هي من أزواجه صلى الله عليه وسلم ، أعتقها فتزوجها. والقول الأول رجحه ابن القيم، وزاد أبو عبيدة اثنتين أخريين، جميلة أصابها في بعض السبي، وجارية وهبتها له زينب بنت جحش.
ومن نظر إلى حياة الرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عرف جيداً أن زواجه بهذا العدد الكثير من النساء في أواخر عمره بعد أن قضى ما يقارب ثلاثين عاماً من ريعان شبابه وأجود أيامه مقتصراً على زوجة واحدة شبه عجوز - خديجة ثم سودة. عرف أن هذا الزواج لم يكن لأجل أنه وجد بغتة في نفسه قوة عارمة من الشبق لا يصبر معها إلا بمثل هذا العدد الكثير من النساء، بل كانت هناك أغراض أخرى أجل وأعظم من الغرض الذي يحققه عامة الزواج.
فاتجاه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مصاهرة أبي بكر وعمر بزواجه بعائشة وحفصة - وكذلك تزويجه ابنته فاطمة بعلي بن أبي طالب، وتزويجه ابنته رقية ثم أم كلثوم بعثمان بن عفان - يشير إلى أنه يبغي من وراء ذلك توثيق الصلات بالرجال الأربعة، الذين عرف بلاءهم وفداءهم للإسلام في الأزمات التي مرت به وشاء اللَّه أن يجتازها بسلام.
وكان من تقاليد العرب الاحترام للمصاهرة، فقد كان الصهر عندهم باباً من أبواب التقرب بين البطون المختلفة، وكانوا يرون مناوأة ومحاربة الأصهار سبة وعاراً على أنفسهم، فأراد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بزواج عدة من أمهات المؤمنين أن يكسر سورة عداء القبائل للإسلام، ويطفىء حدة بغضائها، كانت أم سلمة من بني مخزوم - حي أبي جهل وخالد بن الوليد - فلما تزوجها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لم يقف خالد من المسلمين موقفه الشديد بأحد، بل أسلم بعد مدة غير طويلة طائعاً راغباً، وكذلك أبو سفيان لم يواجه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بأي محاربة بعد زواجه بابنته أم حبيبة، وكذلك لا نرى من قبيلتي بني المصطلق وبني النضير أي استفزاز وعداء بعد زواحه بجويرية وصفية. بل كانت جويرية أعظم النساء بركة على قومها، فقد أطلق الصحابة أسر مائة بيت من قومها حين تزوجها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وقالوا: أظهار رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم . ولا يخفى ما لهذا المن من الأثر البالغ في النفوس.
وأكبر من كل ذلك وأعظم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مأموراً بتزكية وتثقيف قوم لم يكونوا يعرفون شيئاً من آداب الثقافة والحضارة والتقيد بلوازم المدنية. والمساهمة في بناء المجتمع وتعزيزه.
والمبادىء التي كانت أسسا لبناء المجتمع الإسلامي، لم تكن تسمح للرجال أن يختلطوا بالنساء، فلم يكن يمكن تثقيفهن مباشرة مع المراعاة لهذه المبادىء، مع أن مسيس الحاجة إلى تثقيفهن لم يكن أهون وأقل من الرجال، بل كان أشد وأقوى.
وإذن فلم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم سبيل إلا أن يختار من النساء المختلفة الأعمار والمواهب ما يكفي لهذا الغرض، فيزكيهن ويربيهن، ويعلمهن الشرائع والأحكام، ويثقفهن بثقافة الإِسلام حتى يعدهن؛ لتربية البدويات والحضريات، العجائز منهن والشابات، فيكفين مؤنة التبليغ في النساء.
وقد كان للأمهات المؤمنين فضل كبير في نقل أحواله - صلى الله عليه وسلم - المنزلية للناس، خصوصاً من طالت حياته منهن كعائشة، فإنها روت كثيراً من أفعاله وأقواله.
وهناك نكاح واحد كان لنقض تقليد جاهلي متأصل، وهي قاعدة التبني. وكان للمتبني عند العرب في الجاهلية جميع الحرمات والحقوق التي كانت للابن الحقيقي سواء بسواء. وكانت قد تأصلت تلك القاعدة في القلوب، بحيث لم يكن محوها سهلاً، لكن كانت تلك القاعدة تعارض معارضة شديدة للأسس والمبادىء التي قررها الإسلام في النكاح والطلاق والميراث وغير ذلك من المعاملات. وكانت تلك القاعدة تجلب كثيراً من المفاسد والفواحش التي جاء الإسلام؛ ليمحوها عن المجتمع.
ولهدم تلك القاعدة أمر اللَّه تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن ينكح ابنة عمته زينب بنت جحش، وكانت تحت زيد، ولم يكن بينهما توافق، حتى هم زيد بطلاقها، وذلك في ساعة تألب الأحزاب على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم والمسلمين، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يخاف دعاية المنافقين والمشركين واليهود، وما يثيرونه من الوساوس والخرافات ضده، وما يكون له من الأثر السيء في نفوس ضعفاء المسلمين. فأحب أن لا يطلق زيد حتى لا يقع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في هذا الامتحان.
ولا شك أن هذا التردد والانحياز كان لا يطابق مطابقة تامة للعزيمة التي بعث بها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فعاتبه اللَّه على ذلك وقال: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37].
وأخيراً طلقها زيد، وتزوجها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في أيام فرض الحصار على بني قريظة بعد أن انقضت عدتها. وكان اللَّه قد أوجب عليه هذا النكاح ولم يترك له خياراً ولا مجالاً، حتى تولى اللَّه ذلك النكاح بنفسه يقول: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} [الأحزاب: 37] وذلك ليهدم قاعدة التبني فعلا كما هدمها قولا: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب: 5] {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40].
وكم من التقاليد المتأصلة الجازمة لا يمكن هدمها أو تعديلها لمجرد القول، بل لا بدل له من مقارنة فعل صاحب الدعوة، ويتضح ذلك بما صدر من المسلمين في عمرة الحديبية، كان هناك أولئك المسلمون الذين رآهم عروة بن مسعود الثقفي، لا يقع من النبي صلى الله عليه وسلم نخامة إلا في يد أحدهم، ورآهم يتبادرون إلى وضوئه حتى كادوايقتتلون عليه، نعم كان أولئك الذين تسابقوا إلى البيعة على الموت أو على عدم الفرار تحت الشجرة، والذين كان فيهم مثل أبو بكر وعمر، لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أولئك الصحابة المتفانين في ذاته - بعد عقد الصلح - أن يقوموا فينحروا هديهم لم يقم لامتثال أمره أحد، حتى أخذه القلق والاضطراب، ولكن لما أشارت عليه أم سلمة أن يقوم إلى هديه فينحر، ولا يكلم أحداً ففعل، تبادر الصحابة إلى اتباعه في فعله، فتسابقوا إلى نحر جزورهم. وبهذا الحادث يتضح جلياً ما هو الفرق بين أثري القول والفعل لهدم قاعدة راسخة.
وقد أثار المنافقون وساوس كثيرة، وقاموا بدعايات كاذبة واسعة حول هذا النكاح، أثر بعضها في ضعفاء المسلمين، لا سيما أن زينب كانت خامسة أزواجه صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن يعرف المسلمون حل الزواج بأكثر من أربع نسوة وأن زيداً كان يعتبر ابنا للنبي صلى الله عليه وسلم ، والزواج بزوجة الابن كان من أغلظ الفواحش، وقد أنزل اللَّه في سورة الأحزاب حول الموضوعين ما شفى وكفى وعلم الصحابة أن التبني ليس له أثر عند الإسلام، وأن اللَّه تعالى وسع لرسوله صلى الله عليه وسلم في الزواج ما لم يوسع لغيره، لأغراضه النبيلة الممتازة.
هذا، وكانت عشرته صلى الله عليه وسلم مع أمهات المؤمنين في غاية الشرف والنبل والسمو والحسن، كما كن في أعلى درجة من الشرف والقناعة والصبر والتواضع والخدمة والقيام بحقوق الزواج، مع أنه كان في شظف من العيش لا يطيقه أحد. قال أنس ما أعلم النبي صلى الله عليه وسلم رأى رغيفاً مرققاً حتى لحق باللَّه، ولا رأى شاة سميطاً بعينه قط. وقالت عائشة إن كنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نار. فقال لها عروة ما كان يعشيكم؟ قالت: الأسودان، التمر والماء. والأخبار بهذا الصدد كثيرة.
ومع هذا الشظف والضيق لم يصدر منهن ما يوجب العتاب إلا مرة واحدة - حسب مقتضى البشرية، وليكون سبباً لتشريع الأحكام - فأنزل اللَّه آية التخيير {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 28-29] وكان من شرفهن ونبلهن أنهن آثرن اللَّه ورسوله وله، ولم تمل واحدة منهن إلى اختيار الدنيا.
وكذلك لم يقع منهن ما يقع بين الضرائر مع كثرتهن إلا شيء يسير من بعضهن حسب اقتضاء البشرية، ثم عاتب اللَّه عليه فلم يعدن له مرة أخرى، وهو الذي ذكره اللَّه في سورة التحريم بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] إلى تمام الآية الخامسة.
وأخيراً أرى أنه لا حاجة إلى البحث في موضوع مبدأ تعدد الزوجات، فمن نظر في حياة سكان أوروبا الذين يصدر منهن النكير الشديد على هذا المبدأ، ونظر إلى ما يقاسون من الشقاوة والمرارة، وما يأتون من الفضائح والجرائم الشنيعة، وما يواجهون من البلايا والقلاقل لانحرافهم عن هذا المبدأ كفى له ذلك عن البحث والاستدلال، فحياتهم أصدق شاهد على عدالة هذا المبدأ، وإن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار.
الصفات والأخلاق
كان النبي صلى الله عليه وسلم يمتاز من جمال خَلقه وكمال خُلقه بما لا يحيط بوصفه البيان، وكان من أثره أن القلوب فاضت بإجلاله، والرجال تفانوا في حياطته وإكباره، بما لا تعرف الدنيا لرجل غيره، فالذين عاشروه أحبوه إلى حد الهيام ولم يبالوا أن تندق أعناقهم ولا يخدش له ظفر، وما أحبوه كذلك إلا لأن أنصبته من الكمال الذي يعشق عادة لم يرزق بمثلها بشر - وفيما يلي نورد ملخص الروايات في بيان جماله وكماله مع اعتراف العجز عن الإحاطة.
جمال الخلق:
قالت أم معبد الخزاعية عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم - وهي تصفه لزوجها، حين مر بخيمتها مهاجراً - ظاهر الوضاءة، أبلج الوجه، حسن الخلق لم تعبه تجلة، ولم تزر به صعلة، وسيم قسيم، في عينيه دعج، وفي أشعاره وطف، وفي صوته صحل، وفي عنقه سطح، أحور، أكحل، أزج، أقرن، شديد سواد الشعر، إذا صمت علاه الوقار، وإن تكلم علاه البهاء، أجمل الناس وأبهاهم من بعيد، وأحسنه وأحلاه من قريب، حلو المنطق، فضل، لا نزر ولا هذر، كأن منطقه خرزات نظمن يتحدرن، ربعة، لا تقحمه عين من قصر ولا تشنؤه من طول، غصن بين غصنين، فهو أنظر الثلاثة منظراً، وأحسنهم قدراً، له رفقاء يحفون به، إذا قال استمعوا لقوله، وإذا أمر تبادروا إلى أمره، محفود، محشود، لا عابس ولا مفند.
وقال علي بن أبي طالب - وهو ينعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم - لم يكن بالطويل الممغط، ولا القصير المتردد، وكان ربعة من القوم، لم يكن بالجعد القطط، ولا بالسبط، وكان جعداً رجلاً، ولم يكن بالمطهم ولا بالمكلثم، وكان في الوجه تدوير، وكان أبيض مشرباً، أدعج العينين، أهدب الأشفار، جليل المشاش والكتد، دقيق المسربة، أجرد، شثن الكفين والقدمين، إذا مشى تقلع كأنما يمشي في صبب، وإذا التفت التفت معاً، بين كتفيه خاتم النبوة، وهو خاتم النبيين، أجود الناس كفاً، وأجرأ الناس صدراً، وأصدق الناس لهجة، وأوفى الناس ذمة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه، يقول ناعته لم أر قبله ولا بعده مثله صلى الله عليه وسلم .
وفي رواية عنه أنه كان ضخم الرأس، ضخم الكراديس، طويل المسربة إذا مشى تكفأ تكفياً كأنما ينحط من صبب.
وقال جابر بن سمرة كان ضليع الفم، أشكل العين منهوس العقبين.
وقال أبو الطفيل كان أبيض، مليح الوجه، مقصداً.
وقال أنس بن مالك كان بسط الكفين، وقال: كان أزهر اللون، ليس بأبيض أمهق، ولا آدم، قبض وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء.
وقال: إنما كان شيء - أي من الشيب - في صدغيه. وفي رواية وفي الرأس نبذ.
وقال أبو جحيفة رأيت بياضاً تحت شفته السفلى، العنفقة.
وقال عبد اللَّه بن بسر كان في عنفقته شعرات بيض.
