التسميات

الموسيقى الصامتة

Our sponsors

‏إظهار الرسائل ذات التسميات الباب الثالث : زكاة النفس. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الباب الثالث : زكاة النفس. إظهار كافة الرسائل

13‏/12‏/2014

دروس في مكارم الأخلاق








الفصل الثاني: في التحقق بأمهات المقامات القلبية.

      ويدخل فيه:
     1- التوحيد والعبودية والعبادة
     2- الإخلاص
     3- الصدق مع الله
     4- الزهد
     5- التوكّل
     6- محبة الله
     7- الخوف والرجاء
     8- التقوى والورع
     9- الشكر
     10- الصبر والتسليم والرضا
     11- المراقبة والمشاهدة (الإِحسان)
     12- التوبة المستمرّة


الفقرة الأولى: في التوحيد والعبودية 
      بعث الرسل عليهم الصلاة والسلام جميعاً بالتوحيد والعبودية:
      {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِي} [الأنبياء: 25].
      {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاتَّقُونِي} [النحل: 2].
      وتوالي إرسال الرسل من أجل هذا الهدف الأرقى يدّل على أهميته الكبرى كما يدّل على أنّ الانحراف عنه مستمر عند الإِنسان فاقتضى ذلك تجديده بين الفينة والأخرى.
      حتّى إذا بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم أنزل عليه كتاب التوحيد المعجز الخالد فلم تعد البشرية تحتاج إلى بعثة جديدة، ولكنّ واجب الأمة الإسلامية أن تبلّغ، وواجب كل مسلم أن يعمّق في قلبه معاني التوحيد والعبودية.
      إن التوحيد والعبودية هما البداية والنهاية والوسط في حق كل إنسان وفي حق كل تصرّف ولذلك فهما كالماء للأحياء وكالهواء للإِنسان وكالروح للحي تتغلغل في الأجزاء والأعضاء وفي المقاصد والأعمال، ومن ههنا فإنّ الربانيين يعتبرون التركيز على معاني العبودية والتوحيد هو المهم الأوّل لهم، والمهم الأعلى عندهم.
      إن العبودية عندهم هي أرقى المقامات على الإطلاق، ألا ترى إلى وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك حيث المقامات العالية الرفيعة:
      {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1].
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ .......} [الكهف: 1].
      فإذا وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بمناسبة الإسراء والمعراج وبمناسبة نعمة إنزال الكتاب بالعبودية فذلك تذكير بأصل الوضع الصحيح للإِنسان مع الله:
      {لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء: 172].
      والعبودية معرفة بالله وعبادة له، وسلوك على مقتضى هديه، والمسلم أبداً في ترقّ دائم في هذه الأشياء الثلاثة.

الفقرة الثانية: في الإخلاص
قال الغزالي رحمه الله

بيان حقيقة الإِخلاص
      اعلم أنّ كل شيء يتصوّر أن يشوبه غيره، فإذا صفا عن شوبه وخلص عنه سمي خالصاً، ويسمى الفعل المصفى المخلص: إخلاصا. قال الله تعالى: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل: 66] فإنما خلوص اللبن أن لا يكون فيه شوب من الدم والفرث، ومن كل ما يمكن أن يمتزج به، والإِخلاص يضاده الاشتراك، فمن ليس مخلصا فهو مشرك إلا أن الشرك درجات. فالإِخلاص وضدّه يتواردان على القلب فمحله القلب وإنما يكون ذلك في القصود والنيات. وقد ذكر حقيقة النية وأنها ترجع إلى إجابة البواعث، فمهما كان الباعث واحداً على التجرد سمي الفعل الصادر عنه إخلاصا بالإِضافة إلى المنوي، فمن تصدّق وغرضه محض الرياء فهو مخلص، ومن كان غرضه محض التقرب إلى الله تعالى فهو مخلص. ولكن العادة جارية بتخصيص اسم الإِخلاص بتجريد قصد التقرب إلى الله تعالى عن جميع الشوائب، كما أنّ الإِلحاد عبارة عن الميل ولكن خصصته العادة بالميل عن الحق، ومن كان باعثه مجرد الرياء فهو معرض للهلاك.
      فمعرفة حقيقة الإِخلاص والعمل به بحر عميق يغرق فيه الجميع إلا الشاذ النادر والفرد الفذ وهو المستثنى في قوله تعالى {إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر:40] فليكن العبد شديد التفقد والمراقبة لهذه الدقائق وإلا التحق بأَتباع الشياطين وهو لا يشعر.

الفقرة الثالثة: في الصدق مع الله
قال الغزالي رحمه الله
فضيلة الصدق
      قال الله تعالى {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23] وقال النبي صلى الله عليه وسلم "إن الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا" [متفق عليه] ويكفي في فضيلة الصدق أن الصدّيق مشتق منه.
      وقال بعضهم: أجمع الفقهاء والعلماء على ثلاث خصال أنها إذا صحت ففيها النجاة-ولا يتم بعضها إلا ببعض-الإِسلام الخالص عن البدعة والهوى، والصدق لله تعالى في الأعمال، وطيب المطعم.

بيان حقيقة الصدق ومعناه ومراتبه
      اعلم أن لفظ الصدق يستعمل في ستة معان: صدق في القول، وصدق في النية والإِرادة، وصدق في العزم، وصدق في الوفاء بالعزم، وصدق في العمل، وصدق في تحقيق مقامات الدين كلها، فمن اتصف بالصدق في جميع ذلك فهو صديق لأنه مبالغة في الصدق. ثم هم أيضاً على درجات فمن كان له حظ في الصدق في شيء من الجملة فهو صادق بالإِضافة إلى ما فيه صدقه.
      )الصدق الأول) صدق اللسان وذلك لا يكون إلا في الإِخبار أو فيما يتضمن الإخبار وينبه عليه.
      (الصدق الثاني) في النية والإِرادة! ويرجع ذلك إلى الإِخلاص وهو أن لا يكون له باعث في الحركات والسكنات إلا لله تعالى.
      (الصدق الثالث) صدق العزم، فإن الإِنسان قد يقدّم العزم على العمل فيقول في نفسه: إن رزقني الله مالاً تصدّقت بجميعه-أو بشطره، أو إن لقيت عدوّا في سبيل الله تعالى قاتلت ولم أبال وإن قتلت، وان أعطاني الله تعالى ولاية عدلت فيها ولم أعص الله تعالى بظلم وميل إلى الخلق. فهذه العزيمة قد يصادفها من نفسه وهي عزيمة جازمة صادقة، وقد يكون في عزمه نوع ميل وتردد وضعف يضاد الصدق في العزيمة، فكان الصدق ههنا عبارة عن التمام والقوّة كما يقال: لفلان شهوة صادقة.
      )الصدق الرابع) في الوفاء بالعزم، فإنّ النفس قد تسخو بالعزم في الحال إذ لا مشقة في الوعد والعزم والمؤنة فيه خفيفة، فإذا حقت الحقائق وحصل التمكن وهاجت الشهوات انحلت العزيمة وغلبت الشهوات ولم يتفق الوفاء بالعزم، وهذا يضاد الصدق فيه، ولذلك قال الله تعالى {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23].
      )الصدق الخامس) في الأعمال، وهو أن يجتهد حتى لا تدل أعماله الظاهرة على أمر في باطنه لا يتصف هو به.
      )الصدق السادس) وهو أعلى الدرجات وأعزها، الصدق في مقامات الدين، كالصدق في الخوف والرجاء والتعظيم والزهد والرضا والتوكل والحب وسائر هذه الأمور.


