الفصل
الثاني: في التحقق بأمهات المقامات القلبية.
ويدخل فيه:
1- التوحيد
والعبودية والعبادة
2- الإخلاص
3- الصدق
مع الله
4- الزهد
5- التوكّل
6- محبة
الله
7- الخوف
والرجاء
8- التقوى
والورع
9- الشكر
10- الصبر
والتسليم والرضا
11- المراقبة
والمشاهدة (الإِحسان)
12- التوبة
المستمرّة
الفقرة الأولى: في التوحيد والعبودية
بعث الرسل عليهم الصلاة والسلام جميعاً بالتوحيد
والعبودية:
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ
أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِي} [الأنبياء: 25].
{يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ
مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا
فَاتَّقُونِي} [النحل: 2].
وتوالي إرسال الرسل من أجل هذا الهدف الأرقى يدّل على أهميته الكبرى كما
يدّل على أنّ الانحراف عنه مستمر عند الإِنسان فاقتضى ذلك تجديده بين الفينة
والأخرى.
حتّى إذا بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم أنزل عليه كتاب التوحيد
المعجز الخالد فلم تعد البشرية تحتاج إلى بعثة جديدة، ولكنّ واجب الأمة الإسلامية
أن تبلّغ، وواجب كل مسلم أن يعمّق في قلبه معاني التوحيد
والعبودية.
إن التوحيد والعبودية هما البداية والنهاية والوسط في حق كل إنسان وفي
حق كل تصرّف ولذلك فهما كالماء للأحياء وكالهواء للإِنسان وكالروح للحي تتغلغل في
الأجزاء والأعضاء وفي المقاصد والأعمال، ومن ههنا فإنّ الربانيين يعتبرون التركيز
على معاني العبودية والتوحيد هو المهم الأوّل لهم، والمهم الأعلى
عندهم.
إن العبودية عندهم هي أرقى المقامات على الإطلاق، ألا ترى إلى وصف رسول
الله صلى الله عليه وسلم بذلك حيث المقامات العالية الرفيعة:
{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1].
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ
.......} [الكهف: 1].
فإذا وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بمناسبة الإسراء والمعراج
وبمناسبة نعمة إنزال الكتاب بالعبودية فذلك تذكير بأصل الوضع الصحيح للإِنسان مع
الله:
{لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا
الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء: 172].
والعبودية معرفة بالله وعبادة له، وسلوك على مقتضى هديه، والمسلم أبداً
في ترقّ دائم في هذه الأشياء الثلاثة.
الفقرة الثانية: في الإخلاص
قال الغزالي رحمه الله
بيان حقيقة الإِخلاص
اعلم أنّ كل شيء يتصوّر أن يشوبه غيره، فإذا صفا عن شوبه وخلص عنه سمي
خالصاً، ويسمى الفعل المصفى المخلص: إخلاصا. قال الله تعالى: {مِنْ بَيْنِ
فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل: 66] فإنما
خلوص اللبن أن لا يكون فيه شوب من الدم والفرث، ومن كل ما يمكن أن يمتزج به،
والإِخلاص يضاده الاشتراك، فمن ليس مخلصا فهو مشرك إلا أن الشرك درجات. فالإِخلاص
وضدّه يتواردان على القلب فمحله القلب وإنما يكون ذلك في القصود والنيات. وقد ذكر
حقيقة النية وأنها ترجع إلى إجابة البواعث، فمهما كان الباعث واحداً على التجرد سمي
الفعل الصادر عنه إخلاصا بالإِضافة إلى المنوي، فمن تصدّق وغرضه محض الرياء فهو
مخلص، ومن كان غرضه محض التقرب إلى الله تعالى فهو مخلص. ولكن العادة جارية بتخصيص
اسم الإِخلاص بتجريد قصد التقرب إلى الله تعالى عن جميع الشوائب، كما أنّ الإِلحاد
عبارة عن الميل ولكن خصصته العادة بالميل عن الحق، ومن كان باعثه مجرد الرياء فهو
معرض للهلاك.
فمعرفة حقيقة الإِخلاص والعمل به بحر عميق يغرق فيه الجميع إلا الشاذ
النادر والفرد الفذ وهو المستثنى في قوله تعالى {إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمْ
الْمُخْلَصِينَ} [الحجر:40] فليكن العبد شديد التفقد والمراقبة لهذه
الدقائق وإلا التحق بأَتباع الشياطين وهو لا يشعر.