وقال البراء كان مربوعاً بعيد ما بين المنكبين، له شعر يبلغ شحمة أذنيه، رأيته في حلة حمراء، لم أر شيئاً قط أحسن منه.
وكان يسدل شعره أولاً لحبه موافقة أهل الكتاب، ثم فرق رأسه بعد.
قال البراء كان أحسن الناس وجهاً، وأحسنهم خلقاً.
وسئل أكان وجه النبي صلى الله عليه وسلم مثل السيف؟ قال: لا بل مثل القمر. وفي رواية كان وجهه مستديراً.
وقالت الربيع بنت معوذ لو رأيت رأيت الشمس طالعة.
وقال جابر بن سمرة رأيته في ليلة إضحيان فجعلت أنظر إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وإلى القمر - وعليه حلة حمراء - فإذا هو أحسن عندي من القمر.
وقال أبو هريرة ما رأيت شيئاً أحسن من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، كأن الشمس تجري في وجهه، وما رأيت أحداً أسرع في مشيه من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، كأنما الأرض تطوى له، وإنا لنجهد أنفسنا، وإنه لغير مكترث.
وقال كعب بن مالك كان إذا سر أستار وجهه، حتى كأنه قطعة قمر.
وعرق مرة وهو عند عائشة فجعلت تبرق أسارير وجهه، فتمثلت له بقول أبي كبير الهذلي:
وإذا نظرت إلى أسرة وجهه برقت كبرق العارض المتهلل
وكان أبو بكر إذا رآه يقول:
أمين مصطفى بالخبر يدعو كضوء البدر زايله الظلام
وكان عمر ينشد قول زهير في هرم بن أسد:
لو كنت من شيء سوى البشر كنت المضيء كليلة البدر
ثم يقول لذلك كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم .
وكان إذا غضب أحمر وجهه، حتى كأنما فقىء في وجنيته حب الرمان.
وقال جابر بن سمرة كان في ساقيه حموشة، وكان لا يضحك إلا تبسماً. وكنت إذا نظرت إليه قتل أكحل العينين، وليس بأكحل.
قال ابن عباس كان أفلج الثنيتين، إذا تكلم رؤى كالنور يخرج من بين ثناياه.
وأما عنقه فكأنه جيد دمية في صفاء الفضة، وكان في أشفاره غطف، وفي لحيته كثافة، وكان واسع الجبين، أزج الحواجب في غير قرن بينهما، أقنى العرنين، سهل الخدين، من لبته إلى سرته شعر يجري كالقضيب، ليس في بطنه ولا صدره شعر غيره، أشعر الذراعين والمنكبين، سواء البطن والصدر، مسيح الصدر عريضه، طويل الزند، رحب الراحة، سبط القصب، خمصان الإخمصين سائل الأطراف، إذا زال زال قلعاً، يخطو تكفياً ويمشي هوناً.
وقال أنس ما مسست حريراً ولا ديباجاً ألين من كف النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا شممت ريحاً قط أو عرفاً قط، وفي رواية ما شممت عنبراً قط ولا مسكاً ولا شيئاً أطيب من ريح أو عرف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم .
وقال أبو جحيفة أخذت بيده، فوضعتها على وجهي، فإذا هي أبرد من الثلج، وأطيب رائحة من المسك.
وقال جابر بن سمرة - وكان صبياً - مسح خدي فوجدت ليده برداً أو ريحاً كأنما أخرجها من جونة عطار.
وقال أنس كأن عرقه اللؤلؤ. وقالت أم سليم هو من أطيب الطيب.
وقال جابر لم يسلك طريقاً فيتبعه أحد إلا عرف أنه قد سلكه من طيب عرفه. أو قال: من ريح عرقه.
وكان بين كتفيه خاتم النبوة مثل بيضة الحمامة، يشبه جسده، وكان عند ناغض كتفه اليسرى، جمعاً عليه خيلان كأمثال الثآليل.
كمال النفس ومكارم الأخلاق:
كان النبي صلى الله عليه وسلم يمتاز بفصاحة اللسان، وبلاغة القول، وكان من ذلك بالمحل الأفضل، والموضع الذي لا يجهل، سلاسة طبع، ونصاعة لفظ وجزالة قول، وصحة معان، وقلة تكلف، أوتي جوامع الكلم، وخص ببدائع الحكم، وعلم ألسنة العرب، يخاطب كل قبيلة بلسانها، ويحاورها بلغتها، اجتمعت له قوة عارضة البادية وجزالتها، ونصاعة ألفاظ الحاضرة ورونق كلامها إلى التأييد الإلهي الذي مدده الوحي.
وكان الحلم والاحتمال، والعفو عند المقدرة، والصبر على المكاره، صفات أدبه اللَّه بها، وكل حليم قد عرفت منه زلة، وحفظت عنه هفوة، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يزد مع كثرة الأذى إلا صبراً، وعلى إسراف الجاهل إلا حلما، قالت عائشة ما خير رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس عنه، وما انتقم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة اللَّه فينتقم للَّه بها. وكان أبعد الناس غضباً وأسرعهم رضاً.
وكان من صفة الجود والكرم على ما لا يقادر قدره، كان يعطي عطاء من لا يخاف الفقر، قال ابن عباس كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وأجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل. وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن، فلرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة. وقال جابر ما سئل شيئاً قط فقال: لا.
وكان من الشجاعة والنجدة والبأس بالمكان الذيلا يجهل، كان أشجع الناس، حضر المواقف الصعبة، وفر عنه الكماة والأبطال غير مرة، وهو ثابت لا يبرح، ومقبل لا يدبر، ولا يتزحزح، وما شجاع إلا وقد أحصيت له فرة وحفظت عنه جولة سواه، قال علي كنا إذا حمى البأس واحمرت الحدق اتقينا برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه. قال أنس فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق ناس قبل الصوت، فتلقاهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم راجعاً، وقد سبقهم إلى الصوت، وهو على فرس لأبي طلحة عرى، في عنقه السيف، وهو يقول لم تراعوا، لم تراعوا.
وكان أشد الناس حياءً وإغضاءً، قال أبو سعيد الخدري: كان أشد حياء من العذراء في خدرها، وإذا كره شيئاً عرف في وجهه. وكان لا يثبت نظره في وجه أحد، خافض الطرف. نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جل نظره الملاحظة، لا يشافه أحداً بما يكره حياء وكرم نفس، وكان لا يسمى رجلاً بلغ عنه شيء يكرهه، بل يقول ما بال أقوام يصنعون كذا، وكان أحق الناس بقول الفرزدق:
يغضي حياءً ويغضي من مهابته فلا يكلم إلا حين يبتسم
وكان أعدل الناس، وأعفهم، وأصدقهم لهجة، وأعظمهم أمانة، اعترف له بذلك محاوره وأعداؤه، وكان يسمى قبل نبوته الأمين، ويتحاكم إليه في الجاهلية قبل الإسلام، روى الترمذي عن علي أن أبا جهل قال له إنا لا نكذبك، ولكن نكذب بما جئت به، فأنزل اللَّه تعالى فيهم: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33] وسأل هرقل أبا سفيان، هل تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا.
وكان أشد الناس تواضعاً، وأبعدهم عن الكبر، يمنع عن القيام له كما يقومون للملوك، وكان يعود المساكين، ويجالس الفقراء، ويجيب دعوة العبد، ويجلس في أصحابه كأحدهم، قالت عائشة كان يخصف نعله، ويخيط ثوبه، ويعمل بيده كما يعمل أحدكم في بيته، وكان بشراً من البشر يفلي ثوبه، ويحلب شاته ويخدم نفسه.
وكان أوفى الناس بالعهود، وأوصلهم للرحم وأعظمهم شفقة ورأفة ورحمة بالناس، أحسن الناس عشرة وأدباً، وأبسط الناس خلقاً، أبعد الناس من سوء الأخلاق، لم يكن فاحشاً، ولا متفحشاً، ولا لعاناً، ولا صخاباً في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، وكان لا يدع أحداً يمشي خلفه، وكان لا يترفع على عبيده وإمائه في مأكل ولا ملبس، ويخدم من خدمه، ولم يقل لخادمه أف قط، ولم يعاتبه على فعل شيء أو تركه، وكان يحب المساكين ويجالسهم ويشهد جنائزهم، ولا يحقر فقيراً لفقره. كان في بعض أسفاره فأمر بإصلاح شاة فقال رجل علي ذبحها، وقال آخر علي سلخها، وقال آخر علي طبخها، فقال صلى الله عليه وسلم وعلي جمع الحطب، فقالوا: نحن نكفيك، فقال: قد علمت أنكم تكفوني ولكني أكره أن أتميز عليكم، فإن اللَّه يكره من عبده أن يراه متميزاً بين أصحابه، وقام وجمع الحطب.
ولنترك هند بن أبي هالة يصف لنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ؛ قال هند فيما قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم متواصل الأحزان، دائم الفكرة، ليست له راحة، ولا يتكلم في غير حاجة، طويل السكوت، يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه - لا بأطراف فمه - ويتكلم بجوامع الكلم، فصلاً لا فضول فيه ولا تقصير دمثاً ليس بالجافي ولا بالمهين، يعظم النعمة وإن دقت، لا يذم شيئاً، ولم يكن يذم ذواقاً - ما يطعم - ولا يمدحه، ولا يقام لغضبه إذا تعرض للحق بشيء حتى ينتصر له لا يغضب لنفسه، ولا ينتصر لها - سماح - وإذا أشار أشار بكفه كلها، وإذا تعجب قلبها، وإذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غض طرفه، جل ضحكه التبسم، ويفتر عن مثل حب الغمام.
وكان يخزن لسانه إلا عما يعنيه. يؤلف أصحابه ولا يفرقهم، يكرم كريم كل قوم، ويوليه عليهم، ويحذر الناس، ويحترس منهم من غير أن يطوى عن أحد منهم بشره.
يتفقد أصحابه - ويسأل الناس عما في الناس، ويحسن الحسن ويصوبه، ويقبح القبيح ويوهنه، معتدل الأمر، غير مختلف، لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يملوا لكل حال عنده عتاد، لا يقصر عن الحق، ولا يجاوزه إلى غيره الذي يلونه من الناس خيارهم، وأفضلهم عنده أعمهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة.
كان لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر، ولا يوطن الأماكن - لا يميز لنفسه مكاناً - إذا انتهى إلى القوم جلس حيث ينتهي به المجلس، ويأمر بذلك، ويعطي كل جلسائه نصيبه حتى لا يحسب جليسه أن أحداً أكرم عليه منه، من جالسه أو قاومه لحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف عنه، ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول، وقد وسع الناس بسطه وخلقه، فصار لهم أبا، وصاروا عنده في الحق متقاربين. يتفاضلون عنده بالتقوى، مجلسه مجلس حلم وحياء وصبر وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات، ولا تؤبن فيه الحرم - لا تخشى فلتاته - يتعاطفون بالتقوى، يوقرون الكبير، ويرحمون الصغير، ويرفدون ذا الحاجة، ويؤنسون الغريب.
كان دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صخاب، ولا فحاش، ولا عتاب، ولا مداح، يتغافل عما لا يشتهي، ولا يقنط منه قد ترك نفسه من ثلاث الرياء، والإكثار، وما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث لا يذم أحداً، ولا يعيره، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، إذا تكلم أطرق جلساؤه، كأنما على رؤوسهم الطير، وإذا سكت تكلموا. لا يتنازعون عنده الحديث. من تكلم عنده أنصتوا له حتى يفرغ، حديثهم حديث أولهم، يضحك مما يضحكون منه، ويعجب مما يعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في المنطق، ويقول إذا رأيتم صاحب الحاجة يطلبها فأرفدوه، ولا يطلب الثناء إلا من مكافىء.
وقال خارجة بن زيد كان النبي صلى الله عليه وسلم أوقر الناس في مجلسه لا يكاد يخرج شيئاً من أطرافه، وكان كثير السكوت، لا يتكلم في غير حاجة، يعرض عمن تكلم بغير جميل، كان ضحكه تبسماً، وكلامه فصلاً، لا فضول ولا تقصير، وكان ضحك أصحابه عنده التبسم، توقيراً له واقتداءً به.
وعلى الجملة فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم محلى بصفات الكمال المنقطعة النظير، أدبه ربه فأحسن تأديبه، حتى خاطبه مثنياً عليه فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] وكانت هذه الخلال مما قرب إليه النفوس، وحببه إلى القلوب وصيره قائداً تهوى إليه الأفئدة، وألان من شكيمة قومه بعد الإباء، حتى دخلوا في دين اللَّه أفواجاً.
وهذه الخلال التي أتينا على ذكرها خطوط قصار من مظاهر كماله وعظيم صفاته، أما حقيقة ما كان عليه من الأمجاد والشمائل فأمر لا يدرك كنهه، ولا يسبر غوره، ومن يستطيع معرفة كنه أعظم بشر في الوجود بلغ أعلى قمة من الكمال، استضاء بنور ربه، حتى صار خلقه القرآن؟
اللهم صلّي على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.