الفقرة الرابعة: في الزهد
قال الغزالي رحمه الله

بيان علامات الزهد 
      اعلم أنه قد يظنّ أن تارك المال زاهد، وليس كذلك، فإنّ ترك المال وإظهار الخشونة سهل على من أحب المدح بالزهد، فكم من الرهبان ردوا أنفسهم كل يوم إلى قدر يسير من الطعام ولازموا ديراً لا باب له، وإنما مسرة أحدهم معرفة الناس حاله ونظرهم إليه ومدحهم له، فذلك لا يدل على الزهد دلالة قاطعة، فإن معرفة الزهد أمر مشكل، بل حال الزهد على الزاهد مشكل.
      وينبغي أن يعول في باطنه على ثلاثة علامات:
      )العلامات الأولى) أن لا يفرح بموجود ولا يحزن على مفقود، كما قال تعالى {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد: 23].
      )العلامة الثانية) أن يستوي عنده ذامه ومادحه، فالأوّل علامة الزهد في المال والثاني علامة الزهد في الجاه.
      )العلامة الثالثة) أن يكون أنسه بالله تعالى والغالب على قلبه حلاوة الطاعة إذ لا يخلو القلب عن حلاوة المحبة إما محبة الدنيا وإما محبة الله، وهما في القلب كالماء والهواء في القدح، فالماء إذا دخل خرج الهواء ولا يجتمعان.
      وقال أحمد بن حنبل وسفيان رحمهما الله: علامة الزهد قصر الأمل.

الفقرة الخامسة: في التوكّل
قال الغزالي رحمه الله

بيان حال التوكل 
      مقام التوكل ينتظم من: علم، وحال، وعمل.
      فأما الحال فالتوكل بالتحقيق عبارة عنه، وإنما العلم أصله والعمل ثمرته، وقد أكثر الخائضون في بيان حدّ التوكل واختلفت عباراتهم، وتكلم كل واحد عن مقام نفسه وأخبر عن حدّه، ولا فائدة في النقل والإِكثار، فلنكشف الغطاء عنه ونقول:
      التوكل مشتق من الوكالة، يقال: وكل أمره إلى فلان أي فوّضه إليه واعتمد عليه فيه، ويسمى الموكول إليه وكيلاً، ويسمى المفوض إليه متكلاً عليه ومتوكلاً عليه مهما اطمأنت إليه نفسه ووثق به ولم يتهمه فيه بتقصير ولم يعتقد فيه عجزاً وقصوراً، فالتوكل عبارة عن اعتماد القلب على الوكيل وحده.


الفقرة السادسة: في محبة الله
قال الغزالي رحمه الله
بيان أن المستحق للمحبة هو الله وحده
      وأن من أحب غير الله لا من حيث نسبته إلى الله فذلك لجهله وقصوره في معرفة الله تعالى، وحب الرسول صلى الله عليه وسلم محمود لأنه أثر عن حب الله تعالى، وكذلك حب العلماء والأتقياء، لأنّ محبوب المحبوب محبوب ورسول المحبوب محبوب ومحب المحبوب محبوب، وكل ذلك يرجع إلى حب الأصل فلا يتجاوزه إلى غيره، فلا محبوب بالحقيقة عند ذوي البصائر إلا الله تعالى ولا مستحق للمحبة سواه.
  
الفقرة السابعة: في الخوف والرجاء
قال الغزالي رحمه الله
      الرجاء والخوف جناحان بهما يطير المقرّبون إلى كل مقام محمود، ومطيتان بهما يقطع من طرق الآخرة كل عقبة كؤود، فلا يقود إلى قرب الرحمن وروح الجنان مع كونه بعيد الأرجاء ثقيل الأعباء محفوفاً بمكاره القلوب ومشاق الجوارح والأعضاء - إلا أزمة الرجاء. ولا يصدّ عن نار الجحيم والعذاب الأليم - مع كونه محفوفاً بلطائف الشهوات وعجائب اللذات - إلا سياط التخويف وسطوات التعنيف.

الفقرة الثامنة: في التقوى والورع
      ذكرنا التقوى بجانب الورع لأنهما يطلقان أحياناً في النصوص أو في عبارات الناس ويراد كل منهما بالآخر، وأحياناً يراد بالورع الحالة الأرقى من التقوى، وأحياناً يراد بالتقوى المقام الأرقى من الورع وهو مذهب الغزالي.
      وإن من التقوى إقامة الفروض العينية التي هي أثر عن واجبات وقت أو عصر.
      ومن أهم طرق التقوى العبادة وخاصة إذا أدّيت في مقام الإِحسان، وانّ الإِحسان طريقه بعد الدخول في الإِسلام العمل الصالح والكف عن المعاصي، فذلك الذي يوصل إلى حقيقة الإِيمان التي هي مقام الإِحسان.
      ولنكتف بهذه الإِشارات إلى التقوى فالاختصار فيه لا يكفي.
      وأما الورع فننقل لك عن الغزالي ما قاله في درجات الورع الأربع.
      قال رحمه الله:
  
