في المحرمات من النساء
الفَصل الأول
في المحرمات على التأبيد وأسباب تحريمهن
المحرم على التأبيد واحد من أسباب ثلاثة:
1- النسب: ويراد به هنا القرابة القريبة ويعبر عن صاحبها بذي الرحم المحرم
أي صاحب قرابة يحرم الزواج به.
2- المصاهرة: وهي العلاقة التي تترتب على عقد الزواج وما ألحق
به.
3- الرضاع.
المبحث الأول
المحرمات في النسب
يحرم بهذا السبب أصنافاً أربعة:
الأول: أصول الرجل من النساء، ويبدأ هذا الصنف من الأم ويستمر صاعداً في
الجدات سواء كن من جهة الأم أمْ من جهة الأب مهما علت
درجتين.
الثاني: فروعه. أي ما تفرع عنه كبناته وبنات وبناته وبنات أبنائه مهما
نزلت درجتهن.
الثالث: فروع أبويه من النساء كأخواته وبناتهن وبنات إخوته مهما نزلت
درجتهن يستوي في ذلك الأخوة والأخوات من جهتين أو من جهة
واحدة.
الرابع: فروع الأجداد والجدات المنفصلات بدرجة واحدة. أي الفروع
المباشرة فقط وهن العمات والخالات سواء كن عمات وخالات للشخص نفسه أم كن عمات
وخالات لأبيه أو أمه أم لأحد أجداده وجداته أما الدرجة الثانية من هذا الصنف وما
بعدها فهن حلال له، كبنات الأعمام والعمات وبنات الأخوال
والخالات.
والدليل على تحريم هذه الأصناف قوله تعالى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ
وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ} [النساء: 23].
فهذه الآية دلت على تحريم تلك الأصناف كلها. وهذا ما فهمه أصحاب رسول
الله، وهم العرب العارفون بدلالة الألفاظ العربية على معانيها وأساليبها المختلفة
لذلك لم يؤثر أن أحداً منهم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيان شيء غامض في
هذا الجزء من الآية.
وإذا استعرضنا هذه الآية وجدناها عبرت عن الصنف الأول بكلمة
{أُمَّهَاتُكُمْ} والأم في لغة العرب كما تطلق على من ولدت الشخص مباشرة
تطلق على الجدة أيضاً باعتبارها أصلاً له، لأن الأم عندهم هي الأصل. فمعنى هذه
الجملة حرمت عليكم أصولكم من النساء.
وقد انعقد الإجماع بعد رسول الله على أن هذا هو المراد منها فحرمت
الأمهات والجدات ولم يعد في هذا المجال للاجتهاد. على أن التحريم يقوم على قرب
القرابة. وقد صرحت الآية بتحريم العمات والخالات وهن في القرابة أبعد من الجدات،
فيدل هذا الجزء من الآية على تحريم الجدات بدلالة النص لأنهن أولى بالتحريم من
العمات والخالات للمعنى الذي من أجله كان التحريم.
ودل على تحريم الصنف الثاني قوله: {وَبَنَاتُكُمْ} والبنات في
لغة العرب هن فروع الرجل من النساء، والمعنى وفروعكم، ولهذا انعقد الإجماع على أن
المراد بالبنات الفروع فيتناول بنات الأبناء وبنات البنات مهما نزلن، على أن الآية
صرحت بتحريم بنات الأخ وبنات الأخت وهن أبعد من بنات الابن وبنات البنت، فتدل الآية
على تحريمهن بطريق دلالة النص.
وحرم الصنف الثالث بمجموع قوله: {وَأَخَوَاتُكُمْ} وقوله:
{وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ} وهو واضح.
وأما الصنف الرابع فدل على تحريمه قوله {وَعَمَّاتُكُمْ
وَخَالاتُكُمْ} وكل من ينفصل عن الجد بدرجة يطلق عليه عمة أو خالة مهما علا
الجد.
وقد اقتصرت الآية عليهن ولم تتعرض لبناتهن فبقين على الحل لدخولهن تحت
قوله تعالى: {{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:
24].
على أنه قد ورد التصريح بحلهن في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ
وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ
وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللاتِي هَاجَرْنَ
مَعَكَ} [الأحزاب: 50].
والأصل أن ما أحل لرسول الله يكون حلالاً لأمته إلا ما قام الدليل على
اختصاصه به ولم يوجد هنا دليل يدل على هذا الاختصاص.
- تنبيه:
اختلف الفقهاء في المخلوقة من ماء الزنا هل تحرم على أبيها أو
لا؟
فذهب الشافعي إلى أنها لا تحرم عليه، فيجوز له زواجها لأنها أجنبية منه ولا تنسب
إليه شرعاً، ولا يجري التوارث بينهما، ولا تلزمه نفقتها فلا تحرم عليه كسائر
الأجانب.
وذهب جماهير الفقهاء ومنهم الحنفية والحنابلة والمالكية
في الأصح عندهم إلى أنها تحرم عليه، فلا يجوز له التزوج بها. لأنها أنثى
مخلوقة من مائة حقيقة فتكون جزءاً منه كبنته من النكاح فيشملها النص بعمومه، ولذلك
تسمى بنته لغةً وعرفاً، والأحكام تتبع الأسماء، وتخلف بعض الأحكام لا ينفي كونها
بنتاً لأنها لا ترثه إذا اختلف دينها عن دين أبيها بالاتفاق، وإذا قام الدليل على
خروج بعض الأحكام يبقى ما عداه، فلا خلل في إضافتها إليه.
المبحث الثاني
في المحرمات بالمصاهرة
يحرم بهذا السبب أصناف أربعة:
الأول: أصول الزوجة من النساء كأمها وجداتها من جهة الأم أو الأب في أي
درجة سواء دخل بالزوجة أولا.
الثاني: فروع الزوجة التي دخل بها من النساء كبناتها وبنات أبنائها
وبنات بناتها مهما نزلت مرتبتهن فإن لم يدخل بها لا تحرم
فروعها.
الثالث: زوجات أصوله، كزوجة أبيه وزوجات أجداده من جهة الأب أو الأم
مهما علت مرتبتهن وُجِد دخول بهن أولا.
الرابع: زوجات فروعه كزوجة ابنه وزوجات أبناء ابنه وأبناء بنته وجد دخول
بهذه الزوجات أولا إذا كانت الفروع تفرعت عن صلبه.