إلى الرفيق الأعلى





إلى الرفيق الأعلى
  • طلائع التوديع
  • بداية المرض
  • الأسبوع الأخير
  • قبل الوفاة بخمسة أيام
  • قبل أربعة أيام
  • قبل يوم أو يومين
  • قبل يوم
  • آخر يوم من الحياة
  • الاحتضار
  • تفاقم الأحزان على الصحابة
  • موقف عمر
  • موقف أبي بكر
  • التجهيز وتوديع الجسد الشريف إلى الأرض

طلائع التوديع:
لما تكاملت الدعوة وسيطر الإسلام على الموقف، أخذت طلائع التوديع للحياة والأحياء تطلع من مشاعر صلى الله عليه وسلم ، وتتضح بعباراته وأفعاله.
إنه اعتكف في رمضان من السنة العاشرة عشرين يوماً، بينما كان لا يعتكف إلا عشرة أيام فحسب. وتدارسه جبريل القرآن مرتين، وقال في حجة الوداع إني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً، وقال: وهو عند جمرة العقبة خذوا عني مناسككم فلعلي لا أحج بعد عامي هذا، وأنزلت عليه سورة النصر في أوسط أيام التشريق، فعرف أنه الوداع، وأنه نعيت إليه نفسه.
وفي أوائل صفر سنة 11هـ خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد، فصلى على الشهداء كالمودع للأحياء والأموات، ثم انصرف إلى المنبر فقال: إني فرطكم وإني شهيد عليكم، وإني واللَّه لأنظر إلى حوضي الآن، وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، أو مفاتيح الأرض، وإني واللَّه ما أخاف أن تشركوا بعدي، ولكني أخاف عليكم أن تنافسوا فيها.
وخرج ليلة - في منتصفها - إلى البقيع فاستغفر لهم وقال: السلام عليكم يا أهل المقابر. ليهن لكم ما أصبحتم فيه بما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، يتبع آخرها أولها، الآخرة شر من الأولى - وبشرهم قائلاً إنا بكم للاحقون.

بداية المرض:
وفي اليوم التاسع والعشرين من شهر صفر سنة 11هـ - وكان يوم الإثنين - شهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جنازة في البقيع. فلما رجع، وهو في الطريق أخذه صداع في رأسه، واتقدت الحرارة، حتى إنهم يجدون سورتها فوق العصابة التي تعصب بها رأسه.
وقد صلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالناس وهو مريض 11 يوماً، وجميع أيام المرض كانت 13، أو 14 يوماً.

الأسبوع الأخير:
وثقل برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المرض، فجعل يسأل أزواجه أين أنا غداً؟ أين أنا غداً؟ ففهمن مراده، فأذن له يكون حيث شاء، فانتقل إلى عائشة يمشي بين الفضل بن عباس وعلي بن أبي طالب، عاصباً رأسه تخط قدماه حتى دخل بيتها، فقضى عندها آخر أسبوع من حياته.
وكانت عائشة تقرأ بالمعوذات والأدعية التي حفظتها من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فكانت تنفث على نفسه، وتمسحه بيده رجاء البركة.

قبل الوفاة بخمسة أيام:
ويوم الأربعاء قبل خمسة أيام من الوفاة، اتقدت حرارة العلة في بدنه، فاشتد به الوجع وأغمي عليه، فقال: هريقوا على سبع قرب من آبار شتى، حتى أخرج إلى الناس، فأعهد إليهم، فأقعدوه في مخضب، وصبوا عليه الماء حتى طفق يقول حسبكم، حسبكم.
وعند ذلك أحس بخفة، فدخل المسجد- وهو معصوب الرأس - حتى جلس على المنبر، وخطب الناس - والناس مجتمعون حوله فقال:
لعنة اللَّه على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد - وفي رواية: قاتل اللَّه اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد - وقال: لا تتخذوا قبري وثناً يعبد.
وعرض نفسه للقصاص قائلاً: من كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليستقد منه.
ثم نزل فصلى الظهر، ثم رجع فجلس على المنبر، وعاد لمقالته الأولى في الشحناء وغيرها، فقال رجل إن لي عندك ثلاثة دراهم، فقال: أعطه يا فضل، ثم أوصى بالأنصار قائلاً
أوصيكم بالأنصار، فإنهم كرشي وعيبتي، وقد قضوا الذي عليهم، وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم. وفي رواية أنه قال: إن الناس يكثرون، وتقل الأنصار حتى يكونوا كالملح في الطعام، فمن ولي منكم أمراً يضر فيه أحداً أو ينفعه فليقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم.
ثم قال: إن عبداً خيره اللَّه أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء، وبين ما عنده. فاختار ما عنده قال أبو سعيد الخدري فبكى أبو بكر. قال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا فعجبنا له، فقال الناس انظروا إلى هذا الشيخ، يخبر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن عبد خيره اللَّه بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا. وبين ما عنده، وهو يقول فديناك بآبائنا وأمهاتنا. فكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا.
ثم قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إن من أأمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلاً. ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد، إلا باب أبي بكر.