الدرجات الأربع في الورع وشواهدها
      أمّا الدرجة الأولى: وهي ورع العدول وهو كل ما اقتضت الفتوى تحريمه مما يدخل في مداخل الحرام المطلق الذي ينسب مقتحمه إلى الفسق والمعصية.
      وأمّا الدرجة الثانية: فأمثلتها: كل شبهة لا يجب اجتنابها ولكن يستحب اجتنابها، وأما ما يجب اجتنابها فتلحق بالحرام، ومنها ما يكره اجتنابها فالورع عنها ورع الموسوسين، كمن يمتنع من الاصطياد خوفاً من أن يكون الصيد قد أفلت من إنسان أخذه وملكه، وهذا وسواس. وأمّا ما يستحب اجتنابها ولا يجب فهو الذي ينزّل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" [أخرجه النسائي والترمذي وابن حبان وصححاه]. ونحمله على نهي التنزيه.
      أمّا الدرجة الثالثة: وهي ورع المتّقين، فيشهد لها قوله صلى الله عليه وسلم "لا يبلغ العبد درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به مخافة ما به بأس" [أخرجه الترمذي وابن ماجه والحاكم وصححه السيوطي]. وقال عمر رضي الله عنه: كنا ندع تسعة أعشار الحلال مخافة أن نقع في الحرام.

الفقرة التاسعة: في الشكر
      التقوى هي عتبة الوصول إلى الشكر، فمقام الشكر أرقى ولذلك قال تعالى: {واتّقوا الله لعلّكم تشكرون} لأن الشكر استنفاد للطاقات في الأحب إلى الله ولذلك قال عليه الصلاة والسلام "أفلا أكون عبداً شكوراً".

بيان فضيلة الشكر
      اعلم أن الله تعالى قرن الشكر بالذكر في كتابه مع أنه قال {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45] فقال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152] وقال تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء: 147] وقال تعالى: {وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 145].

بيان حدّ الشكر وحقيقته
      اعلم أن الشكر من جملة مقامات السالكين، وهو أيضاً ينتظم من علم وحال وعمل، فالعلم هو الأصل فيورث الحال والحال يورث العمل فأما العلم فهو معرفة النعمة من المنعم، والحال هو الفرح الحاصل بإنعامه، والفعل هو القيام بما هو مقصود المنعم ومحبوبه. ويتعلق ذلك العمل بالقلب وبالجوارح وباللسان ولا بد من بيان جميع ذلك ليحصل بمجموعة الإِحاطة بحقيقة الشكر فإن كل ما قيل في حد الشكر قاصر عن الإِحاطة بكمال معانيه.
      )فالأصل الأوّل) العلم: وهو علم بثلاثة أمور، بعين النعمة، ووجه كونها نعمة في حقه، وبذات المنعم ووجود صفاته التي بها يتم الإِنعام ويصدر الإِنعام منه عليه.
      )الأصل الثاني) الحال المعتمدة من أصل المعرفة: وهو الفرح بالمنعم مع هيئة الخضوع والتواضع، ولكن إنما يكون شكراً إذا كان حاوياً شرطه، وشرطه أن يكون فرحك بالمنعم لا بالنعمة ولا بالإِنعام.
      )الأصل الثالث) العمل بموجب الفرح الحاصل من معرفة المنعم. وهذا العمل يتعلق بالقلب وباللسان وبالجوارح أما بالقلب فقصد الخير وإضماره لكافة الخلق. وأما باللسان فإظهار الشكر لله تعالى بالتحميدات الدالة عليه، وأما بالجوارح: فاستعمال نعم الله تعالى في طاعته والتوقي من الاستعانة بها على معصيته.

الفقرة العاشرة: في الصبر والتسليم والرضا
بيان فضيلة الصبر
      وقد وصف الله تعالى الصابرين بأوصاف وذكر الصبر في القرآن في نيف وسبعين موضعاً، وأضاف أكثر الدرجات والخيرات إلى الصبر وجعلها ثمرة له فقال عز من قائل {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} [السجدة: 24] وقال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا}[الأعراف: 137] وقال تعالى: {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 96] وقال تعالى: {أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} [القصص: 54] وقال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] فما من قربة إلا وأجرها بتقدير وحساب إلا الصبر، ولأجل ذلك كان للصوم الأجر الكبير لأنه نصف الصبر.

بيان أقسام الصبر بحسب اختلاف القوة والضعف 
      اعلم أنّ باعث الدين بالإِضافة إلى باعث الهوى له ثلاثة أحوال:
      أحدهما: أن يقهر داعي الهوى فلا تبقى له قوّة المنازعة ويتوصل إليه بدوام الصبر، وعند هذا يقال من صبر ظفر. والواصلون إلى هذه الرتبة هم الأقّلون فلا جرم هم الصدّيقون المقربون.
      الحالة الثانية: أن تغلب دواعي الهوى وتسقط بالكلية منازعة باعث الدين فيسلم نفسه إلى جند الشياطين، ولا يجاهد ليأسه من المجاهدة، وهؤلاء هم الغافلون وهم الأكثرون، وهم الذين استرقتهم شهواتهم وغلبت عليهم شقوتهم فحكموا أعداء الله في قلوبهم التي هي سر من أسرار الله تعالى وأمر من أمور الله. وإليهم الإِشارة بقوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13].
      الحالة الثالثة: أن يكون الحرب سجالاً بين الجندين فتارة له اليد عليها وتارة لها عليه، وهذا من المجاهدين يعدُّ مثله لا من الظافرين، وأهل هذه الحالة هم الذين {خَلَطُوا عَمَلا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 102].

بيان فضيلة الرضا
      أما من الآيات فقوله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [البينة: 8] وقال تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ} [الرحمن: 60] ومنتهى الإِحسان رضا الله عن عبده وهو ثواب رضا العبد عن الله تعالى.
      وفي الحديث "إن الله تعالى يتجلى للمؤمنين فيقول سلوني فيقولون رضاك" [أخرجه البزار والطبراني في "الأوسط"، ورجاله رجال الصحيح] فسؤالهم الرضا بعد النظر نهاية التفضيل. فإنما سألوه الرضا لأنه سبب دوام النظر، فكأنهم رأوا غاية الغايات رفع الحجاب. وفي الخبر "طوبى لمن هدي للإِسلام وكان رزقه كفافاً ورضي به". [أخرجه الترمذي من حديث فضالة بن عبيد بلفظ "وقنع" وقال صحيح].

الفقرة الحادية عشرة: في المراقبة والمشاهدة (الإِحسان) 
      ميزان النجاح في السير إلى الله هو الوصول إلى مقام الإحسان الذي ورد في الحديث الصحيح: "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك". وهو الذي يعبر عنه بمقامي المشاهدة والمراقبة، فالمراقبة أن تستشعر أنّ الله يراك والمشاهدة أن تعبده كأنّك تراه.