أما البنوة بالتبني فلا أثر لها في التحريم. لأن الإسلام أبطل التبني
الذي كان في الجاهلية ألغى أحكامه. وتحريم هذه الأصناف ثابت
بالقرآن.
أما الأولى فبقوله تعالى: {وأمهات نسائكم} فإنه معطوف على قوله سبحانه
{حرمت عليكم أمهاتكم} فيكون معناه: وحرمت عليكم أمهات نسائكم، وكلمة الأمهات
هنا تتناول الأم المباشرة والجدات كما سبق بيانه، والآية لم تقيد التحريم بالدخول
فيبقى على إطلاقه، وعليه تحرم أم الزوجة وجداتها بمجرد العقد
عليها.
أما الثاني فبقوله جل شأنه: {وَرَبَائِبُكُمْ اللاتِي فِي
حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا
دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} فإنه معطوف كذلك على أول الآية
وهو صريح في تحريم بنات الزوجة، لأن الربائب جمع ربيبة وهي بنت امرأة الرجل من
غيره، وسميت بذلك لأن الرجل يقوم بتربيتها ورعاية شؤونها عادة، ومن هنا وصفت بكونها
في الحجور تبعاً للغالب. فالوصف لا مفهوم له فلا يدل على حلها إذا لم تكن في
الحجور. والآية نفسها أشارت إلى عدم اعتباره قيداً في التحريم لأنها تقول بعد ذلك:
"فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم" فاقتصرت في بيان الحكم المقابل للأول على
حالة تخلف الدخول، ولم تتعرض لكون الربائب في غير الحجور، ولو كان شرطاً لما اكتفى
بنفي الدخول بل لقال ولم يكن في حجوركم، والآية بعبارتها تحرم بنات الزوجة، أما
بنات أولادها فثبت تحريمهن بالإجماع. والسر في التفرقة بين النوعين حيث جعل تحريم
الأم وما فوقها بمجرد العقد، وتحريم البنت وما تحتها بالدخول بأصلها. حتى قرر
الفقهاء قاعدة تقول: "العقد على البنات يحرم الأمهات والدخول بالأمهات يحرم
البنات".
إن الأم بطبيعتها السليمة تؤثر بنتها بالزواج على نفسها، فما دام الزوج
لم يدخل بها تطيب نفسها أن تتخلى عنه لابنتها، لأنها ترى في سعادة ابنتها سعادة
لها، بل إنها تستعذب الشقاء من أجل أن تسعد بناتها، وأما بعد الدخول فيبعد ذلك
لأنها بعد أن استوفت حظوظ الزواج لا تطيب نفسها بالتخلي عن زوجها لابنتها على أنه
بعد الدخول بها تصبح بنتها كبنت الزوج ضرورة المخالطة
بينهما.
بخلاف البنت فإنه ليس من طبعها أن تؤثر أمها على نفسها، فإذا عقد عليها
ثم طلقها وتزوج أمها حقدت على أمها التي سعدت بهذا الزوج الذي كان سبباً في
شقائها.
على أن من طبع البنت عدم الرضا بزواج أمها بغير
أبيها.
وأما الثالث: فثبت تحريمه بقوله تعالى: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ
مِنْ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ
سَبِيلا} [النساء: 22]، فهذه الآية تحرم زوجات الآباء بعبارتها الصريحة وزوجات
الأجداد باعتبار أن اسم الأب يطلق لغة على الأصل المذكر سواء كان مباشراً أو غير
مباشر فيكون معناها {ولا تنكحوا ما نكح أصولكم من النساء} وقد انعقد الإجماع
على تحريم زوجات الأجداد.
وأما الرابع: فتحريمه ثابت بقوله جل شأنه في سياق عداد المحرمات: {وحلائل أبنائكم
الذين من أصلابكم} والحلائل جمع حليلة وهي الزوجة ويثبت ذلك بمجرد العقد حتى
ولو لم يعقبه دخول. ولفظ الأبناء شامل لكل من تفرع عنه من الذكور فتحرم زوجات
الفروع مطلقاً.
ولا يقال:إن التقييد بكونهم من الأصلاب يقصر التحريم على زوجات أبنائه
فقط دون زوجات أبناء أبنائه وأبناء بناته. لأن لفظ الأبناء في لغة العرب يشمل
هؤلاء، إذ يراد به كل من يتصل به بصلة الولاد، والتقييد لإخراج حلائل الأبناء
بالتبني، وقد كانت عادة التبني فاشية في العرب عند نزول القرآن فأبطل الله هذه
العادة وبين أنها لا تثبت نسباً ولا غيره بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ
أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ
يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ * ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ
أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي
الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 4-5].
هل يشترط في الدخول الموجب لحرمة المصاهرة أن يكون
حلالاً؟
اتفق الفقهاء على أنه لا يشترط أن يكون حلالاً من كل وجه،
بل يكفي أن يكون فيه شبهة الحل. لذلك اتفقوا على أن الدخول بشبهة يحرم
المصاهرة. كما إذا عقد على امرأة عقد زواج فاسد كالزواج بغير شهود، أو عقد على
امرأة لم يرها فزفت إليه امرأة وقيل له : هذه زوجتك ثم تبين أنها ليست هي أو قصد
امرأته فكانت غيرها وإنما ثبت بذلك حرمة المصاهرة لأنه وطء يلحق به النسب فأثبت
التحريم كالوطء المباح ولا يصير الرجل به محرماً لمن حرمت عليه من أصول المرأة
وفروعها فلا يباح له به النظر إليهن ولا الاختلاط بهن، لأن الوطء ليس بمباح
بإطلاق.
حتى إنه لا يباح له النظر إلى المرأة التي كانت سبباً ولا مخالطتها فلا
يباح له النظر إلى غيرها بطريق الأولى. وكذلك من جانب المرأة لا يباح لها النظر إلى
أصول الرجل وفروعه ولا مخالطتهم.
ولأن المحرمية نعمة لا تنال إلا بطريق مباح من كل وجه لأنها
إباحة.
وبهذا يفترق عن الوطء الحلال فإنه يفيد الأمرين. حرمة المصاهرة وثبوت
المحرمية.
- أما الوطء الحرام من كل وجه وهو الزنى فهو موضع اختلاف
الفقهاء.
فذهب الحنفية والحنابلة في الصحيح إلى أنَّ زنى بامرأة حرم عليه أصولها وفروعها وحرم عليها أصوله
وفروعه.