الفقرة الثالثة: في الصدق مع الله
قال الغزالي رحمه الله
فضيلة الصدق
قال الله تعالى {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ
عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23] وقال النبي صلى الله عليه وسلم "إن الصدق يهدي إلى
البر والبر يهدي إلى الجنة وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإن الكذب
يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا"
[متفق عليه] ويكفي في فضيلة الصدق أن الصدّيق مشتق منه.
وقال بعضهم: أجمع الفقهاء والعلماء على ثلاث خصال أنها إذا صحت ففيها
النجاة-ولا يتم بعضها إلا ببعض-الإِسلام الخالص عن البدعة والهوى، والصدق لله تعالى
في الأعمال، وطيب المطعم.
بيان حقيقة الصدق ومعناه ومراتبه
اعلم أن لفظ الصدق يستعمل في ستة معان: صدق في القول، وصدق في النية
والإِرادة، وصدق في العزم، وصدق في الوفاء بالعزم، وصدق في العمل، وصدق في تحقيق
مقامات الدين كلها، فمن اتصف بالصدق في جميع ذلك فهو صديق لأنه مبالغة في الصدق. ثم
هم أيضاً على درجات فمن كان له حظ في الصدق في شيء من الجملة فهو صادق بالإِضافة
إلى ما فيه صدقه.
)الصدق الأول) صدق اللسان وذلك لا يكون إلا في الإِخبار أو فيما يتضمن الإخبار
وينبه عليه.
(الصدق الثاني) في النية والإِرادة! ويرجع ذلك إلى الإِخلاص وهو أن لا يكون له باعث في
الحركات والسكنات إلا لله تعالى.
(الصدق الثالث) صدق العزم، فإن الإِنسان قد يقدّم العزم على العمل فيقول في نفسه: إن
رزقني الله مالاً تصدّقت بجميعه-أو بشطره، أو إن لقيت عدوّا في سبيل الله تعالى
قاتلت ولم أبال وإن قتلت، وان أعطاني الله تعالى ولاية عدلت فيها ولم أعص الله
تعالى بظلم وميل إلى الخلق. فهذه العزيمة قد يصادفها من نفسه وهي عزيمة جازمة
صادقة، وقد يكون في عزمه نوع ميل وتردد وضعف يضاد الصدق في العزيمة، فكان الصدق
ههنا عبارة عن التمام والقوّة كما يقال: لفلان شهوة صادقة.
)الصدق الرابع) في الوفاء بالعزم، فإنّ النفس قد تسخو بالعزم في الحال إذ لا مشقة في
الوعد والعزم والمؤنة فيه خفيفة، فإذا حقت الحقائق وحصل التمكن وهاجت الشهوات انحلت
العزيمة وغلبت الشهوات ولم يتفق الوفاء بالعزم، وهذا يضاد الصدق فيه، ولذلك قال
الله تعالى {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}
[الأحزاب:23].
)الصدق الخامس) في الأعمال، وهو أن يجتهد حتى لا تدل أعماله الظاهرة على أمر في باطنه
لا يتصف هو به.
)الصدق السادس) وهو أعلى الدرجات وأعزها، الصدق في مقامات الدين، كالصدق في الخوف
والرجاء والتعظيم والزهد والرضا والتوكل والحب وسائر هذه
الأمور.
الفقرة الرابعة: في الزهد
قال الغزالي رحمه الله
بيان علامات الزهد
اعلم أنه قد يظنّ أن تارك المال زاهد، وليس كذلك، فإنّ ترك المال وإظهار
الخشونة سهل على من أحب المدح بالزهد، فكم من الرهبان ردوا أنفسهم كل يوم إلى قدر
يسير من الطعام ولازموا ديراً لا باب له، وإنما مسرة أحدهم معرفة الناس حاله ونظرهم
إليه ومدحهم له، فذلك لا يدل على الزهد دلالة قاطعة، فإن معرفة الزهد أمر مشكل، بل
حال الزهد على الزاهد مشكل.
وينبغي أن يعول في باطنه على ثلاثة علامات:
)العلامات الأولى) أن لا يفرح بموجود ولا يحزن على مفقود، كما قال تعالى {لِكَيْلا
تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد:
23].
)العلامة الثانية) أن يستوي عنده ذامه ومادحه، فالأوّل علامة الزهد في المال والثاني
علامة الزهد في الجاه.