قبل أربعة أيام:
ويوم الخميس قبل الوفاة بأربعة أيام قال - وقد اشتد به الوجع - هلموا أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده - وفي البيت رجال فيهم عمر - فقال عمر قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن، حسبكم كتاب اللَّه. فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول قربوا يكتب لكم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغط والاختلاف قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قوموا عني.
وأوصى ذلك اليوم بثلاث أوصى بإخراج اليهود والنصارى والمشركين من جزيرة العرب، وأوصى بإجازة الوفود بنحو ما كان يجيزهم، أما الثالث فنسيه الراوي. ولعله الوصية بالاعتصام بالكتاب والسنة، أو تنفيذ جيش أسامة، أو هي الصلاة وما ملكت أيمانكم.
والنبي صلى الله عليه وسلم مع ما كان به من شدة المرض كان يصلي بالناس جميع صلواته حتى ذلك اليوم - يوم الخميس قبل الوفاة بأربعة أيام - وقد صلى بالناس ذلك اليوم صلاة المغرب، فقرأ فيها بالمرسلات عرفاً.
وعند العشاء زاد ثقل المرض، بحيث لم يستطع الخروج إلى المسجد، قالت عائشة فقال النبي صلى الله عليه وسلم أصلى الناس؟ قلنا: لا يا رسول اللَّه، وهم ينتظرونك. قال: ضعوا لي ماء في المخضب ففعلنا، فاغتسل، فذهب لينوء فأغمي عليه. ثم أفاق، فقال: أصلى الناس؟ - ووقع ثانياً وثالثاً ما وقع في المرة الأولى من الاغتسال ثم الإغماء حينما أراد أن ينوء - فأرسل إلى أبي بكر أن يصلي بالناس، فصلى أبو بكر تلك الأيام 17 صلاة في حياته صلى الله عليه وسلم.
وراجعت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث أو أربع مرات؛ ليصرف الإمامة عن أبي بكر حتى لا يتشاءم به الناس، فأبى، وقال: إنكن صواحب يوسف. مروا أبا بكر فليصل بالناس.

قبل يوم أو يومين:
ويوم السبت أو الأحد وجد النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه خفة، فخرج بين رجلين لصلاة الظهر، وأبو بكر يصلي بالناس، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر، فأومأ إليه بأن لا يتأخر، قال: أجلساني إلى جنبه، فأجلساه إلى يسار أبي بكر، فكان أبو بكر يقتدي بصلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، ويسمع الناس التكبير.

قبل يوم:
وقبل يوم من الوفاة - يوم الأحد - أعتق النبي صلى الله عليه وسلم غلمانه، وتصدق بسبعة دنانير كانت عنده، ووهب للمسلمين أسلحته، وفي الليل استعارت عائشة الزيت للمصباح من جارتها، وكانت درعه صلى الله عليه وسلم مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعاً من الشعير.

آخر يوم من الحياة:
روى أنس بن مالك أن المسلمين بيناهم في صلاة الفجر من يوم الإثنين - وأبو بكر يصلي بهم - لم يفاجئهم إلا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كشف ستر حجرة عائشة فنظر إليهم، وهم في صفوف الصلاة، ثم تبسم يضحك، فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف، وظن أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يريد أن يخرج إلى الصلاة فقال أنس: وهمّ المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم، فرحا برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فأشار إليهم بيده رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن أتموا صلاتكم، ثم دخل الحجرة وأرخى الستر.
ثم لم يأت على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقت صلاة أخرى.
ولما ارتفع الضحى، دعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة فسارّها بشيء فبكت ثم دعاها، فسارها بشيءٍ فضحكت، قالت عائشة فسألنا عن ذلك - أي فيما بعد فقالت: سارني النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقبض في وجعه الذي توفى فيه، فبكيت ثم سارني فأخبرني أني أول أهله يتبعه فضحكت.
وبشر النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة بأنها سيدة نساء العالمين.
ورأت فاطمة ما برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الكرب الشديد الذي يتغشاه فقالت: واكرب أباه. فقال لها ليس على أبيك كرب بعد اليوم.
ودعا الحسن والحسين فقبلهما، وأوصى بهما خيراً، ودعا أزواجه فوعظهن وذكرهن.
وطفق الوجع يشتد ويزيد، وفد ظهر أثر السم الذي أكله بخيبر حتى كان يقول يا عائشة، ما أزال أنجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاعٍ أبهري من ذلك السم.
وأوصى الناس، فقال: الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم كرر ذلك مراراً.

الاختصار:
وبدأ الاحتضار فأسندته عائشة إليها، وكانت تقول: إن من نعم اللَّه علي أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم توفي في بيتي وفي يومي وبين سحري ونحري. وأن اللَّه جمع بين ريقي وريقه عند موته. دخل عبد الرحمن - بن أبي بكر - وبيده السواك، وأنا مسندة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فرأيته ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك، فقلت آخذه لك؟ فأشار برأسه أن نعم. فتناولته فاشتد عليه، وقلت: ألينه لك؟ فأشار برأسه أن نعم. فلينته، فأمره - وفي رواية أنه استن بها كأحسن ما كان مستناً - وبين يديه ركوة فيها ماء، فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بها وجهه، يقول لا إله إلا اللَّه، إن للموت سكرات - الحديث.
وما عدا أن فرغ من السواك حتى رفع يده أو إصبعه، وشخص بصره نحو السقف، وتحركت شفتاه فأصغت إليه عائشة وهو يقول مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهم اغفر لي وارحمني، وألحقني بالرفيق الأعلى، اللهم الرفيق الأعلى.
كدّر الكلمة الأخيرة ثلاثاً، ومالت يده ولحق بالرفيق الأعلى، إنا للَّه وإنا إليه راجعون.
وقع هذا الحادث حين اشتدت الضحى من يوم الإثنين 12 ربيع الأول سنة 11هـ. وقد تم له صلى الله عليه وسلم ثلاث وستون سنة وزادت أربعة أيام.
تفاقم الأحزان على الصحابة:
وتسرب النبأ الفادح، وأظلمت على أهل المدينة أرجاؤها وآفاقها. وقال أنس ما رأيت يوماً قط كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل علينا فيه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ،وما رأيت يوماً كان أقبح ولا أظلم من يوم مات فيه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم .
ولما مات قالت فاطمة يا أبتاه أجاب ربا دعاه، يا أبتاه، من جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه، إلى جبريل ننعاه.

موقف عمر:
ووقف عمر بن الخطاب - وقد أخرجه الخبر عن وعيه - يقول: إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم توفي، وإن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما مات. لكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، فغاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات، وواللَّه ليرجعن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أنه مات.

موقف أبي بكر:
وأقبل أبو بكر على فرس من مسكنه بالسنح حتى نزل، فدخل المسجد، فلم يكلم الناس، حتى دخل على عائشة فتيمم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وهو مغشى بثوب حبرة، فكشف عن وجهه ثم أكب عليه، فقبله وبكى، ثم قال: بأبي أنت وأمي، لا يجمع اللَّه عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متّها.
ثم خرج أبو بكر وعمر يكلم الناس، فقال: اجلس يا عمر، فأبى عمر أن يجلس، فأقبل الناس إليه، وتركوا عمر، فقال أبو بكر: أما بعد، من كان منكم يعبد محمداً صلى الله عليه وسلم فإن محمداً قد مات. ومن كان منكم يعبد اللَّه، فإن اللَّه حي لا يموت. قال اللَّه: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144] قال ابن عباس: واللَّه لكأن الناس لم يعلموا أن اللَّه أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها منه الناس كلهم فما أسمع بشراً من الناس إلا يتلوها.
قال ابن المسيب قال عمر واللَّه ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى ما تقلني رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها، علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات.
التجهيز وتوديع الجسد الشريف إلى الأرض:
ووقع الخلاف في أمر الخلافة قبل أن يقوموا بتجهيزه صلى الله عليه وسلم . فجرت مناقشات ومجادلات وحوار وردود بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة، وأخيراً اتفقوا على خلافة أبي بكر رضي اللَّه عنه، ومضى في ذلك بقية يوم الإثنين حتى دخل الليل، وشغل الناس عن جهاز رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى كان آخر الليل - ليلة الثلاثاء - مع الصبح، وبقي جسده المبارك على فراشه مغشى بثوب حبرة، قد أغلق دونه الباب أهله.
ويوم الثلاثاء غسلوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من غير أن يجردوه من ثيابه، وكان القائمون بالغسل العباس وعليا، والفضل وقثم ابني العباس، وشقران مولى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وأسامة بن زيد، وأوس بن خولي. فكان العباس والفضل وقثم يقلبونه، وأسامة وشقران يصبان الماء، وعلي يغسله، وأوس أسنده إلى صدره.
ثم كفنوه في ثلاثة أثواب بيض سحولية من كرسف، ليس فيها قميص ولا عمامة.أدرجوه فيها إدراجاً.
واختلفوا في موضع دفنه، فقال أبو بكر: إني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول "ما قبض نبي إلا دفن حيث يقبض"، فرفع أبو طلحة فراشه الذي توفي عليه، فحفر تحته، وجعل القبر لحداً.
ودخل الناس الحجرة أرسالاً عشرة فعشرة، يصلون على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ولا يؤمهم أحد، وصلى عليه أولاً أهل عشيرته، ثم المهاجرون، ثم الأنصار، وصلت عليه النساء بعد الرجال، ثم صلى عليه الصبيان.
ومضى في ذلك يوم الثلاثاء كاملاً، حتى دخلت ليلة الأربعاء، قالت عائشة: ما علمنا بدفن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى سمعنا صوت المساحي من جوف الليل من ليلة الأربعاء.