وذهب المالكية والشافعية إلى أنه لا يثبت حرمة المصاهرة، فيجوز له أن يتزوج بأي امرأة من
أصول المزني بها وفروعها. كما أن لها التزوج بأي فرد من أصوله
وفروعه.
المبحث الثالث
في المحرمات بالرضاع
يحرم بالرضاع أصنافاً ثمانية:
الأول: أصول الشخص من الرضاع : وهن أمه وأم أمه وأم أبيه من الرضاع مهما
علت درجتهن، فإذا رضع طفل من امرأة حرم عليه الزواج بمن أرضعت لأنها صارت أماً له،
وكذلك بأم أمه وإن علت وأم أبيه رضاعاً وهو زوج المرضعة مهما علت درجتها لأنهن صرن
جدات له كما حرم عليه ذلك من النسب.
الثاني: فروعه من الرضاع: وهن بنته وبنت بنته وبنت ابنه من الرضاع وإن
نزلن. فإذا رضعت طفلة من امرأة صارت ابنة لزوج المرضعة الذي كان سبباً في إدرار
لبنها فيحرم على ذلك الرجل التزوج بهذه البنت وفروعها، ولو كان الرضيع طفلاً ابناً
له فيحرم عليه التزوج ببناته وبنات أولاده مهما نزلن كما يحرم ذلك من
النسب.
الثالث: فروع أبويه أي أخواته وبناتهن وبنات أخوته من الرضاع، مهما نزلت
درجتهن يستوي في ذلك من رضع معه أو قبله أو بعده لأنه برضاعه صار أخاً
للجميع.
الرابع: فروع جديه من الرضاع في الدرجة الأولى فقط وهن عماته وخالاته من
الرضاع، لأنه برضاعه صارت أخوات المرضعة خالات له وأخوات زوجها عمات له، فيحرم عليه
التزوج واحدة منهن كما يحرم ذلك من النسب، وأما بناتهن فهن حلال له كما في بنات
الخالات والعمات من النسب.
الخامس: أصول زوجته من الرضاع وهن: أمها وجداتها من جهة الأب والأم،
فيحرم عليه التزوج بواحدة منهن بمجرد العقد عليها سواء دخل بها أو لم يدخل، كما
يحرم ذلك من النسب.
السادس: فروع زوجته: وهن بناتها وبنات أولادها من الرضاع وإن نزلت
درجتهن. فإذا تزوج رجل امرأة كانت متزوجة قبله بآخر وأرضعت طفلة فإن هذه الطفلة
بنتها من الرضاع وتصير بالنسبة له بنت زوجته فتحرم عليه إذا دخل بأمها كما يحرم
عليه التزوج بإحدى فروعها من الإناث مثل ما يحرم عليه بناتها من
النسب.
السابع: زوجات أصله من الرضاع أي زوجات أبيه وجده وإن علا سواء دخل بها
الأب أو الجد أو لا، فلو رضع طفل من امرأة متزوجة صار زوجها أباً له من الرضاع وأبو
الزوج جداً له كذلك فإن كان للزوج زوجة أخرى غير من أرضعته حرم على الرضيع التزوج
بها لأنها زوجة أبيه من الرضاع، كما يحرم عليه التزوج بامرأة أبيه من
النسب.
الثامن: زوجات فروعه أي زوجة ابنه وابن بنته من الرضاع وإن نزل سواء دخل
الفرع بزوجته أو لا.
والدليل على تحريم هذه الأصناف بالرضاع قوله تعالى في آية المحرمات:
{وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ
الرَّضَاعَةِ}. واقتصار القرآن على الأم إشارة إلى تحريم كل من اتصل بعمود
النسب من الأصول والفروع، واقتصاره على الأخوات إشارة إلى تحريم جوانب النسب
وحواشيه.
لأنه لما سمى المرضعة أماً وبناتها أخوات دل ذلك على أن الرضاع يصل
الرضيع بمن أرضعته صلة الفرع بأصله، وأنه يتكون بالرضاع جزئية يصير بها الرضيع
جزءاً ممن أرضعته كأولادها الذين ولدتهم وهم أجزاء منها ومن زوجها وأكد ذلك بأخوة
أولادها له فيكون ذلك الرضيع ابناً لهما بمنزلة الابن من النسب، فيأخذ حكمه في كل
ما يتعلق بالتحريم بالنسبة للأصناف المحرمة بالنسب من البنات والعمات والخالات
وبنات الأخ وبنات الأخت.
وقد فصل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أجمله القرآن ووضح ما أشار
إليه في جملة أحاديث منها الحديث المتفق عليه المروي عن ابن عباس أن النبي صلى الله
عليه وسلم أريد على ابنة حمزة فقال: "إنها لا تحل لي إنها ابنة أخي من الرضاعة،
ويحرم من الرضاعة ما يحرم من الرحم"، وفي رواية من النسب.
وفي رواية عائشة رضي الله عنها قالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم
قال:
"يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال في درة بنت أبي سلمة: "إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي إنها ابنة أخي
من الرضاعة أرضعتني وأباها ثويبة".
ومنها الحديث المروي عن عائشة رضي الله عنها: أن أفلح أخا أبي القعيس
جاء يستأذن عليها وهو عمها من الرضاعة بعد أن نزل الحجاب قالت: فأبيت أن آذن له،
فلما جاء رسول الله أخبرته بالذي صنعت فأمرني أن آذن له".
-
ذهب الفقهاء إلى أنه يحرم بالرضاع كل ما يحرم بالمصاهرة كما يحرم كل ما يحرم
بالنسب.
وهذا وقد قرر بعض الفقهاء: أن قاعدة يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ليست على إطلاقها، بل هناك
بعض صور مستثناة حيث يثبت فيها التحريم بالنسب ولا يثبت فيها التحريم بالرضاع لوجود
العلاقة المحرمة في النسب وعدم وجودها في الرضاع،
منها:
أولا: أم الأخ أو الأخت من الرضاع لا تحرم. كما إذا رضع طفلان من امرأة فصارا أخوين بالرضاع. ثم رضع أحدهما من
مرضعة أخرى فهذه المرضعة تكون بالنسبة للذي لم يرضع منها أم أخيه من الرضاع فتحل
له، وكذا لو كان لأخيه من الرضاع أم من النسب فإنها تحل له أيضاً لعدم وجود المحرم
لأنها أجنبية في الحالتين.