)العلامة الثالثة) أن يكون أنسه بالله تعالى والغالب على قلبه حلاوة الطاعة إذ لا يخلو
القلب عن حلاوة المحبة إما محبة الدنيا وإما محبة الله، وهما في القلب كالماء
والهواء في القدح، فالماء إذا دخل خرج الهواء ولا يجتمعان.
وقال أحمد بن حنبل وسفيان رحمهما الله: علامة الزهد قصر
الأمل.
الفقرة الخامسة: في التوكّل
قال الغزالي رحمه الله
بيان حال التوكل
مقام التوكل ينتظم من: علم، وحال، وعمل.
فأما الحال فالتوكل بالتحقيق عبارة عنه، وإنما العلم أصله والعمل ثمرته،
وقد أكثر الخائضون في بيان حدّ التوكل واختلفت عباراتهم، وتكلم كل واحد عن مقام
نفسه وأخبر عن حدّه، ولا فائدة في النقل والإِكثار، فلنكشف الغطاء عنه
ونقول:
التوكل مشتق من الوكالة، يقال: وكل أمره إلى فلان أي فوّضه إليه واعتمد
عليه فيه، ويسمى الموكول إليه وكيلاً، ويسمى المفوض إليه متكلاً عليه ومتوكلاً عليه
مهما اطمأنت إليه نفسه ووثق به ولم يتهمه فيه بتقصير ولم يعتقد فيه عجزاً وقصوراً،
فالتوكل عبارة عن اعتماد القلب على الوكيل وحده.
الفقرة السادسة: في محبة الله
قال الغزالي رحمه الله
بيان أن المستحق للمحبة هو الله وحده
وأن من أحب غير الله لا من حيث نسبته إلى الله فذلك لجهله وقصوره في
معرفة الله تعالى، وحب الرسول صلى الله عليه وسلم محمود لأنه أثر عن حب الله تعالى،
وكذلك حب العلماء والأتقياء، لأنّ محبوب المحبوب محبوب ورسول المحبوب محبوب ومحب
المحبوب محبوب، وكل ذلك يرجع إلى حب الأصل فلا يتجاوزه إلى غيره، فلا محبوب
بالحقيقة عند ذوي البصائر إلا الله تعالى ولا مستحق للمحبة
سواه.
الفقرة السابعة: في الخوف والرجاء
قال الغزالي رحمه الله
الرجاء والخوف جناحان بهما
يطير المقرّبون إلى كل مقام محمود، ومطيتان بهما يقطع من طرق الآخرة كل عقبة كؤود،
فلا يقود إلى قرب الرحمن وروح الجنان مع كونه بعيد الأرجاء ثقيل الأعباء محفوفاً
بمكاره القلوب ومشاق الجوارح والأعضاء - إلا أزمة الرجاء. ولا يصدّ عن نار الجحيم
والعذاب الأليم - مع كونه محفوفاً بلطائف الشهوات وعجائب اللذات - إلا سياط التخويف
وسطوات التعنيف.
الفقرة الثامنة: في التقوى والورع
ذكرنا التقوى بجانب الورع لأنهما يطلقان أحياناً في النصوص أو في عبارات
الناس ويراد كل منهما بالآخر، وأحياناً يراد بالورع الحالة الأرقى من التقوى،
وأحياناً يراد بالتقوى المقام الأرقى من الورع وهو مذهب
الغزالي.
وإن من التقوى إقامة الفروض العينية التي هي أثر عن واجبات وقت أو
عصر.
ومن أهم طرق التقوى العبادة وخاصة إذا أدّيت في مقام الإِحسان، وانّ
الإِحسان طريقه بعد الدخول في الإِسلام العمل الصالح والكف عن المعاصي، فذلك الذي
يوصل إلى حقيقة الإِيمان التي هي مقام الإِحسان.
ولنكتف بهذه الإِشارات إلى التقوى فالاختصار فيه لا
يكفي.
وأما الورع فننقل لك عن الغزالي ما قاله في درجات الورع
الأربع.
قال رحمه الله:
الدرجات الأربع في الورع وشواهدها
أمّا الدرجة الأولى: وهي ورع العدول وهو كل ما اقتضت الفتوى تحريمه مما يدخل في مداخل الحرام
المطلق الذي ينسب مقتحمه إلى الفسق والمعصية.