الفقرة الثانية عشرة: في التوبة المستمرة
قال الغزالي رحمه الله:

بيان حقيقة التوبة وحدُّها 
      اعلم أن التوبة عبارة عن معنى ينتظم ويلتئم من ثلاثة أمور مرتبة: علم، وحال، وفعل. فالعلم الأوّل والحال الثاني، والفعل الثالث. والأوّل موجب للثاني، والثاني موجب للثالث.
      أما العلم فهو معرفة عظم ضرر الذنوب وكونها حجاباً بين العبد وبين كل محبوب، فإذا عرف ذلك معرفة محققة بيقين غالب على قلبه ثار من هذه المعرفة تألم للقلب بسبب فوات المحبوب، فإن القلب مهما شعر بفوات محبوبه تألم، فإن كان فواته بفعله تأسف على الفعل المفوّت، فيسمّى تألمه بسبب فعله المفوت لمحبوبه ندماً، فإذا غلب هذا الألم على القلب واستولى انبعث من هذا الألم في القلب حالة أخرى تسمى إرادة وقصداً إلى فعل له تعلق بالحال والماضي وبالاستقبال.
      أما تعلقه بالحال فبالترك للذنب الذي كان ملابساً، وأما بالاستقبال فبالعزم على ترك الذنب المفوّت للمحبوب إلى آخر العمر، وأما بالماضي فبتلافي ما فات فالعلم هو الأوّل وهو مطلع هذه الخيرات وأعني بهذا العلم الإِيمان واليقين، فإن الإِيمان عبارة عن التصديق بأن الذنوب سموم مهلكة واليقين عبارة عن تأكد هذا التصديق وانتفاء الشك عنه واستيلاء على القلب فيثمر نور هذا الإِيمان مهما أشرق على القلب نار الندم فيتألم بها القلب حيث يبصر بإشراق نور الإِيمان أنه صار محجوباً عن محبوبه.


في حبّ الدنيا




الفقرة العاشرة: في حبّ الدنيا

      قال تعالى:
      {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يونس: 7] فحب الدنيا والاطمئنان لها ونسيان الآخرة يترتّب عليه كسب يستحق به صاحبه دخول النار، وبأدنى تأمّل يستطيع الإِنسان أن يعرف كسب أهل الدنيا الذي يستحقّون به النار، إنّ طالب الدنيا لا يهمّه إلاّ قضاء شهواته ولذّاته والوصول إلى أطماعه دون قيود ولا ضوابط فهو وراء المرأة والخمرة والكسب الحرام واللعب واللهو والزينة والفخر والجاه وكل ما يعتبره لذيذاً أو مبهجاً أو نافعاً أو رافعاً.

بيان ذم الدنيا
      الآيات الواردة في ذم الدنيا والتزهيد كثيرة. وأكثر القرآن مشتمل على ذم الدنيا وصرف الخلق عنها ودعوتهم إلى الآخرة. بل هو مقصود الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولم يبعثوا إلا لذلك، لا حاجة إلى الاستشهاد بآيات القرآن لظهورها، وإنما نورد بعض الأخبار الواردة فيها. فقد روي أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرّ على شاة ميتة فقال: "أترون هذه الشاة هينة على أهلها؟" قالوا: من هوانها ألقوها قال: "والذي نفسي بيده الدنيا أهون على الله من هذه الشاة على أهلها ولو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء". [أخرجه ابن ماجه والحاكم وصحح إسناده وآخره عند الترمذي وقال حسن صحيح، ولمسلم نحوه من حديث جابر]. وقال صلى الله عليه وسلم: "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر" [أخرجه مسلم] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان لله منها". [أخرجه الترمذي وحسنه وابن ماجه وزاد "إلا ذكر الله وما والاه وعالم ومتعلم"]. وقال صلى الله عليه وسلم: "ألهاكم التكاثر يقول ابن آدم مالي مالي وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدّقت فأبقيت؟". [أخرجه مسلم].

بيان حقيقة الدنيا وماهيتها في حق العبد
      اعلم أنّ معرفة ذم الدنيا لا تكفيك ما لم تعرف الدنيا المذمومة ما هي؟ وما الذي ينبغي أن يجتنب منها وما الذي لا يجتنب؟ فلا بد وأن نبين الدنيا المذمومة المأمور باجتنابها لكونها عدوة قاطعة لطريقك إلى الله ما هي؟ فنقول: دنياك وآخرتك عبارة عن حالتين، فالقريب الداني منها يسمى دنيا وهو كل ما قبل الموت، والمتراخي المتأخر يسمى آخرة وهو ما بعد الموت، فكل ما لك فيه حظ ونصيب وغرض وشهوة ولذة عاجل الحال قبل الوفاة فهي الدنيا في حقك إلا أنّ جميع ما لك إليه ميل وفيه نصيب وحظ فليس بمذموم بل هو ثلاثة أقسام:
      القسم الأول: ما يصحبك في الآخرة وتبقى معك ثمرته بعد الموت وهو شيئان: العلم والعمل فقط، وأعني بالعلم: العلم بالله وصفاته وأفعاله وملائكته وكتبه ورسله وملكوت أرضه وسمائه والعلم بشريعة نبيه وأعني بالعمل: العبادة الخالصة لوجه الله تعالى، وقد يأنس العالم بالعلم حتى يصير ذلك ألذ الأشياء عنده فيهجر النوم والمطعم والمنكح في لذته لأنه أشهى عنده من جميع ذلك فقد صار حظاً عاجلاً في الدنيا.
      القسم الثاني: وهو المقابل له على الطرف الأقصى كل ما فيه حظ عاجل ولا ثمرة له في الآخرة أصلاً كالتلذذ بالمعاصي كلها والتنعم بالمباحات الزائدة على قدر الحاجات والضرورات الداخلة في جملة الرفاهية والرعونات، كالتنعم بالقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث والغلمان والجواري والخيول والمواشي والقصور والدور ورفيع الثياب ولذائذ الأطعمة، فحظ العبد من هذا كله هي الدنيا المذمومة، وفيما يعدّ فضولاً أو في محل الحاجة نظر طويل.
      القسم الثالث: وهو متوسط بين الطرفين كل حظ في العاجل معين على أعمال الآخرة كقدر القوت من الطعام والقميص الواحد الخشن وكل ما لا بدّ منه ليتأتى للإِنسان البقاء والصحة التي بها يتوصل إلى العلم والعمل.