ولو كان الطفلان أخوين من النسب ورضع أحدهما من أجنبية وصارت أماً له من
الرضاع جاز لأخيه أن يتزوجها لأنها أم أخيه رضاعة، بينما لا يجوز له أن يتزوج أم
أخيه نسباً لأنها إمَّا أمه إن كانا شقيقين أو امرأة أبيه إن لم يكن شقيقاً،
وكلتاهما محرمة عليه الأولى بالنسب والثانية بالمصاهرة. ومثل أم الأخ في ذلك أم
الأخت.
ثانياً: أخت ابنه أو بنته من الرضاع. كما إذا رضع طفل من امرأة صار ابناً لزوجها من الرضاع، فإذا كان لهذا
الطفل أخت من النسب لم ترضع من تلك المرأة فإنه يحل لذلك الزوج أن يتزوج هذه البنت
وهي أخت ابنه من الرضاع لعدم المحرم بينهما، ومثله إذا كان للرجل ابن من النسب رضع
من امرأة أجنبية ولها بنت نسبية أو رضاعية فلذلك الرجل أن يتزوج بهذه البنت وهي أخت
ابنه من الرضاع لانعدام العلاقة المحرمة بينهما. بينما لا يجوز له أن يتزوج أخت
ابنه من النسب لأنها إمَّا بنته أو بنت امرأته التي دخل بها وكلتاهما محرمة عليه،
الأولى بالنسب والثانية بالمصاهرة، وأخت البنت كأخت الابن في كل
ذلك.
- ومن وقائع الرضاع التي تحدث كثيراً أن يرضع الطفل من جدته لأمه فتصير أمه أختاً له من الرضاع، فلا تحرم
على زوجها لأنها صارت برضاع طفلها من أمها أختاً له من الرضاع فقط وأخت الابن من
الرضاع لا يحرم التزوج بها ابتداءً فلا يؤثر الرضاع الطارئ على تلك الزوجية بقاء من
باب أولى.
ثالثاً- أم ولد ولده رضاعاً. كما إذا أرضعت أجنبية ابن الابن أو ابن البنت فإنها تصير أم هذا الابن
رضاعاً فيحل لجد الولد أن يتزوجها مع أنه لا يجوز له أن يتزوج أم ابن ابنه أو أم
بنته نسباً، لأن الأولى زوجة ابنه والثانية بنته، والأولى محرمة بالمصاهرة والثانية
بالنسب. وكذلك لو أرضعت زوجة الابن طفلاً أجنبياً فإنه يكون ابن ابن رضاعاً فإذا
كانت له أم نسيبة أو رضاعية أخرى لا تحرم على الجد الذي هو أبو زوج تلك
المرضعة.
رابعاً: أم العمة أو العم أو الخال أو الخالة من الرضاع لعدم العلاقة
المحرمة بينما تحرم إذا كانت من النسب لأنها إمَّا جدة لأب أو لأم أو امرأة
الجد.
الرضاع المحرم:
شروط
الرضاع المحرِّم.
مدة
الرضاع.
ما
يثبت به الرضاع.
معنى الرضاع:
الرضاع في اللغة: مص اللبن من الثدي سواء كان ثدي آدمية أو غيرها وسواء كان الماص صغيراً
أم كبيراً.
وفي اصطلاح الفقهاء : مص الطفل الرضيع اللبن من ثدي المرأة في مدة
معينة.
وقد ألحق جمهور الفقهاء بالمص إدخال اللبن إلى جوف الطفل بأي وسيلة. كإعطائه له بواسطة إناء أو
أنبوبة من طريق الفم أو فتحة طبيعية. لأنه بذلك يصل إلى جوفه ويتحقق به التغذية،
والتحريم منوط بإنبات اللحم وإنشاز العظم بهذا اللبن لا بصورة مص الطفل الثدي،
واقتصارهم في التعريف على مص الثدي لأنه الغالب فيه كما جرت به العادة. لذلك قرروا
أن إدخال اللبن جسم الطفل من طريق غير طبيعي كالحقنة أو بواسطة جرح أو حقنة من
الشرج لا يتعلق به التحريم، لأنه لا يصل إلى المعدة التي تقوم بعملية تحويل الغذاء
وتوزيعه على الجسم.
فإذا تحقق الرضاع صارت المرضعة أماً للرضيع وبناتها أخوات له، لأن الطفل
يتغذى باللبن في مدة الرضاعة بل هو غذاؤه الأساسي فيكون اللبن من مكونات جسمه وهو
جزء من المرأة خرج من صافي دمها فيصبح الطفل كجزء منها فيكون ابناً لها وتصير
بناتها أخوات له وأمها جدته وأخواتها خالاته. كذلك يصير زوجها أباه وأخواته عماته
عند جماهير الفقهاء.
23-
شروط الرضاع المحرم:
يشترط في الرضاع المحرم شروطاً بعضها متفق عليه بين الفقهاء وبعضها
الآخر مختلف فيه. - فيشترط في المرضعة أن تكون آدمية بالاتفاق فلا يحرم الرضاع من
غير آدمية لأنه لا يحقق العلاقة المحرمة، فلو اجتمع طفلان على ثدي غير آدمية أو
شربا لبنها لا يتحقق به أمومة، فلا يثبت ما يتفرع عنها من الأخوة وغيرها ثم ذهب
الحنفية إلى عدم اشتراط فيها أكثر من ذلك فيستوى عندهم التي درَّ لبنها بسبب
الولادة من زواج أو غيره.
فإذا ولدت امرأة من الزنى وأرضعت طفلاً ثبت به التحريم بالنسبة للمرأة
والرجل الذي زنى بها فتصير أماً للرضيع والرجل أباه رضاعاً. لأن شرط اللبن المحرم
في جانب الرجل عندهم أن يكون نازلاً بسبب الحمل والولادة
منه.
وذهب المالكية إلى موافقة الحنفية في القول المعتمد في مذهبهم، لأن الشرط
عندهم أن يكون اللبن نازلاً بعد أن يخالط الرجل المرأة مخالطة تامة سواء ثبت نسب
الولد منه أو لا.
وذهب الشافعية والحنابلة إلى أن الرضاع من اللبن النازل بسبب الزنى يحرم في جانب المرضعة فقط
ولا حكم له بالنسبة إلى رجل لأن شرط التحريم في جانبه أن يكون الولد الذي نزل بسببه
اللبن ثابت النسب منه وفي الزنا لا نسب فلا تحريم، وعلى ذلك يشترط للتحريم بالرضاع
بالنسبة للرجل أن المرضعة ولدت منه بنكاح صحيح أو بمخالطة
بشبهة.