وأمّا الدرجة الثانية: فأمثلتها: كل شبهة لا يجب اجتنابها ولكن يستحب اجتنابها، وأما ما يجب
اجتنابها فتلحق بالحرام، ومنها ما يكره اجتنابها فالورع عنها ورع الموسوسين، كمن
يمتنع من الاصطياد خوفاً من أن يكون الصيد قد أفلت من إنسان أخذه وملكه، وهذا
وسواس. وأمّا ما يستحب اجتنابها ولا يجب فهو الذي ينزّل عليه قوله صلى الله عليه
وسلم: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" [أخرجه النسائي والترمذي وابن حبان وصححاه].
ونحمله على نهي التنزيه.
أمّا الدرجة الثالثة: وهي ورع المتّقين، فيشهد لها قوله صلى الله عليه وسلم "لا يبلغ العبد
درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به مخافة ما به بأس" [أخرجه الترمذي وابن ماجه
والحاكم وصححه السيوطي]. وقال عمر رضي الله عنه: كنا ندع تسعة أعشار الحلال مخافة
أن نقع في الحرام.
الفقرة التاسعة: في الشكر
التقوى هي عتبة الوصول إلى الشكر، فمقام الشكر أرقى ولذلك قال تعالى:
{واتّقوا الله لعلّكم تشكرون} لأن الشكر استنفاد للطاقات في الأحب إلى الله
ولذلك قال عليه الصلاة والسلام "أفلا أكون عبداً شكوراً".
بيان فضيلة الشكر
اعلم أن الله تعالى قرن الشكر بالذكر في كتابه مع أنه قال
{وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45] فقال تعالى:
{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ}
[البقرة: 152] وقال تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ
شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء: 147] وقال تعالى: {وَسَنَجْزِي
الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 145].
بيان حدّ الشكر وحقيقته
اعلم أن الشكر من جملة مقامات السالكين، وهو أيضاً ينتظم من علم وحال
وعمل، فالعلم هو الأصل فيورث الحال والحال يورث العمل فأما العلم فهو معرفة النعمة
من المنعم، والحال هو الفرح الحاصل بإنعامه، والفعل هو القيام بما هو مقصود المنعم
ومحبوبه. ويتعلق ذلك العمل بالقلب وبالجوارح وباللسان ولا بد من بيان جميع ذلك
ليحصل بمجموعة الإِحاطة بحقيقة الشكر فإن كل ما قيل في حد الشكر قاصر عن الإِحاطة
بكمال معانيه.
)فالأصل الأوّل) العلم: وهو علم بثلاثة أمور، بعين النعمة، ووجه كونها نعمة في حقه،
وبذات المنعم ووجود صفاته التي بها يتم الإِنعام ويصدر الإِنعام منه
عليه.
)الأصل الثاني) الحال المعتمدة من أصل المعرفة: وهو الفرح بالمنعم مع هيئة الخضوع
والتواضع، ولكن إنما يكون شكراً إذا كان حاوياً شرطه، وشرطه أن يكون فرحك بالمنعم
لا بالنعمة ولا بالإِنعام.
)الأصل الثالث) العمل بموجب الفرح الحاصل من معرفة المنعم. وهذا العمل يتعلق بالقلب
وباللسان وبالجوارح أما بالقلب فقصد الخير وإضماره لكافة الخلق. وأما باللسان
فإظهار الشكر لله تعالى بالتحميدات الدالة عليه، وأما بالجوارح: فاستعمال نعم الله
تعالى في طاعته والتوقي من الاستعانة بها على معصيته.
الفقرة العاشرة: في الصبر والتسليم والرضا
بيان فضيلة الصبر
وقد وصف الله تعالى الصابرين بأوصاف وذكر الصبر في القرآن في نيف وسبعين
موضعاً، وأضاف أكثر الدرجات والخيرات إلى الصبر وجعلها ثمرة له فقال عز من قائل
{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا}
[السجدة: 24] وقال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى
بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا}[الأعراف: 137] وقال تعالى:
{وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ} [النحل: 96] وقال تعالى: {أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ
مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} [القصص: 54] وقال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى
الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] فما من قربة إلا
وأجرها بتقدير وحساب إلا الصبر، ولأجل ذلك كان للصوم الأجر الكبير لأنه نصف
الصبر.
بيان أقسام الصبر بحسب اختلاف القوة والضعف
اعلم أنّ باعث الدين بالإِضافة إلى باعث الهوى له ثلاثة
أحوال:
أحدهما: أن يقهر داعي الهوى فلا تبقى له قوّة المنازعة ويتوصل إليه بدوام الصبر،
وعند هذا يقال من صبر ظفر. والواصلون إلى هذه الرتبة هم الأقّلون فلا جرم هم
الصدّيقون المقربون.