الفقرة الحادية عشرة: في اتباع الهوى

      إذا تأمّلت أمراض الحياة البشرية كلها الكبر والعجب والحسد وحب الجاه والدنيا والزنا والفواحش والغيبة والنميمة، وكل ما يخطر على بالك من أمراض فأنّك تجد وراءه شيئاً واحداً هو اتبّاع الهوى، فالهوى في الأصل هو ميل النفس الخاطئ ولخطورة اتبّاع الهوى قال تعالى: {وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ} [المؤمنون: 71].


في الغضب الظالم






الفقرة التاسعة: في الغضب الظالم

      لا يخلو إنسان عن غضب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغضب، فأصل الغضب لا يعتبر عيباً، ولا يعتبر وجوده مرضاً، ولكن: هناك غضب في الباطل لا يصح، وهناك غضب ظالم فهذا الذي لا يصح، وهناك تسرّع في الغضب وبطء في الفيء فذلك لا يصح، وهناك تصرّفات أثناء الغضب لا يقرّها شرع أو عقل فهذا لا يصح ومن ههنا كان الكلام في الغضب يحتاج إلى تفصيل، فمن المعلوم أنّه لا يستحق السيادة إلاّ حليم، وأنّ الغضب في غير محلّه لا تستقيم معه حياة اجتماعية، ولا علاقات صحيحة، ولا يحتاج الإِنسان إلى تفكير كثير حتّى يدرك مثل هذه الأمور، مغضبة واحدة قد تفسد علاقة بين جار وجار وزوج وزوجة وبين شريك وشريك، وأخ وأخ.
      غضبة واحدة قد تفسد جماعة بأسرها فتصدّع صفّها، أو تعرقل أعمالها أو تشلّ نموّها.
      ونموذج الكمال في الرضا والغضب هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان من أخلاقه أنّه لا يغضب لنفسه وكان من وصفه أنّه لا تزيده شدّة الجهل عليه إلا حلماً، وهذا مقام لا يطمع فيه فكل الخلق يحلمون ضمن حدود.
      وكان صلى الله عليه وسلم يغضب إذا انتهكت حرمات الله فلا يقوم لغضبه شيء وهذا الذي يطالب به كل الخلق للقضاء على المنكر.
      روى أبو هريرة أن رجلاً قال: يا رسول الله مرني بعمل وأقلل، قال: "لا تغضب" ثم أعاد عليه فقال: "لا تغضب" [أخرجه البخاري] قال ابن مسعود قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما تعدون الصرعة فيكم؟" قلنا: الذي لا تصرعه الرجال، قال: "ليس ذلك، ولكن الذي يملك نفسه عند الغضب" [أخرجه مسلم] وقال أبو هريرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس الشديد بالصرعة وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب". [متفق عليه].

بيان حقيقة الغضب
      اعلم أن الله تعالى لما خلق الحيوان معّرضاً للفساد والموت، بأسباب في داخل بدنه وأسباب خارجة عنه، أنعم عليه بما يحميه من الفساد ويدفع عنه الهلاك إلى أجل معلوم سماه في كتابه.
      أما السبب الداخلي: فهو أنه ركبه فخلق الله الغذاء الموافق لبدن الحيوان وخلق في الحيوان شهوة تبعثه على تناول الغذاء، ووكل قوى في داخله لجبر ما انكسر وسدِّ ما انثلم ليكون ذلك حافظاً له من الهلاك بهذا السبب.
      وأما الأسباب الخارجة التي يتعرض لها الإِنسان: فكالسيف والسنان وسائر المهلكات التي يقصد بها، فافتقر إلى قوة وحمية تثور منه فتدفع المهلكات عنه، فخلق الله طبيعة الغضب، وغرزها في الإِنسان وعجنها بطينته. فمهما صدّ عن غرض من أغراضه ومقصود من مقاصده اشتعلت نار الغضب وثارت ثورانا يغلي به دم القلب وينتشر في العروق ويرتفع إلى أعمال البدن، كما يرتفع الماء الذي يغلي في القدر، فلذلك ينصب إلى الوجه فيحمر الوجه والعين، والبشرة لصفائها تحكي لون ما وراءها من حمرة الدم كما تحكي الزجاجة لون ما فيها.
      وبالجملة فقوة الغضب محلها القلب ومعناها غليان دم القلب بطلب الانتقام وإنما تتوجه هذه القوة عند ثورانها إلى دفع المؤذيات قبل وقوعها وإلى التشفي والانتقام بعد وقوعها. والانتقام قوت هذه القوة وشهوتها وفيه لذتها، ولا تسكن إلا به. ثم إن الناس في هذه القوة على درجات ثلاث من التفريط والإِفراط والاعتدال.
      أما التفريط: فبفقد هذه القوة أو ضعفها وذلك مذموم، وهو الذي يقال فيه إنه لا حمية له. ولذلك قال الشافعي رحمه الله من استغضب فلم يغضب فهو حمار. فمن فقد قوة الغضب والحمية أصلاً فهو ناقص جداً.
      وأما الإِفراط: فهو أن تغلب هذه الصفة حتى تخرج عن سياسة العقل والدين وطاعته، ولا يبقى للمرء معها بصيرة ونظر وفكرة ولا اختيار، بل يصير في صورة المضطر.

بيان الأسباب المهيجة للغضب
      قد عرفت أن علاج كل علة حسم مادتها وإزالة أسبابها فلا بدّ من معرفة أسباب الغضب.
      والأسباب المهيجة للغضب هي: الزهو والعجب والمزاح والهزل والهزء والتعيير والمماراة والمضادّة والغدر وشدة الحرص على فضول المال والجاه، وهي بأجمعها أخلاق رديئة مذمومة شرعاً ولا خلاص من الغضب مع بقاء هذه الأسباب فلا بد من إزالة هذه الأسباب بأضدادها فينبغي أن تميت الزهو بالتواضع. وتميت العجب بمعرفتك بنفسك وتزيل الفخر بالتذكر للأصل الأول إذ الناس يجمعهم في الانتساب أب واحد، وإنما اختلفوا في الفضل أشتاتاً فبنو آدم جنس واحد وإنما الفخر بالفضائل، والفخر والعجب والكبر أكبر الرذائل وهي أصلها ورأسها، فإذا لم تخل عنها فلا فضل لك على غيرك.