-
ويشترط في لبن الرضاع: أن يتحقق من وصوله إلى معدة الرضيع باتفاق الفقهاء. فإن لم
يتحقق ذلك بأن التقم الطفل ثدي المرأة ولم يعلم أرضع أم لا، لا يثبت التحريم، لأن
الحل هو الأصل ولا يعدل عن هذا الأصل إلا بيقين، ولا يقين مع الشك والأحكام لا تثبت
مع الشك.
- وهل يشترط فيه أن يكون خالصاً غير مخلوط
بغيره؟
فقهاء أهل السنة وبخاصة الحنفية لا يشترطون ذلك بل لهم في خلط لبن المرأة بغيره التفصيل
الآتي:
أ- إذا خلط بسائل آخر كالماء والدواء ولبن الحيوان فالحكم للغالب، فإن
غلب اللبن ثبت التحريم، وإن غلب السائل فلا تحريم، لأن القليل يستهلك في الكثير،
وإن تساويا ثبت احتياطاً. وتعتبر الغلبة بالأجزاء إذا خلط لبن المرأة بلبن الحيوان
أو بالماء، وبتغير اللون والطعم إذا خلط بالدواء ونحوه.
ب-إذا خلط بلبن امرأة أخرى فالراجح في المذهب الحنفي أنه يثبت به
التحريم من المرأتين جميعاً دون نظر إلى
كثرة أحدهما وقلة الآخر أو تساويهما لأن اللبنين من جنس واحد. وعند اتحاد الجنس لا
يتلاشى أحدهما في الآخر لاتحاد المقصود منهما وهو إنبات اللحم وإنشاز
العظم.
ج- إذا خلط لبن المرأة بغير سائل كالطعام فإنه لا يتعلق به تحريم مطلقاً
عند أبي حنيفة سواء طبخ على النار أو لا، لأن خلط اللبن بالطعام استهلاك له فيه فإن
الطعام أقوى في التغذية من اللبن فيكون هو الغذاء.
-
وهل يشترط في الرضاع مقدار معين ؟
آراء الفقهاء في ذلك:
الرأي الأول: إن قليل الرضاع وكثيره محرم وإليه ذهب الحنفية والمالكية وأحمد في
رواية. وحجتهم في ذلك قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ
وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ} وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "يحرم
بالرضاعة ما يحرم بالنسب" فقد ورد الرضاع فيهما مطلقاً والأصل في المطلق أن يحمل
على إطلاقه حتى يثبت ما يقيده ولم يثبت عندهم هذا التقييد.
ويؤيد ذلك أن رسول الله في بعض الوقائع أصدر حكمه في الرضاع دون أن
يستفسر عن عدد الرضعات، ولو كان للرضاع المحرم عدد معين لسأل الرسول عنه قبل أن
يأمر الزوج بمتاركة زوجته.
فقد روى البخاري وغيره أن رجلاً تزوج امرأة فجاءت أمة سوداء فذكرت أنها
أرضعتها، فجاء إلى الرسول يخبره بذلك فأعرض عنه أول الأمر، ولما كرر السؤال قال له
الرسول : "كيف وقد قيل دعها عنك". أمره بالمفارقة ولم يستفسر منه عن عدد الرضعات،
وتركه الاستفسار دليل على أنه ليس فيه عدد مقدر بل يكفي فيه أصل
الإرضاع.
وإن الحكمة في التحريم بالرضاع هي أن الرضيع يتغذى بلبن المرضعة فيصير
بعضه جزءاً منها. وهذه الجزئية لا يعلم بيقين أي مقدار يحققها، ومثله لا يعلم إلا
من صاحب الشرع ولم يرد دليل به فضلاً عن أنه يقيد مطلق القرآن كما سنبينه قريباً
فيبقى المطلق على إطلاقه.
الرأي الثاني: إن التحريم لا يثبت إلا بخمس رضعات مشبعات في أوقات متفرقة، فإن كان أقل
من ذلك فلا تحريم. وإلى هذا ذهب الشافعية والحنابلة في الرأي الراجح من
مذهبهم. وإن لم يتوفر في الرضعة الشبع لا تحسب، وحد الرضعة المشبعة عندهم. أن يأخذ
الصبي الثدي ويمتص منه ثم يتركه باختياره من غير عارض كتنفس أو شيء يلهيه عن
الرضاع، فإذا فعل ذلك ثم عاد إلى الرضاع فإنه لا يخرجها عن كونها رضعة
واحدة.
واستدلوا على ذلك بما رواه مسلم وأبو داود والنسائى عن عائشة أم
المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت: "كان فيما نزل من القرآن عشر رضعات معلومات
يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات. فتوفى رسول الله وهن فيما يقرأ من القرآن وفي رواية
قالت: أنزل في القرآن عشر رضعات معلومات فنسخ من ذلك خمس رضعات إلى خمس رضعات
معلومات فتوفي رسول الله والأمر على ذلك.
ثم قالوا: إن علة التحريم بالرضاع هي أنه ينبت لحم الصغير وينشز
عظمه.
يشير لذلك قول رسول الله "لا يحرم من الرضاع إلا ما أنبت اللحم وأنشز
العظم" ولا يكون ذلك إلا بالرضاع يوم كامل على الأقل وهو لا يقل عن خمس
رضعات.
مدة الرضاع:
إن مدة الرضاع سنتان من وقت ولادة الطفل، فأي رضاع يحصل فيها يثبت به
التحريم، ولو فطم الطفل قبل تمامها ثم عاد إلى الرضاع قبل أن تنتهى، أما ما يقع
بعدها فلا يتعلق به التحريم.
والدليل على ذلك من القرآن الكريم قوله تعالى: {والْوَالِدَاتُ
يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ
الرَّضَاعَةَ} [ البقرة:233 ] فهذه الآية تبين في صراحة أن مدة الرضاع التامة
حولان كاملان ولا زيادة بعد التمام. وقوله تعالى: {وَفِصَالُهُ فِي
عَامَيْنِ} [لقمان:14] وهذا صريح في أن الفصال وهو الفطام في مدة العامين لا
بعدهما.