الحالة الثانية: أن تغلب دواعي الهوى وتسقط بالكلية منازعة باعث الدين فيسلم نفسه إلى
جند الشياطين، ولا يجاهد ليأسه من المجاهدة، وهؤلاء هم الغافلون وهم الأكثرون، وهم
الذين استرقتهم شهواتهم وغلبت عليهم شقوتهم فحكموا أعداء الله في قلوبهم التي هي سر
من أسرار الله تعالى وأمر من أمور الله. وإليهم الإِشارة بقوله تعالى: {وَلَوْ
شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي
لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة:
13].
الحالة الثالثة: أن يكون الحرب سجالاً بين الجندين فتارة له اليد عليها وتارة لها عليه،
وهذا من المجاهدين يعدُّ مثله لا من الظافرين، وأهل هذه الحالة هم الذين
{خَلَطُوا عَمَلا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ
عَلَيْهِمْ} [التوبة: 102].
بيان فضيلة الرضا
أما من الآيات فقوله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا
عَنْهُ} [البينة: 8] وقال تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا
الإِحْسَانُ} [الرحمن: 60] ومنتهى الإِحسان رضا الله عن عبده وهو ثواب رضا
العبد عن الله تعالى.
وفي الحديث "إن الله تعالى يتجلى للمؤمنين فيقول سلوني فيقولون رضاك"
[أخرجه البزار والطبراني في "الأوسط"، ورجاله رجال الصحيح] فسؤالهم الرضا بعد النظر
نهاية التفضيل. فإنما سألوه الرضا لأنه سبب دوام النظر، فكأنهم رأوا غاية الغايات
رفع الحجاب. وفي الخبر "طوبى لمن هدي للإِسلام وكان رزقه كفافاً ورضي به". [أخرجه
الترمذي من حديث فضالة بن عبيد بلفظ "وقنع" وقال صحيح].
الفقرة الحادية عشرة: في المراقبة والمشاهدة
(الإِحسان)
ميزان النجاح في السير إلى الله هو الوصول إلى مقام الإحسان الذي ورد في
الحديث الصحيح: "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك". وهو الذي
يعبر عنه بمقامي المشاهدة والمراقبة، فالمراقبة أن تستشعر أنّ الله يراك والمشاهدة
أن تعبده كأنّك تراه.
الفقرة الثانية عشرة: في التوبة المستمرة
قال الغزالي رحمه الله:
بيان حقيقة التوبة وحدُّها
اعلم أن التوبة عبارة عن معنى ينتظم ويلتئم من ثلاثة أمور مرتبة: علم،
وحال، وفعل. فالعلم الأوّل والحال الثاني، والفعل الثالث. والأوّل موجب للثاني،
والثاني موجب للثالث.
أما العلم فهو معرفة عظم ضرر الذنوب وكونها حجاباً بين العبد وبين كل
محبوب، فإذا عرف ذلك معرفة محققة بيقين غالب على قلبه ثار من هذه المعرفة تألم
للقلب بسبب فوات المحبوب، فإن القلب مهما شعر بفوات محبوبه تألم، فإن كان فواته
بفعله تأسف على الفعل المفوّت، فيسمّى تألمه بسبب فعله المفوت لمحبوبه ندماً، فإذا
غلب هذا الألم على القلب واستولى انبعث من هذا الألم في القلب حالة أخرى تسمى إرادة
وقصداً إلى فعل له تعلق بالحال والماضي وبالاستقبال.
أما تعلقه بالحال فبالترك للذنب الذي كان ملابساً، وأما بالاستقبال
فبالعزم على ترك الذنب المفوّت للمحبوب إلى آخر العمر، وأما بالماضي فبتلافي ما فات
فالعلم هو الأوّل وهو مطلع هذه الخيرات وأعني بهذا العلم الإِيمان واليقين، فإن
الإِيمان عبارة عن التصديق بأن الذنوب سموم مهلكة واليقين عبارة عن تأكد هذا
التصديق وانتفاء الشك عنه واستيلاء على القلب فيثمر نور هذا الإِيمان مهما أشرق على
القلب نار الندم فيتألم بها القلب حيث يبصر بإشراق نور الإِيمان أنه صار محجوباً عن
محبوبه.