الناس يدخلون في دين اللَّه أفواجاً





الناس يدخلون في دين اللَّه أفواجاً
  • الوفود
  • نجاح الدعوة وأثرها
  • حجة الوداع


كانت غزوة فتح مكة - كما قلنا - معركة فاصلة، قضت على الوثنية قضاء باتاً، عرفت العرب لأجلها الحق من الباطل، وزالت عنهم الشبهات، فتسارعوا إلى اعتناق الإسلام. قال عمرو بن سلمة كنا بماء ممر الناس، وكان يمر بنا الركبان فنسألهم ما للناس؟ ما هذا الرجل؟ - أي النبي صلى الله عليه وسلم - فيقولون يزعم أن اللَّه أرسله. أوحى إليه... أوحى اللَّه كذا فكنت أحفظ ذلك الكلام، فكأنما يقرأ في صدري، وكانت العرب تلوم بإسلامهم الفتح، فيقولون اتركوه وقومه، فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق، فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قوم بإسلامهم، وبدر أبي قومي بإسلامهم، فلما قدم قال: جئتكم واللَّه من عند النبي صلى الله عليه وسلم حقاً. فقال: صلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلاة كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم، وليؤمكم أكثركم قرآناً. الحديث.
وهذا الحديث يدل على مدى أثر فتح مكة في تطوير الظروف، وتعزيز الإسلام، وتعيين الموقف للعرب، واستسلامهم للإسلام، وتأكد ذلك أي تأكد بعد غزوة تبوك، ولذلك نرى الوفود تقصد المدينة تترى في هذين العامين - التاسع والعاشر - ونرى الناس يدخلون في دين اللَّه أفواجاً، حتى إن الجيش الإسلامي الذي كان قوامه عشرة آلاف مقاتل في غزوة الفتح، إذا هو يزخرفي ثلاثين ألف مقاتل في غزوة تبوك قبل أن يمضي على فتح مكة عام كامل، ثم نرى في حجة الوداع بحراً من رجال الإسلام - مائة ألف من الناس أو مائة وأربعة وأربعون ألفاً منهم - يموج حول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالتلبية والتكبير والتسبيح والتحميد تدوي له الآفاق، وترتج له الأرجاء.