فضيلة كظم الغيظ
      قال الله تعالى: {والكاظمين الغيظ} [آل عمران: 134] وقد ذكر ذلك في معرض المدح.
      وقال صلى الله عليه وسلم: "أشدّكم من غلب نفسه عن الغضب وأحلمكم من عفا عند القدرة" [رواه البيهقي في الشعب بالشطر الأول مرسلاً بإسناد جيد] وقال صلى الله عليه وسلم: "من كظم غيظاً ولو شاء أن يمضيه لأمضاه ملأ الله قلبه يوم القيامة رضا" وفي رواية "ملأ الله قلبه أمنا وإيماناً" [أخرجه أبو داود وابن حبان] وقال عبد الله بن عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما جرع جرعة أعظم أجراً من جرعة غيظ كظمها ابتغاء وجه الله تعالى". [أخرجه ابن ماجه].
      الآثار: قال عمر رضي الله عنه: من اتقى الله لم يشف غيظه ومن خاف الله لم يفعل ما يشاء ولولا يوم القيامة لكان غير ما ترون.

القول في معنى الحقد ونتائجه وفضيلة العفو والرفق
      اعلم أن الغضب إذا لزم كظمه لعجز عن التشفي في الحال رجع إلى الباطن واحتقن فيه فصار حقداً، ومعنى الحقد أن يلزم قلبه استثقال المحقو عليه والبغضة له والنفار عنه وأن يدوم ذلك ويبقى، فالحقد ثمرة الغضب.
      والحقد يثمر ثمانية أمور:
      )- الأول) الحسد: وهو أن يحملك الحقد على أن تتمنى زوال النعمة عنه فتغتّم بنعمة إن أصابها وتسر بمصيبة إن نزلت به، وهذا من فعل المنافقين.
      )-الثاني) أن تزيد على إضمار الحسد في الباطن، فتشمت بما أصابه من البلاء.
      - (الثالث) أن تهجره وتصارمه وتنقطع عنه وإن طلبك وأقبل عليك.
      - (الرابع) وهو دونه أن تعرض عنه استصغاراً له.
      - (الخامس) أن تتكلم فيه بما لا يحل من كذب وغيبة وإفشاء سر وهتك ستر وغيره.
      - (السادس) أن تحاكيه استهزاء به وسخرية منه.
      (السابع) إيذاؤه بالضرب وما يؤلم بدنه.
      - (الثامن) أن تمنعه حقه من قضاء دين أو صلة رحم أو ردّ مظلمة. وكل ذلك حرام.


في الغرور




الفقرة الثامنة: في الغرور

      أول آثار الغرور السير وراء الأوهام، وقضاء العمر فيها، ولأن أكثر الناس مبتلون بذلك فإنهم كثيراً ما يسيرون وراء السّراب ولا يشعرون، قال ابن عطاء: (ما قادك شيء مثل الوهم) وما ذلك إلا أثر عن الغرور، فقد يكون طريق أقرب من طريق إلى هدف، وقد يكون طريق أهدى من طريق، ولكن الغرور يجعل صاحبه بمنأى عن ذلك كلّه.
      ومن آثار الغرور أن يرفض المغرور النصيحة وان يبقى حيث هو في سلّم الغلط او في سلّم الحياة لا ارتقاء ولا نهوض مع التلبّس بالغلط.
      ولنتصوّر حياة بشرية عمّ فيها داء الغرور كيف تكون؟
     
بيان ذم الغرور وحقيقته وأمثلته
      اعلم أن قوله تعالى: {فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان: 33] وقوله تعالى: {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمْ الأَمَانِيُّ} [الحديد: 14] كاف في ذم الغرور وكل ما ورد في فضل العلم وذمّ الجهل فهو دليل على ذم الغرور، لأن الغرور عبارة عن بعض أنواع الجهل، إذ الجهل هو أن يعتقد الشيء ويراه على خلاف ما هو به، والغرور هو جهل إلا أن كل جهل ليس بغرور، بل يستدعي الغرور مغروراً فيه مخصوصاً ومغروراً به وهو الذي يغره.

أنواع المغترين وبعض فرقهم
      (ففرقة) أحكموا العلوم الشرعية والعقلية وتعمقوا فيها واشتغلوا بها وأهملوا تفقد الجوارح وحفظها عن المعاصي وإلزامها الطاعات، واغتروا بعلمهم وظنوا أنهم عند الله بمكان وأنهم قد بلغوا من العلم مبلغاً لا يعذب الله مثلهم، بل يقبل في الخلق شفاعتهم، وأنه لا يطالبهم بذنوبهم وخطاياهم لكرامتهم على الله وهم مغرورون، فإنهم لو نظروا بعين البصيرة علموا أنّ العلم علمان: علم معاملة، وعلم بالله وبصفاته، المسمى بالعادة: علم المعرفة. فأما العلم بالمعاملة: كمعرفة الحلال والحرام، ومعرفة أخلاق النفس المذمومة والمحمودة وكيفية علاجها والفرار منها، فهي علوم لا تراد إلا للعمل ولولا الحاجة إلى العمل لم يكن لهذه العلوم قيمة، وكل علم يراد للعمل فلا قيمة له دون العمل.
      وأما الذي يدّعي علم المعرفة: كالعلم بالله وبصفاته وأسمائه وهو مع ذلك يهمل العمل ويضيع أمر الله وحدوده فَغُروره أشدّ، قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].
      (وفرقة أخرى) أحكموا العلم والعمل فواظبوا على الطاعات الظاهرة وتركوا المعاصي، إلا أنهم لم يتفقدوا قلوبهم ليمحوا الصفات المذمومة عند الله من الكبر والحسد والرياء وطلب الرياسة والعلاء وإرادة السوء للأقران والنظراء وطلب الشهرة في البلاد والعباد، وربما لم يعرف بعضهم أن ذلك مذموم فهو مكب عليها غير متحرز عنها.
      )وفرقة أخرى) علموا أنّ هذه الأخلاق الباطنة مذمومة من جهة الشرع، إلا أنهم لعجبهم بأنفسهم يظنون أنهم منفكون عنها وأنهم أرفع عند الله من أن يبتليهم بذلك، وإنما يبتلي به العوام دون من بلغ مبلغهم في العلم، فأما هم فأعظم عند الله من أن يبتليهم، ثم إذا ظهر عليهم مخايل الكبر والرياسة وطلب العلو والشرف قالوا: ما هذا كبر وإنما هو طلب عز الدين وإظهار شرف العلم ونصرة دين الله وإرغام أنف المخالفين من المبتدعين أو إني لو لبست الدون من الثياب وجلست في الدون من المجالس لشمت بي أعداء الدين وفرحوا بذلك، وكان ذلي ذلا على الإِسلام ونسي المغرور أن عدوّه الذي حذره منه مولاه هو الشيطان، وأنه يفرح بما يفعله ويسخر به، وينسى أنّ النبي بماذا نصر الدين وبماذا أرغم الكافرين؟ ونسي ما روي عن الصحابة من التواضع والتبذل والقناعة بالفقر والمسكنة، حتى عوتب عمر رضي الله عنه في بذاذة زيه عند قدومه إلى الشام فقال: إنا قوم أعزنا الله بالإِسلام فلا نطلب العز في غيره.
      )وفرقة أخرى) اشتغلوا بالوعظ والتذكير، وأعلاهم رتبة من يتكلم في أخلاق النفس وصفات القلب من الخوف والرجاء والصبر والشكر والتوكل والزهد واليقين والإِخلاص والصدق ونظائره، وهم مغرورون يظنون بأنفسهم أنهم إذا تكلموا فقد صاروا موصوفين بهذه الصفات وهم منفكون عنها عند الله إلا عن قدر يسير لا ينفك عنه عوام المسلمين، وغرور هؤلاء أشد الغرور لأنهم يعجبون بأنفسهم غاية الإِعجاب.
      (وفرقة أخرى) قنعوا بحفظ كلام الزهاد وأحاديثهم في ذم الدنيا فهم يحفظون الكلمات على وجهها ويؤدونها من غير إحاطة بمعانيها فبعضهم يفعل ذلك على المنابر، وبعضهم في المحاريب، وبعضهم في الأسواق مع الجلساء وكل منهم يظن أنه تميز بهذا القدر عن السوقة والجندية، إذ حفظ كلام الزهاد وأهل الدين دونهم ويظنّ أن حفظه لكلام أهل الدين يكفيه. وغرور هؤلاء أظهر من غرور من قبلهم.
      )وفرقة أخرى) اغتروا بالصوم وربما صاموا الدهر أو صاموا الأيام الشريفة وهم فيها لا يحفظون ألسنتهم عن الغيبة وخواطرهم عن الرياء وبطونهم عن الحرام عند الإِفطار وألسنتهم عن الهذيان بأنواع الفضول طول النهار، وهو مع ذلك يظن بنفسه الخير فيهمل الفرائض ويطلب النفل ثم لا يقوم بحقه وذلك غاية الغرور.