ومن السنة ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :"لا رضاع إلا ما
فتق الأمعاء وكان قبل الحولين"، وقوله: "لا رضاع إلا ما كان في الحولين"، وقوله:
"إنما الرضاعة من المجاعة" فهذه الأحاديث تفيد في مجموعها أن الرضاع المحرم هو الذي
يدفع الجوع ويكتفي به صاحبه ويكون غذاء له وهذا لا يكون إلا للطفل أثناء
الحولين.
ومما يصل بالتحريم بالرضاع مسألة اشتهرت في كتب الفقهاء بمسألة لبن الفحل. وهي أن المرأة التي
أرضعت طفلاً بلبنها الذي نزل بسب ولادتها من رجل. فهل تمتد الحرمة إلى ذلك الرجل
فيصبح أباً للرضيع كما صارت المرضعة أماً له؟
ذهب الأئمة الأربعة -الحنفية والمالكية والشافعية
والحنابلة- إلى أنه يثبت بالرضاع التحريم بالنسبة للرجل الذي تسبب في نزول اللبن،
فلو أن الزوجة أرضعت طفلة أجنبية باللبن الذي تسبب زوجها في نزوله حرمت هذه البنت
على زوجها وعلى آبائه وأبنائه، لأنها بنته من الرضاع فتصير كالبنت
النسبية.
وكذلك لو أرضعت طفلاً فإنه يحرم عليه التزوج ببنات هذا الرجل مطلقاً
سواء كن من هذه الزوجة أو من غيرها. لأن لبن المرأة مشترك بينها وبين من كان سبباً
فيه وهو الرجل ولولاه لما كان لبن فينسب الطفل إليهما معاً. والدليل على ذلك من
السنة ما رواه الجماعة عن عائشة رضي الله عنها: أن أفلح أخا أبي القعيس جاء يستأذن
عليها وهو عمها من الرضاعة بعد أن نزل الحجاب، قالت فأبيت أن آذن له، فلما جاء رسول
الله أخبرته بالذي صنعت فأمرني أن آذن له.
- والأخوان من الرضاع قد يكونان شقيقين وقد يكونان لأم وقد يكونان
لأب.
فإذا أرضعت امرأة طفلين بلبن سببه الولادة من رجل واحد كان الرضيعان
شقيقين. وإذا أرضعت أحدهما بعد ولادتها من زوج ثم أرضعت الآخر بعد ولادتها من زوج
آخر كان الرضيعان أخوين لأم، وإذا كان لرجل زوجتان فأرضعت إحداهما طفلاً وأرضعت
الثانية طفلاً آخر كان الطفلان أخوين لأب، ثم إن أخوة الشخصين بسبب الرضاعة من
امرأة تثبت برضاعهما منها في أي وقت سواء رضعا معاً في وقت واحد أو في وقتين
مختلفين، وكذلك لو رضع طفل من أم طفل آخر صار أخاً له من الرضاع ولو لم يرضع ابن
المرأة منها أصلاً.
ما يثبت به الرضاع:
إذا كان الرضاع معروفاً بين الناس فالتحريم به ثابت لا يحتاج إلى دليل
يثبته.
أما إذا لم يكن معروفاً فإنه يحتاج إلى الدليل. والمثبت له أحد أمرين:
الإقرار أو البينة.
فالإقرار يكون باعتراف الطرفين ( الرجل والمرأة ) أو أحدهما على التفصيل
الآتي:
إذا أقر شخص بأن هذه المرأة أخته من الرضاع فإن صدقته في إقراره ثبتت
الحرمة بينهما بهذا التصادق مطلقاً سواء كان هذا الإقرار قبل الزواج أو بعده، فإن
كان قبله لا يحل لهما الإقدام على الزواج، وإن كان بعده وجب عليهما أن يتفرقا وإلا
فرق القاضي بينهما. ومثل ذلك ما إذا كانت المرأة هي التي بدأت بالإقرار وصدقها
الرجل، وإذا افترقا قبل الدخول فلا شيء للمرأة من المهر، وإذا كان بعد الدخول وجب
لها الأقل من المهر المسمى ومهر المثل ككل نكاح فاسد أعقبه دخول، ولا تجب لها نفقة
في عدتها ولا سكنى.
وإذا أقر الرجل وكذبته المرأة ثبت التحريم أيضاً فلا يحل له أن يقدم على
زواجها إن كان إقراره قبل الزواج فإن كان بعده وجب أن يفارقها، فإن لم يفعل فرق
القاضي بينهما. وإذا افترقا قبل الدخول وجب لها نصف المهر، وإن كان بعده وجب لها كل
المهر المسمى وللمرأة النفقة والسكنى في العدة، لأن إقراره حجة قاصرة عليه فلا
يتعدى إلى حقوق المرأة بالإبطال، وإذا رجع عن إقراره فقال: كنت واهماً أو ناسياً
قبل منه هذا الرجوع في الحالتين بشرط ألا يكون أكد إقراره الأول بما يفيد اليقين
كقوله أعلم أنها أختي. أو أشهد عليه. فيجوز له بعد الرجوع أن يعقد عليها، وإن كان
بعد العقد بقي العقد قائماً كما كان، لأن الرضاع مما يخفى أمره فربما يكون إقراره
أولا بالرضاع بناء على خبر ظنه صادقاً، ثم تبين له كذبه. وهذا يدعو إلى التجاوز عن
تناقضه في الإقرار أولاً والرجوع عنه ثانياً،فإن كان أكد الأول أو أشهد عليه فلا
يقبل منه الرجوع ويبقى التحريم قائماً.
وإذا كان الإقرار من جانبها وكذبها الرجل وكان ذلك قبل الزواج فإن ثبتت
على إقرارها ولم ترجع عنه فلا يجوز لها أن تتزوجه، وإن رجعت عن إقرارها جاز لها
التزوج منه.
أما إذا كان إقرارها بعد الزواج وكذبها فلا يلتفت إلى ذلك الإقرار وإن
أصرت عليه، لأنها متهمة فيذلك الإقرار لاحتمال أنها فعلت ذلك لتتخلص منه بهذه
الدعوى. بخلاف إقراره فإنه لا تهمه فيه، لأنه يملك التخلص منها بالطلاق وليس في
حاجة إلى دعوى الرضاع.
ومن هنا قرر الفقهاء أن الزوجة تصدق في إقرارها بعد الزواج إذا كان
أمرها بيدها وتستطيع أن تتخلص بالطلاق.