الوفود:
والوفود التي سردها أهل المغازي يزيد عددها على سبعين وفداً، لا يمكن لنا استقصاؤها، وليس كبير فائدة في بسط تفاصيلها، وإنما نذكر منها إجمالاً ماله روعة أو أهمية في التاريخ. وليكن على ذكر من القارىء أو وفادة عامة القبائل وإن كانت بعد الفتح، ولكن هناك قبائل توافدت قبله أيضاً:
  1. وفد عبد القيس - كانت لهذه القبيلة وفادتان الأولى سنة خمس من الهجرة أو قبل ذلك. كان رجل منهم يقال له منقذ بن حيان، يرد المدينة بالتجارة فلما جاء المدينة بتجارته بعد مقدم النبي صلى الله عليه وسلم ، وعلم بالإسلام أسلم وذهب بكتاب من النبي صلى الله عليه وسلم ، إلى قومه فأسلموا، فتوافدوا إليه في شهر حرام في ثلاثة أو أربعة عشر رجلاً، وفيها سألوا عن الإيمان وعن الأشربة، وكان كبيرهم الأشج العصري الذي قال فيه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن فيك خصلتين يحبهما اللَّه، الحلم والأناة".
والوفادة الثانية كانت في سنة الوفود، وكان عددهم فيها أربعين رجلاً، وكان فيهم الجارود بن العلاء العبدي، وكان نصرانياً فأسلم وحسن إسلامه.
  1. وفد دوس - كانت وفادة هذه القبيلة في أوائل سنة سبع، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بخيبر، وقد قدمنا حديث إسلام الطفيل بن عمرو الدوسي، وأنه أسلم ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بمكة، ثم رجع إلى قومه، فلم يزل يدعوهم إلى الإسلام، ويبطئون عليه حتى يئس منهم، ورجع إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فطلب منه أن يدعو على دوس، فقال: اللهم اهد دوساً. ثم أسلم هؤلاء فوفد الطفيل بسبعين أو ثمانين بيتاً من قومه إلى المدينة في أوائل سنة سبع ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بخيبر فلحق به.
  2. رسول فروة بن عمرو الجذامي - كان فروة قائداً عربياً من قواد الرومان، عاملاً لهم على من يليهم من العرب، وكان منزله معان وما حوله من أرض الشام، أسلم بعد ما رأى من جلاد المسلمين وشجاعتهم، وصدقهم اللقاء في معركة مؤتة سنة 8هـ ولما أسلم بعث إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رسولاً بإسلامه، وأهدى له بغلة بيضاء، ولما علم الروم بإسلامه أخذوه فحبسوه، ثم خيروه بين الردة والموت، فاختار الموت على الردة، فصلبوه بفلسطين على ماء يقال له عفراء، وضربوا عنقه.
  3. وفد صداء - جاء هذا الوفد عقب انصراف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الجعرانة سنة ه. وذلك أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هيأ بعثة من أربعمائة من المسلمين، وأمرهم أن يطأوا ناحية من اليمن فيها صداء. وبينما ذلك البعث عمل معسكراً بصدر قناة، علم به زياد بن الحارث الصدائي، فجاء إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فقال: جئتك وافداً على من ورائي، فاردد الجيش وأنا لك بقومي. فرد الجيش من صدر قناة، وجاء الصدائي إلى قومه فرغبهم في القدوم على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فقدم عليه خمسة عشر رجلاً منهم، وبايعوه على الإسلام، ثم رجعوا إلى قومهم، فدعوهم ففشا فيهم الإسلام، فوافى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم منهم مائة رجل في حجة الوداع.
  4. قدوم كعب بن زهير بن أبي سلمى - كان من بيت الشعراء، من أشعر العرب، وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما انصرف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من غزوة الطائف سنة 8هـ، كتب إلى كعب بن زهير أخوه بجير بن زهير أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قتل رجالاً بمكة ممن كانوا يهجونه ويؤذونه، ومن بقي من شعراء قريش هربوا في كل وجه، فإن كانت لك في نفسك حاجة فطر إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فإنه لا يقتل أحداً جاء تائباً، وإلا فانج إلى نجاتك. ثم جرى بين الأخوين مراسلات ضاقت لأجلها الأرض على كعب، وأشفق على نفسه، فجاء المدينة، ونزل على رجل من جهينة وصلى معه الصبح. فلما انصرف أشار عليه الجهني، فقام إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى جلس إليه، فوضع يده في يده، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا يعرفه فقال: يا رسول اللَّه. إن كعب بن زهير قد جاء ليستأمن منك تائباً مسلماً، فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به؟ قال: نعم. قال: أنا كعب بن زهير. فوثب عليه رجل من الأنصار يستأذن ضرب عنقه، فقال: دعه عنك، فإنه قد جاء تائباً نازعاً عما كان عليه.
وحينئذ أنشد كعب قصيدته المشهورة التي أولها:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول متيم إثرها، لم يفد، مكبول
قال فيها - وهو يعتذر إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، ويمدحه -:
نبئت أن رسول اللَّه أوعدني والعفو عند رسول اللَّه مأمول
مهلاً هداك الذي أعطاك نافلة الـ ـقرآن فيها مواعيظ وتفضيل
لا تأْخُذَنْ بأقوال الوشاة ولم أذنب، ولو كثرت في الأقاويل
لقد أقوم مقاماً لو يقوم به أرى وأسمع ما لو يسمع الفيل
لظل يرعد، إلا أن يكون له من الرسول بإذن اللَّه تنويل
حتى وضعت يمين ما أنازعه في كف ذي نقمات قيلة القيل
فلهو أخوف عندي إذ أكلمه وقيل: إنك منسوب ومسؤول
من ضيغم بضراء الأرض مخدره في بطن عثر غيل دونه غيل
إن الرسول لنور يستضاء به مهند من سيوف اللَّه مسلول
ثم مدح المهاجرين من قريش؛ لأنهم لم يكن قد تكلم منهم رجل في كعب حين جاء إلا بخير، وعرض في أثناء مدحهم على الأنصار لاستئذان رجل منهم في ضرب عنقه، قال:
يمشون مشي الجمال الزهر يعصمهم ضرب إذا عرد السود التنابيل
فلما أسلم وحسن إسلامه مدح الأنصار في قصيدة له، وتدارك ما كان قد فرط منه في شأنهم، قال في تلك القصيدة:
من سره كرم الحياة فلا يزل في مقنب من صالحي الأنصار
ورثوا المكارم كابراً عن كابر إن الخيار هم بنو الأخيار
  1. وفد عذرة - قدم هذا الوفد في صفر سنة 9هـ - وهم اثنا عشر رجلاً فيهم حمزة بن النعمان. قال متكلمهم حين سئلوا من القوم: نحن بنوا عذرة إخوة قصي لأمه، نحن الذين عضدوا قصياً، وأزاحوا من بطن مكة خزاعي وبني بكر لنا قرابات وأرحام، فرحب بهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وبشرهم بفتح الشام، ونهاهم عن سؤال الكاهنة، وعن الذبائح التي كانوا يذبحونها، أسلموا وأقاموا أياماً ثم رجعوا.
  2. وفد بلى - قدم في ربيع الأول سنة 9هـ، وأسلم وأقام بالمدينة ثلاثاً وقد سأل رئيسهم أبو الضبيب عن الضيافة هل فيها أجر؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نعم. وكل معروف صنعته إلى غني أو فقير فهو صدقة، وسأل عن وقت الضيافة، فقال: ثلاثة أيام، وسأل عن ضالة الغنم فقال: هي لك أو لأخيك أو للذئب، وسأل عن ضالة البعير. فقال: مالك وله؟ دعه حتى يجده صاحبه.
  3. وفد ثقيف - كانت وفادتهم في رمضان سنة 9هـ، بعد مرجع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من تبوك. وقصة إسلامهم أن رئيسهم عروة بن مسعود الثقفي جاء إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعد مرجعه من غزوة الطائف في ذي القعدة سنة 8هـ قبل أن يصل إلى المدينة، فأسلم عروة، ورجع إلى قومه، ودعاهم إلى الإسلام - وهو يظن انهم يطيعونه، لأنه كان سيداً مطاعاً في قومه وكان أحب إليهم من أبكارهم - فلما دعاهم إلى الإسلام رموه بالنبل من كل وجه حتى قتلوه، ثم أقاموا بعد قتله أشهراً، ثم ائتمروا بينهم، ورأوا أنه لا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب - الذين كانوا قد بايعوا وأسلموا - فأجمعوا أن يرسلوا رجلاً إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فكلموا عبد ياليل بن عمرو، وعرضوا عليه ذلك فأبى، وخاف أن يصنعوا به إذا رجع مثل ما صنعوا بعروة، وقال: لست فاعلاً حتى ترسلوا معي رجالاً، فبعثوا معه رجلين من الأحلاف وثلاثة من بني مالك، فصاروا ستة فيهم عثمان بن أبي العاص الثقفي، وكان أحدثهم سناً.
فلما قدموا على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ضرب عليهم قبة في ناحية المسجد، لكي يسمعوا القرآن، ويروا الناس إذا صلوا، ومكثوا يختلفون إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وهو يدعوهم إلى الإسلام، حتى سأل رئيسهم أن يكتب لهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قضية صلح بينهم وبين ثقيف، يأذن لهم فيها بالزنى وشرب الخمور وأكل الربا، ويترك لهم طاغيتهم اللات، وأن يعفيهم من الصلاة وأن لا يكسروا أصنامهم بأيديهم، فأبى رسول اللَّه أن يقبل شيئاً من ذلك، فخلوا وتشاوروا فلم يجدوا محيصاً من الاستسلام لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فاستسلموا وأسلموا، واشترطوا أن يتولى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هدم اللات، وأن ثقيفاً لا يهدمونها بأيديهم أبداً. فقبل ذلك، وكتب لهم كتاباً، وأمرعليهم عثمان بن أبي العاص الثقفي، لأنه كان أحرصهم على التفقه في الإسلام وتعلم الدين والقرآن. وذلك أن الوفد كانوا كل يوم يفدون إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، ويخلفون عثمان بن أبي العاص في رحالهم، فإذا رجعوا وقالوا بالهاجرة عمد عثمان بن أبي العاص إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فاستقرأه القرآن، وسأله عن الدين، وإذا وجده نائماً عمد إلى أبي بكر لنفس الغرض (وكان من أعظم الناس بركة لقومه في زمن الردة، فإن ثقيفاً لما عزمت على الردة قال لهم: يا معشر ثقيف كنتم آخر الناس إسلاماً، فلا تكونوا أول الناس ردة، فامتنعوا على الردة، وثبتوا على الإسلام).
ورجع الوفد إلى قومه فكتمهم الحقيقة، وخوفهم بالحرب والقتال، وأظهر الحزن والكآبة، وأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سألهم ترك الزنى والخمر والربا وغيرها وإلا يقاتلهم. فأخذت ثقيفاً نخوة الجاهلية، فمكثوا يومين أو ثلاثة يريدون القتال، ثم ألقى اللَّه في قلوبهم الرعب، وقالوا للوفد ارجعوا إليه فاعطوه ما سأل، وحينئذ أبدى الوفد حقيقة الأمر، وأظهروا ما صالحوا عليه، فأسلمت ثقيف.
وبعث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رجالاً لهدم اللات، أمر عليهم خالد بن الوليد، فقام المغيرة بن شعبة، فأخذ الكرزين وقال لأصحابه و اللَّه لأضحكنكم من ثقيف، فضرب بالكرزين، ثم سقط يركض، فارتج أهل الطائف، وقالوا: أبعد اللَّه المغيرة، قتلته الربة، فوثب المغيرة فقال: قبحكم اللَّه، إنما هي لكاع حجارة ومدر، ثم ضرب الباب فكسره، ثم علا أعلى سورها، وعلا الرجال فهدموها وسووها بالأرض حتى حفروا أساسها. وأخرجوا حليها ولباسها، فبهتت ثقيف، ورجع خالد مع مفرزته لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بحليها وكسوتها، فقسمه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من يومه، وحمد اللَّه على نصرة نبيه وإعزاز دينه.
  1. رسالة ملوك اليمن - وبعد مرجع النبي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من تبوك قدم كتاب ملوك حمير، وهم الحارث بن عبد كلال، ونعيم بن عبد كلال، والنعمان بن قيل ذي رعين، وهمدان ومعافر، ورسولهم إليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مالك بن مرة الرهاوي، بعثوه بإسلامهم ومفارقتهم الشرك وأهله، وكتب إليهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كتاباً بين فيه ما للمؤمنين وما عليهم، وأعطى فيه المعاهدين ذمة اللَّه وذمة رسوله إذا أعطوا ما عليهم من الجزية، وبعث إليهم رجالاً من أصحابه أميرهم معاذ بن جبل.
  2. وفد همدان - قدموا سنة 9هـ بعد مرجع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من تبوك، فكتب لهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كتاباً أقطعهم فيه ما سألوه، وأمر عليهم مالك بن النمط، واستعمله على من أسلم من قومه، وبعث إلى سائرهم خالد بن الوليد يدعوهم إلى الإسلام، فأقام ستة أشهر يدعوهم فلم يجيبوه، ثم بعث علي بن أبي طالب، وأمره أن يقفل خالداً، فجاء علي إلى همدان، وقرأ عليهم كتاباً من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، ودعاهم إلى الإسلام فأسلموا جميعاً، وكتب علي ببشارة إسلامهم إلي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فلما قرأ الكتاب خر ساجداً، ثم رفع رأسه فقال: السلام على همدان، السلام على همدان.
  3. وفد بني فزارة - قدم هذا الوفد سنة 9هـ بعد مرجعه صلى الله عليه وسلم من تبوك، قدم في بضعة عشر رجلاً جاؤوا مقرين بالإسلام، وشكوا جدب بلادهم، فصعد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المنبر، فرفع يديه واستسقى، وقال: اللهم اسق بلادك وبهائمك، وانشر رحمتك، وأحيي بلدك الميت، اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً مريحاً مريعاً، طبقاً واسعاً، عاجلاً، غير آجل، نافعاً غير ضار، اللهم سقيا رحمة، لا سقيا عذاب، ولا هدم ولا غرق ولا محق، اللهم اسقنا الغيث، وانصرنا على الأعداء.
  4. وفد نجران - نجران، بفتح النون وسكون الجيم بلد كبير على سبع مراحل من مكة إلى جهة اليمن، كان يشتمل على ثلاث وسبعين قرية، مسيرة يوم للراكب السريع، وكان يؤلف مائة ألف مقاتل كانوا على دين المسيحية.
وكانت وفادة أهل نجران سنة 9هـ، وقوام الوفد ستون رجلاً منهم أربعة وعشرون من الأشراف، فيهم ثلاثة كانت إليهم زعامة أهل نجران. أحدهم العاقب، كانت إليه الإمارة والحكومة واسمه عبد المسيح، والثاني السيد، كانت تحت إشرافه الأمور الثقافية والسياسية واسمه الأيهم أو شرحبيل، والثالث الأسقف وكانت إليه الزعامة الدينية، والقيادة الروحانية، واسمه أبو حارثة بن علقمة..
ولما نزل الوفد بالمدينة، ولقى النبي صلى الله عليه وسلم سألهم وسألوه، ثم دعاهم إلى الإسلام، وتلا عليهم القرآن فامتنعوا، وسألوه عما يقول في عيسى عليه السلام، فمكث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يومه ذلك حتى نزل عليه {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 59-61].
ولما أصبح رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أخبرهم بقوله في عيسى ابن مريم في ضوء هذه الآية الكريمة، وتركهم ذلك اليوم؛ ليفكروا في أمرهم، فأبوا إن يقروا بما قال في عيسى. فلما أصبحوا وقد أبوا عن قبول ما عرض عليهم من قوله في عيسى، وأبوا عن الإسلام دعاهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى المباهلة، وأقبل مشتملاً على الحسن والحسين في خميل له، وفاطمة تمشي عند ظهره، فلما رأوا منه الجد والتهيؤ خلوا وتشاوروا، فقال كل من العاقب والسيد للآخر لا تفعل فواللَّه لئن كان نبياً فلاعننا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا، فلا يبقى على وجه الأرض منا شعرة ولا ظفر إلا هلك، ثم اجتمع رأيهم على تحكيم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في أمرهم، فجاؤوا وقالوا: إنا نعطيك ما سألتنا. فقبل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم منهم الجزية، وصالحهم على ألفي حلة. ألف في صفر، ومع كل حلة أوقية، وأعطاهم ذمة اللَّه وذمة رسوله. وترك لهم الحرية الكاملة في دينهم، وكتب لهم بذلك كتاباً، وطلبوا منه أن يبعث عليهم رجلاً أميناً فبعث عليهم أمين هذه الأمة أبا عبيدة بن الجراح؛ ليقتص مال الصلح.
ثم طفق الإسلام يفشو فيهم، فقد ذكروا أن السيد والعاقب أسلما بعد ما رجعا إلى نجران، وأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إليهم علياً؛ ليأتيه بصدقاتهم وجزيتهم، ومعلوم أن الصدقة إنما تؤخذ من المسلمين.
  1. وفد بني حنيفة - كانت وفادتهم سنة 9هـ، وكانوا سبعة عشر رجلاً فيهم مسيلمة الكذاب - وهو مسيلمة بن ثمامة بن كبير بن حبيب بن الحارث من بني حنيفة - نزل هذا الوفد في بيت رجل من الأنصار، ثم جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلموا، واختلفت الروايات في مسيلمة الكذاب، ويظهر بعد التأمل في جميعها أن مسيلمة صدر منه الاستنكاف والأنفة والاستكبار والطموح إلى الإماة وأنه لم يحضر مع سائر الوفد إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أراد استئلافه بالإحسان بالقول والفعل أولاً. فلما رأى أن ذلك لا يجدي نفعاً تفرس فيه الشر.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى قبل ذلك في المنام أنه أتى بخزائن الأرض، فوقع في يديه سواران من ذهب، فكبرا عليه وأهماه، فأوحى إليه أن انفخهما فنفخهما فذهبا، فأولهما كذابين يخرجان من بعده، فلما صدر من مسيلمة ما صدر من الاستنكاف - وقد كان يقول إن جعل لي محمد الأمر من بعده تبعته - جاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وفي يده قطعة من جريد، ومعه خطيبه ثابت بن قيس بن شماس، حتى وقف على مسيلمة في أصحابه، فكلمه فقال له مسيلمة إن شئت خلينا بينك وبين الأمر، ثم جعلته لنا بعدك، فقال: لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها، ولن تعدو أمر اللَّه فيك، ولئن أدبرت ليعقرنك اللَّه، واللَّه إني لأراك الذي أريت فيه ما رأيت، وهذا ثابت يجيبك عني. ثم انصرف.
وأخيراً وقع ما تفرس فيه النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن مسيلمة لما رجع إلى اليمامة بقي يفكر في أمره حتى ادعى أنه أشرك في الأمر مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فادعى النبوة، وجعل يسجع السجعات، وأحل لقومه الخمر والزنى، وهو مع ذلك يشهد لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه نبي، وافتتن به قومه فتبعوه، وأصفقوا معه، حتى تفاقم أمره، فكان يقال له رحمان اليمامة لعظم قدره فيهم. وكتب إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كتاباً قال فيه إني أشركت في الأمر معك، وإن لنا نصف الأمر، ولقريش نصف الأمر، فرد عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بكتاب قال فيه إن الأرض للَّه يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين.
وعن ابن مسعود قال: جاء ابن النوحة، وابن أثال رسولاً مسيلمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال لهما أتشهدان أني رسول اللَّه؟ فقالا نشهد أن مسيلمة رسول اللَّه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم آمنت باللَّه ورسوله. لو كنت قاتلاً رسولاً لقتلتكما.
كان ادعاء مسيلمة النبوة سنة عشر، وقتل في حرب اليمامة في عهد أبي بكر رضي اللَّه عنه في ربيع الأول سنة 12، قتله وحشي قاتل حمزة، وأما المتنبىء الثاني، وهو الأسود العنسي الذي كان باليمن، فقتله فيروز، واحتز رأسه قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بيوم وليلة، فأتاه الوحي فأخبر به أصحابه، ثم جاء الخبر من اليمن إلى أبي بكر رضي اللَّه عنه.
  1. وفد بني عامر بن صعصعة - كان فيهم عامر بن الطفيل عدو اللَّه وأربد بن قيس - أخو لبيد لأمه - وخالد بن جعفر، وجبار بن أسلم، وكانوا رؤساء القوم وشياطينهم، وكان عامر هو الذي غدر بأصحاب بئر معونة، فلما أراد هذا الوفد أن يقدم المدينة تآمر عامر وأربد، واتفقا على الفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم ، فلما جاء الوفد جعل عامر يكلم النبي صلى الله عليه وسلم ، ودار أربد خلفه، واخترط سيفه شبرا، ثم حبس اللَّه يده فلم يقدر على سله، وعصم اللَّه نبيه، ودعا عليهما النبي صلى الله عليه وسلم فلما رجعا أرسل اللَّه على أربد وجمله صاعقة فأحرقته، وأما عامر فنزل على امرأة سلولية، فأصيب بغدة في عنقه فمات وهو يقول أغدة كغدة البعير، وموتاً في بيت السلولية.
وفي صحيح البخاري أن عامراً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أخيرك بين خصال ثلاث يكون لك أهل السهل ولي أهل المدر، أو أكون خليفتك من بعدك، أو أغزوك بغطفان بألف أشقر وألف شقراء، فطعن في بيت امرأة فقال: أغدة كغدة البعير، في بيت امرأة من بني فلان إيتوني بفرسي فركب، فمات على فرسه.
  1. وفد تجيب - قدم هذا الوفد بصدقات قومه مما فضل عن فقرائهم وكان الوفد ثلاثة عشر رجلاً، وكانوا يسألون عن القرآن والسنن يتعلمونها، وسألوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فكتب لهم بها، ولم يطلبوا اللبث، ولما أجازهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعثوا إليه غلاماً كانوا خلفوه في رحالهم، فجاء الغلام، وقال: واللَّه ما أعملني من بلادي إلا أن تسأل اللَّه عز وجل أن يغفر لي ويرحمني، وأن يجعل غناي في قلبي، فدعا له بذلك. فكان أقنع الناس، وثبت في الردة على الإسلام وذكر قومه ووعظهم فثبتوا عليه، والتقى أهل الوفد بالنبي صلى الله عليه وسلم مرة أخرى في حجة الوداع سنة 10هـ.
  2. وفد طيء - قدم هذا الوفد وفيهم زيد الخيل، فلما كلموا النبي صلى الله عليه وسلم ، وعرض عليهم الإسلام أسلموا وحسن إسلامهم، وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن زيد ما ذكر لي رجل من العرب بفضل، ثم جاءني إلا رأيته دون ما يقال فيه، إلا زيد الخيل فإنه لم يبلغ كل ما فيه، وسماه زيد الخير.
وهكذا تتابعت الوفود إلى المدينة في سنتي تسع وعشر، وقد ذكر أهل المغازي والسير منها وفود أهل اليمن، والأزد وبني سعد هذيم من قضاعة، وبني عامر بن قيس، بني أسد، وبهراء، وخولان ومحارب، وبني الحارث، كعب، وغامد بني المنتفق، وسلامان، وبني عبس، ومزينة، ومراد، وزبيد، وكندة، وذي مرة، وغسان، وبني عيش، ونخع - وهو آخر الوفود، توافد في منتصف محرم سنة 11هـ في مائتي رجل - وكانت وفادة الأغلبيةمن هذه الوفود سنة 11 و10هـ وقد تأخرت وفادة بعضها إلى سنة 11هـ.
وتتابع هذه الوفود يدل على مدى ما نالت الدعوة الإسلامية من القبول التام وبسط السيطرة والنفوذ على أنحاء جزيرة العرب وأرجائها، وأن العرب كانت تنظر إلى المدينة بنظر التقدير والإجلال، حتى لم تكن ترى محيصاً عن الاستسلام أمامها، فقد صارت المدينة عاصمة لجزيرة العرب، لا يمكن صرف النظر عنها. إلا أننا لا يمكن لنا القول بأن الدين قد تمكن من أنفس هؤلاء بأسرهم، لأنه كان وسطهم كثيراً من الأعراب الجفاة الذين أسلموا تبعاً لسادتهم، ولم تكن أنفسهم قد خلصت بعد مما تأصل فيها من الميل إلى الغارات، ولم تكن تعاليم الإسلام قد هذبت أنفسهم تمام التهذيب، وقد وصل القرآن بعضهم بقوله في سورة التوبة: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 97-98] وأثنى على آخرين منهم فقال: {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 99].
أما الحاضرون منهم في مكة والمدينة وثقيف، وكثير من اليمن والبحرين فقد كان الإسلام فيهم قوياً، ومنهم كبار الصحابة وسادات المسلمين.