في الشحّ




الفقرة السابعة: في الشحّ

      مرّ معنا من قبل أنّ الشحّ من الأمراض التي تستحيل معها الألفة والحياة الجماعية والتعاون فتستساغ بسببها العزلة، أرأيت لو أنّ كل إنسان ضنّ بوقته وماله وما يمتلك فإلى أيّ حد تبقى معاني التعاون والإيثار والبذل والتضحية والأريحيّات والمروءات والعطف والمودّة والمحبّة والحنان، وإلى أي حدّ يغاث مستغيث، أو يفرّج كرب عن مكروب، أو يتجاوب مع ملهوف، وأي حيوية للعلاقات تبقى بين أخ وأخ وبين جار وجار وبين قريب وقريب.
      ثم إذا جفّ الخير من القلوب وعمّ الشح فمن يجرؤ على الإقدام على مشروع خيري أو مشروع من مشاريع الخدمة.
      ثم إذا عمّ الشح فكيف يقوم جهاد أو تكون مواساة أو تقوم دولة. وكم من الناس وقتذاك سيموتون جوعاً وعطشاً وكمداً، فالعاجز من يقوم بأوده؟ والصغير من يعوله؟ والكبير من يعطف عليه؟ إنه عندما يعمّ البخل تتردّد المرأة في القيام بواجبات الأمومة ويتردّد الرجل في القيام بواجبات الزوجية.
      وتصوّر كيف تكون الحياة البشرية بعد ذلك. إنه كلما استطاع إنسان أن يتغلب على شحّه توجد في الحياة البشرية دائرة من الخير، وكلمّا عمّت هذه الظاهرة كثر الخير وعمّ، ولذلك كثر في الكتاب والسنّة الحض على الإِنفاق الخالص، حتى إنّ القرآن في أكثر من مقام ربط بين الإِنفاق وزكاة النفس: قال تعالى: {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} [الليل: 18] وقال: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور: 21] كانت هذه الآية مقدمة لقوله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22].

بيان ذم البخل
      قال الله تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] وقال تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 180] وقال تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 37] وقال صلى الله عليه وسلم: "إياكم والشح فإنه أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم" وقال صلى الله عليه وسلم: "إياكم والشح فإنه دعا من كان قبلكم فسفكوا دماءهم ودعاهم فاستحلوا محارمهم ودعاهم فقطعوا أرحامهم" [أخرجه الحاكم] وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنةبخيل ولا خب ولا خائن ولا سيء الملكة" [أخرجه الترمذي].

بيان الإِيثار وفضله

      اعلم أن السخاء والبخل كل منهما ينقسم إلى درجات. فأرفع درجات السخاء الإِيثار، وهو أن يجود بالمال مع الحاجة. وإنما السخاء عبارة عن بذل ما لا يحتاج إليه أو لغير محتاج، والبذل مع الحاجة أشدّ. وكما أن السخاوة قد تنتهي إلى أن يسخو الإِنسان على غيره مع الحاجة فالبخل قد ينتهي إلى أن يبخل على نفسه مع الحاجة، فكم من بخيل يمسك المال ويمرض فلا يتداوى، ويشتهي الشهوة فلا يمنعه منها إلا البخل بالثمن، ولو وجدها مجاناً لأكلها.

في الكبر



الفقرة السادسة: في الكبر

      الكبر هو ابن العجب، ولذلك جعلناه بعده، لأن الكبر - كما عرفّه رسول الله صلى الله عليه وسلم - هو "غمط الناس وبطر الحق" وذلك جذره العميق هو العجب.
      دعونا نتصوّر خطورة الكبر على الحياة البشرية من خلال تصوّرنا أنّ هذا المرض قد عمّ كل الناس فكيف يكون الحال:
      تصوّروا أنّ كل إنسان قد ازدرى كلّ الناس فماذا يكون: لا يبقى في هذه الحالة احترام لأحد ولا هيبة لأحد ولا حرمة لأحد ولا أدب مع أحد، وتصوّروا حياة بشرية ليس فيها احترام ولا هيبة ولا حرمة ولا أدب، وهذا كلّه فرع الشق الأول من الكبر.
      ثم تصوّروا أنّ كل إنسان في هذا العالم إذا عرض عليه الحق رفضه، فكيف يكون أمر هذا العالم؟ عندئذ لا يستطيع اثنان أن يتفاهما على شيء إلاّ بالقهر على الباطل، فما لم يجتمع الناس على حق، لا يجتمعون على باطل، وعندئذ فالقويّ هو الذي ينفذ أمره، ويتوضّع حول هذا: الظلم، والغصب، والإِرهاب، والإِرهاق، والعدوان، وإهدار الكرامات والحقوق.
     