أما البينة فقد اتفق الفقهاء على أن الرضاع يثبت بالبينة ولكنهم اختلفوا في مقدارها. فمن الفقهاء من
يرى أنه يكفي في إثباته شهادة النساء، وهؤلاء منهم من يكتفي بامرأة واحدة إذا كانت
مشهورة بالصدق والعدالة. ومنهم من يشترط العدد فلا يثبت عنده إلا بشهادة امرأتين
على الأقل.
ذهب الحنفية إلى أنه لا يثبت إلا ببينة كاملة شهادة رجلين عدلين أو رجل واحد
وامرأتين كسائر الحقوق، لأنه يترتب عليه حقوق مالية وغيرها، ولأن دعوى الرضاع يترتب
عليها إبطال حق العبد، وهو ما ثبت له بعقد الزواج وكل منهما يشترط فيه تمام
البينة.
ويؤيد ذلك ما روى أن عمر بن الخطاب أتى بامرأة شهدت على رجل أنها
أرضعتهما فقال: لا حتى يشهد رجلان أو رجل وامرأتان. وكان ذلك بمحضر من الصحابة ولم
ينكر عليه أحد فدل ذلك على أنه الحكم المقرر عندهم.
وقول المخالفين إنه لا يطلع عليه الرجال غير مسلم لأن المحارم من الرجال
يطلعون عليه ولا حرج فيه.
ثم إن الرضاع يحتاج في إثباته إلى البينة عند إنكار أحد الزوجين له، أما
إذا لم يكن هناك إنكار فيكفي لوجوب التفريق تصادق الزوجين على الرضاع أو إقرار
الزوج به وثبوته على إقراره وإن كذبته الزوجة، فإذا صحت هذه الشهادة وجب على
الزوجين الافتراق، فإن لم يفترقا فرق القاضي بينهما.
وبعد الافتراق أو التفريق يجب ما يجب في كل عقد فاسد. لا شيء لها قبل
الدخول، أما بعده فيجب لها مهر المثل إن لم يكن سمى لها مهراً أو الأقل منه ومن
المسمى إذا كان سمى مهراً معيناً، لأن المسمى إن كان هو الأقل فقد رضيت به الزوجة
فلا يزاد على ما رضيت به، وإن كان مهر المثل هو الأقل فهو الواجب الأصلي في كل زواج
فاسد ولا يعدل عنه إلا إذا وجد مقتض للعدول عنه، وإذا لم تصح البينة بأن نقص العدد
أو كان الشهود غير عدول فإنه لا اعتبار لها في القضاء فلا يملك القاضي التفريق
بينهما.
أما من ناحية الديانة فالورع يقضي على الزوجين أن يفترقا لاحتمال
صدق هذه الشهادة في الواقع.
فقد روي أحمد والبخاري عن عقبة بن الحارث أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب
فجاءت أمة سوداء فقالت قد أرضعتكما قال: فذكرت ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأعرض
عني، قال: فتنحيت فذكرت ذلك له فقال: "كيف وقد زعمت أنها قد أرضعتكما فنهاه عنها".
وفي رواية قال له: "كيف وقد قيل دعها عنك" فإن هذا الحديث يدل على أن شهادة المرأة
لا توجب التفرقة وإلا لفرق الرسول بينهما من أول الأمر ولم يعرض عنه إذ الإعراض قد
يترتب عليه أن يترك السائل المسألة ويكون إقراراً من الرسول على المحرم. كما يفيد
كراهة الإبقاء على هذا الزواج بعد هذا الإخبار فأمره بتركها جاء على سبيل الندب
تورعاً واحتياطاً وهذا ما يفيده قوله عليه الصلاة والسلام:كيف وقد زعمت أنها
أرضعتكما؟
ولقد فهم الصحابة رضوان الله عليهم ذلك وعلموا به، فقد روي أن رجلاً
تزوج امرأة فجاءت امرأة تزعم أنها أرضعتهما فسأل الرجل علياً كرم الله وجهه فقال
له: هي امرأتك ليس أحد يحرمها عليك فإن تنزهت فهو أفضل، وروي مثل ذلك عن ابن عباس
رضي الله عنهما.
في المحرمات تحريما مؤقتا:
وقد عدَّ منها الفقهاء أصنافاً. أهمها:
1- من تعلق بها حق للغير.
2- الجمع بين محرمين.
3- المطلقة ثلاثاً قبل أن تتزوج غير مطلقها. 4- من لا تدين بدين سماوي.
5- المرأة التي لاعنها.
6- الزيادة على أربع زوجات.
المبحث الأول
في من تعلق بها حق للغير بالزوجية أو بالاعتداد
بعدها
يحرم على المسلم التزوُّج بزوجة غيره لأن الله عدها من المحرمات في قوله
تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} إلى أن قال:
{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}
[النساء:24] ولفظ المحصنات وإن أطلق في القرآن على العفيفات غير المتزوجات كما في
قوله تعالى {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ
الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ
قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ
مُسَافِحِينَ}. [المائدة:5] وقوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ
ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ
جَلْدَةً} [النور :4 ].
إلا أن المراد منه هنا المتزوجات بإجماع العلماء وإلا لتناقضت مع
آية المائدة حيث عدها ممن أحل لنا.
ولفظ المحصنات عام يشمل كل متزوجة مسلمة كانت أو غير مسلمة، لم يستثن من
ذلك إلا الزوجة التي سبيت وحدها دون زوجها لأن القرآن استثني من المحصنات ما ملكت
في قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24].
وأما تحريم المعتدة من غيره سواء كانت العدة من طلاق رجعي أو بائن أو عن وفاة فبالآيات التي أوجبت على المرأة
الاعتداد وهي قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ
ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] وقوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ
مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ
وَعَشْرًا} [البقرة: 234] وقوله جل شأنه: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ
أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4].
فإذا كان الشارع أوجب على المعتدة الانتظار من غير زواج تكون في هذه
المدة محرمة على الرجال الأجانب على أن النهي عن تزويج المعتدة عن وفاة جاء صريحاً
في قوله تعالى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ
الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235] بعد أن نفى الجناح عن التعريض بالخطبة.
وهذه وإن كانت في شأن المعتدة عن وفاة إلا أنه لا فرق بين معتدة ومعتدة فتكون كل
معتدة محرمة على غير من اعتدت منه.
لكن يجوز لمن اعتدت منه أن يتزوجها في العدة بدون عقد ومهر إذا كان
الطلاق رجعياً، وبعقد ومهر جديدين إذا كان الطلاق بائناً بينونة صغرى، وأما في
البينونة الكبرى فلا تحل لمطلقها إلا بعد أن تتزوج بآخر ويدخل بها ثم يطلقها وتنقضي
عدتها.