نجاح الدعوة وأثرها
وقبل أن نتقدم خطوة أخرى إلى مطالعة أواخر أيام حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ينبغي لنا أن نلقي نظرة إجمالية على العمل الجليل الذي هو فذلكة حياته، والذي امتاز به عن سائر الأنبياء والمرسلين حتى توج اللَّه هامته بسيادة الأولين والآخرين.
إنه صلى الله عليه وسلم قيل له: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا} [المزمل: 1-2] و {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر: 1-2]، فقام، وظل قائماً أكثر من عشرين عاماً يحمل على عاتقه عبء الأمانة الكبرى في هذه الأرض، عبء البشرية كلها؛ وعبء العقيدة كلها، وعبء الكفاح والجهاد في ميادين شتى.
حمل عبء الكفاح والجهاد في ميدان الضمير البشري الغارق في أوهام الجاهلية وتصوراتها، المثقل بأثقال الأرض وجواذبها، المكبل بأوهان الشهوات وأغلالها، حتى إذا خلص هذا الضمير في بعض صحابته مما يثقله من ركام الجاهلية والحياة الأرضية، بدأ معركة أخرى في ميدان آخر، الحريصين على قتل هذه الغرسة الزكية في منبتها، بل معارك متلاصقة مع أعداء اللَّه وعزة المتألبين عليها وعلى المؤمنين بها قبل أن تنمو وتمد جذورها في التربة، وفروعها في الفضاء، وتظل مساحات أخرى. ولم يكد يفرغ من معارك الجزيرة العربية حتى كانت الروم تعد لهذه الأمة الجديدة، وتتهيأ للبطش بها على تخومها الشمالية.
وفي أثناء هذا كله لم تكن المعركة الأولى - معركة الضمير - قد انتهت. فهي معركة خالدة، الشيطان صاحبها، وهو لا يتوانى لحظة عن مزاولة نشاطه في أعماق الضمير الإنساني. ومحمد صلى الله عليه وسلم قائم على دعوة اللَّه هناك، وعلى المعركة الدائبة في ميادينها المتفرقة، في شظف من العيش، والدنيا مقبلة عليه. وفي جهد وكد، والمؤمنون يستروحون من حوله ظلال الأمن والراحة، وفي نصب دائم لا ينقطع، وفي صبر جميل على هذا كله، وفي قيام الليل، وفي عبادة لربه وترتيل لقرآنه، وتبتل إليه كما أمره أن يفعل.
وهكذا عاش في المعركة الدائبة المستمرة أكثر من عشرين عاماً، لا يلهيه شأن عن شأن في خلال هذا الأمد، حتى نجحت الدعوة الإسلامية على نطاق واسع تتحير له العقول، فقد دانت لها الجزيرة العربية، وزالت غبرة الجاهلية عن آفاقها. وصحت العقول العليلة حتى تركت الأصنام بل كسرت، وأخذ الجو يرتج بأصواب التوحيد، وسمع الأذان للصلوات يشق أجواء الفضاء خلال الصحراء التي أحياها الإيمان الجديد، وانطلق القراء شمالاً وجنوباً، يتلون آيات الكتاب، ويقيمون أحكام اللَّه.
وتوحدت الشعوب والقبائل المتناثرة، وخرج الإنسان من عبادة العباد إلى عبادة اللَّه، فليس هناك قاهر ومقهور، وسادات وعبيد، وحكام ومحكومون، وظالم ومظلوم، وإنما الناس كلهم عباد اللَّه، إخوان متحابون، متمثلون لأحكامه، أذهب اللَّه عنهم عيبة الجاهلية ونخوتها وتعاظمها بالآباء، ولم يبق هناك فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى، الناس كلهم بنو آدم، وآدم من تراب.
وهكذا تحققت - بفضل هذه الدعوة - الوحدة العربية، والوحدة الإنسانية والعدالة الاجتماعية، والسعادة البشرية في قضاياها ومشاكلها الدنيوية، وفي مسائلها الأخروية، فتقلب مجرى الأيام، وتغير وجه الأرض، وانعدل خط التاريخ، وتبدلت العقلية.
إن العالم كانت تسيطر عليه روح الجاهلية - قبل هذه الدعوة - ويتعفن ضميره، وتأنس روحه، وتختل فيه القيم والمقاييس، ويسوده الظلم والعبودية، وتجتاحه موجة من الترف الفاجر والحرمان التاعس، وتغشاه غاشية الكفر والضلال والظلام، على الرغم من الديانات السماوية، التي كانت قد أدركها التحريف، وسرى فيها الضعف، وفقدت سيطرتها على النفوس، واستحالت طقوساً جامدة لا حياة فيها ولا روح.
فلما قامت هذه الدعوة بدورها في حياة البشرية، خلصت روح البشر من الوهم والخرافة، ومن العبودية والرق، ومن الفساد والتعفن، ومن القذارة والانحلال، وخلصت المجتمع الإنساني من الظلم والطغيان، ومن التفكك والانهيار، ومن فوارق الطبقات، واستبداد الحكام، واستذلال الكهان. وقامت ببناء العالم على أسس من العفة والنظافة، والإيجابية والبناء، والحرية والتجدد، ومن المعرفة واليقين، والثقة والإيمان والعدالة والكرامة، ومن العمل الدائب؛ لتنمية الحياة، وترقية الحياة، وإعطاء كل ذي حق حقه في الحياة.
وبفضل هذه التطورات شاهدت الجزيرة العربية نهضة مباركة لم تشاهد مثلها منذ نشأ فوقها العمران، ولم يتألق تاريخها تألقه في هذه الأيام الفريدة من عمرها.