بيان حقيقة الكبر وآفته
      اعلم أنّ الكبر ينقسم إلى باطن وظاهر فالباطن هو خلق في النفس، والظاهر هو أعمال تصدر على الجوارح. واسم الكبر بالخلق الباطن أحق، وأما الأعمال فإنها ثمرات لذلك الخلق. وخلق الكبر موجب للأعمال ولذلك إذا ظهر على الجوارح يقال تكبر، وإذا لم يظهر يقال في نفسه كبر. فالأصل هو الخلق الذي في النفس وهو الاسترواح والركون إلى رؤية النفس على المتكبر عليه فإن الكبر يستدعي متكبراً عليه ومتكبراً به، وبه ينفصل الكبر عن العجب. فإنّ العجب لا يستدعي غير المعجب بل لو لم يخلق الإِنسان إلا وحده تصوّر أن يكون معجباً، ولا يتصوّر أن يكون متكبراً إلا أن يكون مع غيره وهو يرى نفسه فوق ذلك الغير في صفات الكمال، فعند ذلك يكون متكبراً، فيحصل في قلبه اعتداد وهزة وفرح وركون إلى ما اعتقده وعز في نفسه بسبب ذلك، فتلك العزة والهزة والركون إلى العقيدة في النفس هو خلق الكبر.
      القسم الثالث: التكبر على العباد، وذلك أن يستعظم نفسه ويستحقر غيره، فتأبى نفسه عن الانقياد لهم وتدعوه إلى الترفع عليهم فيزدريهم ويستصغرهم ويأنف عن مساواتهم.

بيان الطرق في معالجة الكبر واكتساب التواضع
      اعلم أن الكبر من المهلكات ولا يخلو أحد من الخلق عن شيء منه، وإزالته فرض عين ولا يزول بمجرد التمني بل بالمعالجة واستعمال الأدوية القامعة له. وفي معالجته مقامان (أحدهما) استئصال أصله من سنخه وقلع شجرته من مغرسها في القلب. (الثاني) دفع العارض منه بالأسباب الخاصة التي بها يتكبر الإِنسان على غيره.
      (المقام الأول) في استئصال أصله، وعلاجه علمي وعملي، ولا يتم الشفاء إلا بمجموعهما:
      أما العلمي: فهو أن يعرف نفسه ويعرف ربه تعالى ويكفيه ذلك في إزالة الكبر، فإنه مهما عرف نفسه حق المعرفة علم أنه أذل من كل ذليل وأقل من كل قليل، وأنه لا يليق به إلا التواضع والذلة والمهانة، وإذا عرف ربه علم أن لا تليق العظمة والكبرياء إلا بالله.
      وأما العلاج العملي فهو التواضع لله بالفعل ولسائر الخلق بالمواظبة على أخلاق المتواضعين، من أحوال الصالحين.


في العجب




الفقرة الخامسة: في العجب

      قال عليه الصلاة والسلام:
      "إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوى متّبعاً ودنيا مؤثرة وإعجابَ كل ذي رأيٍ برأيه فعليك نفسك" [أخرجه الترمذي وحسنه]. هذه أمراض متى وجدت تعذرّت الحياة الجماعية والعمل المشترك، ولذلك أفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم من يجد ذلك بالعزلة، مع أنه عليه الصلاة والسلام حضّ كثيراً على الجماعة والألفة والتعاون في الخير، ومن ههنا ندرك خطورة العجب والشُّحِّ وحب الدنيا واتباع الهوى على الحياة البشرية عموماً وعلى الحياة الإِسلامية خصوصاً.
      إنه مع العجب يوجد الرضا عن النفس، والرضا عن النفس يتفرّع عنه الكثير من التقصير، والكثير من الأمراض، كالغرور وازدراء الآخرين ودعوى المقامات وغير ذلك حتّى إن ابن عطاء الله السكندري اعتبر الرضا عن النفس أصل كل بلاء. قال: (أصل كل معصية وغفلة وشهوة الرضا عن النفس، وأصل كل طاعة ويقظة وعفّة عدم الرضا منك عنها، ولأن تصحب جاهلاً لا يرضى عن نفسه خير لك من أن تصحب عالماً يرضى عن نفسه، فأي علم لعالمٍ يرضى عن نفسه، وأي جهلٍ لجاهل لا يرضى عن نفسه). ومن ههنا نعلم خطورة أمراض النفس على الحياة البشرية عموماً وعلى الحياة الإِسلامية خصوصاً، وعلى أي عمل جماعي.
     
بيان ذم العجب
      اعلم أن العجب مذموم في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا} [التوبة: 25] ذكر ذلك في معرض الإِنكار وقال عز وجل: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنْ اللَّهِ فَأَتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} [الحشر: 2] فرد على الكفار في إعجابهم بحصونهم وشوكتهم وقال تعالى: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104]، وهذا أيضاً يرجع إلى العجب بالعمل. وقد يعجب الإِنسان بالعمل هو مخطئ فيه كما يعجب بعمل هو مصيب فيه. قال صلى الله عليه وسلم: "ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه"، وقال لأبي ثعلبة - حين ذكر آخر هذه الأمة فقال: "إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوى متبعاً وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك نفسك" [أخرجه ابو داود، والترمذي].

بيان علاج العجب على الجملة
      اعلم أن علاج كل علة هو مقابلة سببها بضدّه، وعلة العجب الجهل المحض، فعلاجه المعرفة المضادة لذلك الجهل فقط، فلنفرض العجب بفعل داخل تحت اختيار العبد كالعبادة والصدقة والغزو وسياسة الخلق وإصلاحهم، فإن العجب بهذا أغلب من العجب بالجمال والقوّة والنسب وما لا يدخل تحت اختياره ولا يراه من نفسه.


مشاركة الموضوع

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More