حجة الوداع
تمت أعمال الدعوة، وإبلاغ الرسالة، وبناء مجتمع جديد على أساس إثبات الألوهية للَّه، ونفيها عن غيره، وعلى أساس رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، وكأن هاتفاً خفياً انبعث في قلب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، يشعره أن مقامه في الدنيا قد أوشك على النهاية، حتى إنه حين بعث معاذاً على اليمن سنة 10هـ قال له فيما قال: يا معاذ إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك أن تمر بمسجدي هذا وقبري، فبكى معاذ خشعاً لفراق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم .
وشاء اللَّه أن يرى رسوله صلى الله عليه وسلم ثمار دعوته التي عانى في سبيلها ألواناً من المتاعب بضعاً وعشرين عاماً، فيجتمع في أطراف مكة بأفراد قبائل العرب وممثليها، فيأخذوا منه شرائع الدين وأحكامه، ويأخذ منهم الشهادة على أنه أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة.
أعلن النبي صلى الله عليه وسلم بقصده لهذه الحجة المبرورة المشهودة، فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم . وفي يوم السبت لأربع بقين من ذي القعدة تهيأ النبي صلى الله عليه وسلم للرحيل، فترجل وادهن ولبس إزاره ورداءه وقلد بدنه، وانطلق بعد الظهر، حتى بلغ ذا الحليفة قبل أن يصلي العصر، فصلاها ركعتين، وبات هناك حتى أصبح. فلما أصبح قال لأصحابه أتاني الليلة آت من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة.
وقبل أن يصلي الظهر اغتسل لإحرامه، ثم طيبته عائشة بيدها بذريرة وطيب فيه مسك، في بدنه ورأسه، حتى كان وبيص الطيب يرى في مفارقه ولحيته، ثم إستدامه ولم يغسله، ثم لبس إزاره ورداءه، ثم صلى الظهر ركعتين، ثم أهل بالحج والعمرة في مصلاه، وقرن بينهما، ثم خرج، فركب القصواء، فأهل أيضاً ثم أهل لما استقلت به على البيداء.
ثم واصل سيره حتى قرب من مكة، فبات بذي طوى، ثم دخل مكة بعد أن صلى الفجر واغتسل من صباح يوم الأحد لأربع ليال خلون من ذي الحجة سنة 10هـ - وقد قضى في الطريق ثمان ليال، وهي المسافة الوسطى - فلما دخل المسجد الحرام طاف بالبيت، وسعى بين الصفا والمروة، ولم يحل، لأنه كان قارناً قد ساق معه الهدى، فنزل بأعلى مكة عند الحجون، وأقام هناك، ولم يعد إلى الطواف غير طواف الحج.
وأمر من لم يكن معه هدي من أصحابه أن يجعلوا إحرامهم عمرة، فيطوفوا بالبيت وبين الصفا والمروة، ثم يحلوا حلالاً تاماً، فترددوا، فقال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت، ولولا أن معي الهدي لأحللت، فحل من لم يكن معه هدي، وسمعوا وأطاعوا.
وفي اليوم الثامن من ذي الحجة - وهو يوم التروية - توجه إلى منى، فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر - خمس صلوات - ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس، فأجاز حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها، حتى إذا زالت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له، فأتى بطن الوادي، وقد اجتمع حوله مائة ألف وأربعة وعشرون أو أربعة وأربعون ألفاً من الناس، فقام فيهم خطيباً، وألقى هذه الخطبة الجامعة:
أيها الناس اسمعوا قولي، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً.
إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا. ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث - وكان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل - وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع من ربانا ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله.
فاتقوا اللَّه في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة اللَّه، واستحللتم فروجهن بكلمة اللَّه، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف.
وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به، كتاب اللَّه.
أيها الناس، إنه لا نبي بعدي، ولا أمة بعدكم، ألا فاعبدوا ربكم، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، طيبة بها أنفسكم، وتحجون بيت ربكم، وأطيعوا أولات أمركم، تدخلوا جنة ربكم.
وأنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت.
فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء، وينكتها إلى الناس اللهم اشهد ثلاث مرات.
وكان الذي يصرخ في الناس بقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم - وهو بعرفة - ربيعة بن أمية بن خلف.
وبعد أن فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من إلقاء الخطبة نزل عليه قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3] وعندما سمعها عمر بكى، فقيل له ما يبكيك؟ قال: إنه ليس بعد الكمال إلا النقصان.
وبعد الخطبة أذن بلال ثم أقام، فصلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالناس الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئاً. ثم ركب حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة، فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس، وذهبت الصفرة قليلاً حتى غاب القرص.
وأردف أسامة، ودفع حتى أتى المزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئاً، ثم اضطجع حتى طلع الفجر، فصلى الفجر حتى تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، فدعاه، وكبره، وهلله، ووحده، فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً.
فدفع - من المزدلفة إلى منى - قبل أن تطلع الشمس، وأردف الفضل بن عباس حتى أتى بطن محسر، فحرك قليلاً، ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة - وهي الجمرة الكبرى نفسها، كانت عندها شجرة في ذلك الزمان، وتسمى بجمرة العقبة وبالجمرة الأولى - فرماها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة منها، مثل حصى الخذف رمى من بطن الوادي، ثم انصرف إلى المنحر، فنحر ثلاثاً وستين بدنة بيده، ثم أعطى علياً فنحر ما غبر - وهي سبع وثلاثون بدنة، تمام المائة - وأشركه في هديه ثم أمر من كل بدنة ببضعة، فجعلت في قدر، فطبخت، فأكلا من لحمها، وشربا من مرقها.
ثم ركب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فأفاض إلى البيت، فصلى بمكة الظهر فأتى على بني عبد المطلب يسقون على زمزم، فقال: انزعوا بني عبد المطلب، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم، فناولوه دلواً فشرب منه.
وخطب االنبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر - عاشر ذي الحجة - أيضاً حين ارتفع الضحى، وهو على بغلة شهباء؛ وعلي يعبر عنه، والناس بين قائم وقاعد وأعاد في خطبته هذه بعض ما كان ألقاه أمس، فقد روى الشيخان عن أبي بكر قال: خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر، قال
إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم، ثلاث متواليات، ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان.
وقال: أي شهر هذا؟ قلنا: اللَّه ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس ذا الحجة؟ قلنا: بلى، قال: أي بلد هذا؟ قلنا اللَّه ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليست البلدة؟ قلنا: بلى. فأي يوم هذا؟ قلنا: اللَّه ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى. قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا.
وستلقون ربكم، فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي ضلالاً يضرب بعضكم رقاب بعض.
ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، قال: اللهم اشهد. فليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع.
وفي رواية أنه قال في تلك الخطبة ألا لا يجني جان إلا على نفسه، ألا لا يجني جان على ولده، ولا مولود على والده، ألا إن الشيطان قد يئس أن يعبد في بلدكم هذا أبداً، ولكن ستكون له طاعة فيما تحتقرون من أعمالكم، فسيرضى به.
وأقام أيام التشريق بمنى يؤدي المناسك ويعلم الشرائع، ويذكر اللَّه، ويقيم سنن الهدى من ملة إبراهيم، ويمحو آثار الشرك ومعالمها، وقد خطب في بعض أيام التشريق أيضاً، فقد روى أبو داود بإسناد حسن عن سراء بنت نبهان قالت: خطبنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم الرؤوس، فقال: أليس هذا أوسط أيام التشريق. وكانت خطبته في هذا اليوم مثل خطبته يوم النحر، ووقعت هذه الخطبة عقب نزول سورة النصر.
وفي يوم النفر الثاني - الثالث عشر من ذي الحجة - نفر النبي صلى الله عليه وسلم من منى، فنزل بخيف بني كنانة من الأبطح، وأقام هناك بقية يومه ذلك، وليلته، وصلى هناك الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم رقد رقدة، ثم ركب إلى البيت، فطاف به طواف الوداع وكان قد أمر به أصحابه أيضاً.
ولما قضى مناسكه حث الركاب إلى المدينة المطهرة، لا ليأخذ حظاً من الراحة، بل ليستأنف الكفاح والكدح للَّه وفي سبيل اللَّه.

آخر البعوث:
كانت كبرياء دولة الروم قد جعلتها تأبى عليه حق الحياة، وحملها على أن تقتل من أتباعها من يدخل فيه، كما فعلت بفروة بن عمرو الجذامي الذي كان والياً على معان من قبل الروم.
ونظراً إلى هذه الجراءة والغطرسة أخذ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يجهز جيشاً كبيراً في صفر سنة ه. وأمر عليه أسامة بن زيد بن حارثة، وأمره أن يوطىء الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين، يبغي بذلك إرهاب الروم وإعادة الثقة إلى قلوب العرب الضاربين على الحدود، حتى لا يحس أحد أن بطش الكنيسة لا معقب له، وأن الدخول في الإسلام يجر على أصحابه الحتوف فحسب.
وتكلم الناس في قائد الجيش لحداثة سنه، واستبطأوا في بعثه، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إن تطعنوا في إمارته، فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل، وأيم اللَّه إن كان لخليقاً للإمارة، وإن كان من أحب الناس إلي، وإن هذا من أحب الناس إلى بعده.

وانتدب الناس يلتفون حول أسامة، وينتظمون في جيشه، حتى خرجوا ونزلوا الجرف، على فرسخ من المدينة، إلا أن الأخبار المقلقة عن مرض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أكرهتهم على التريث، حتى يعرفوا ما يقضي اللَّه به، وقد قضى اللَّه أن يكون هذا أول بعث ينفذ في خلافة أبي بكر الصديق.

مشاركة الموضوع

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More