وهذا التحريم متفق عليه، فإذا عقد الرجل زواجه على زوجة الغير أو معتدته كان العقد فاسداً لا
يترتب عليه شيء من آثار الزواج إن لم يدخل بها، فإن دخل بها قبل انتهاء عدتها كان
لها المهر بما استحمل منها وهو مهر المثل إن لم يكن سمى لها مهراً أو الأقل منهما
إذا وجدت تسمية وعليها العدة، ويلحق بالمعتدة من زواج صحيح المعتدة من دخول بعقد
فاسد أو مخالطة بشبهة لأن الولد من كل منهما محترم لثبوت نسبه من
أبيه.
المبحث الثاني
في الجمع بين محرمين
المحرمان كل امرأتين تربطهما علاقة محرمية كالأختين والبنت وأمها أو
جدتها، والمرأة وعمتها أو خالتها أو بنت أخيها أو أختها فإننا لو فرضنا إحداهما
ذكراً لا يحل له أن يتزوج الأخرى لأنه يؤدي إلى أن يتزوج الأخ
أخته.
والأصل في تحريم هذا قوله تعالى في سياق المحرمات {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ
الأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] وليس المراد الجمع بين الأختين فقط بل هو إشارة إلى
كل جمع فيه علاقة كعلاقة الأختين، لأن القرآن لم يأت لبيان تفاصيل أحكام الجزئيات،
ولهذا جاءت السنة مبينة هذا الإجمال فيما رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أنه قال "لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ولا المرأة على ابنة
أخيها ولا ابنة أختها إنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم "وزاد في بعض الروايات: "لا
الصغرى على الكبرى ولا الكبرى على الصغرى".
فالحديث بين بعض الصور وصرح بعلة هذا التحريم وهي قطع الرحم التي بين
الأقارب لما يقع بين الضرائر عادة من الغيرة المؤدية إلى التباغض والتنازع، وقطع
الرحم حرام، فما أفضى إليه يكون حراماً، وعلى ضوء الآية والحديث قرر الفقهاء
قاعدة لتحريم الجمع تقول "يحرم الجمع بين كل امرأتين لو فرضنا إحداهما رجلاً
لا يحل له أن يتزوج الأخرى" لما في هذا الجمع من قطع الوصلة
بينهما.
ولما كان الرضاع يأخذ حكم النسب بالحديث "يحرم من الرضاعة ما يحرم من
النسب" عمموا في القاعدة فجعلوها شاملة للجمع بين المرأتين اللتين ربطتهما رابطة
النسب أو الرضاع، فكما يحرم الجمع بين الأختين نسباً يحرم الجمع بين الأختين
رضاعاً، وكما يحرم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها من النسب يحرم الجمع بينها
وبين عمتها أو خالتها من الرضاع.
ثم إن القاعدة السابقة يشترط فيها عند الفقهاء أن تكون من الجانبين على
معنى أننا لو فرضنا كلاً من المرأتين رجلاً لا تحل له الأخرى كالأختين والمرأة
وبنتها والمرأة وعمتها أو خالتها وما شابه ذلك فإن التحريم ثابت من
الجانبين.
أما إذا كان من جانب واحد فقط كما في زوجة الرجل وابنته من غيرها فإننا
لو فرضنا البنت رجلاً لا يحل له أن يتزوج الأخرى لأنها زوجة أبيه، ولو فرضنا الزوجة
رجلاً حل له التزوج بالبنت لأنها أجنبية عنه حيث إن فرضها رجلاً يخرجها عن كونها
زوجة الأب فانعدمت العلاقة بينهما. وعلى ذلك يحل للرجل أن يجمع بين امرأة أخرى كانت
زوجة لأبي الأول من قبل. ومثلهما المرأة وزوجة ابنها لأننا لو فرضنا المرأة رجلاً
لا يحل له التزوج بالأخرى لأنها حليلة ابنه، ولو فرضنا زوجة الابن رجلاً حل له
التزوج بالأخرى لعدم المحرمية بينهما لأن فرضها رجلاً يخرجها عن كونها زوجة
للابن.
المبحث الثالث
في المطلقة ثلاثاً
المطلقة ثلاثاً تحرم مؤقتاً على مطلقها فتحرم عليه حتى تتزوج آخر
ويطلقها بعد الدخول بها وتنقضي عدتها. فإذا زال المانع بأن تزوجت غيره ثم طلقها
لسبب من الأسباب أو مات عنها وانقضت عدتها حلت لزوجها الأول فجاز له أن يعقد عليها
من جديد.
والدليل على هذا التحريم قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ
حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] فإن المراد بها الطلقة الثالثة
بدليل قوله قبلها {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ
بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] ولابد في حلها له من دخول الزوج الثاني بها دخولاً
حقيقياً كما صرحت به السنة في قول رسول الله للمرأة التي تزوجت زوجاً آخر وأرادت
الرجوع إلى زوجها الأول قبل أن يدخل بها الثاني دخولاً حقيقياً: لا حتى تذوقي
عُسَيْلَتَهُ ويذوقَ عُسَيْلَتَكِ".
المبحث الرابع
في المرأة التي لاعنها زوجها حتى يكذب نفسه
إذا قذف الرجل زوجته بالزنى أو نفى ولدها عن نفسه ولم يثبت ذلك بالبينة
التي تثبت الزنى وهي أربعة شهود عدول، فعلى القاضي أن يجري بينهما اللعان، وهو أن
يقسم الرجل أربع مرات بالله إنه صادق في دعواه ويقول في الخامسة: إن عليه لعنة الله
إن كان من الكاذبين. وتقسم هي أربع مرات بالله إنه كاذب في دعواه وتقول في الخامسة:
إن عليها غضب الله إن كان من الصادقين. فإذا فعلا ذلك تَمَّ اللعان بينهما ويفرق
بينهما.
ذهب الحنفية إلى أنه تحرم عليه ولا تحل له إلا إذا عاد وكذب نفسه، فإذا كذب نفسه
أقيم عليه حد القذف، وحلَّت بعد ذلك فيجوز له أن يعقد عليها عقداً جديداً، وسبب هذا
التحريم أنه بعد حصول ذلك اللعان تنعدم الثقة بينهما، والزواج ينبني أولاً على وجود
الثقة بين الزوجين، فإذا ما كذب نفسه تعود الثقة فيحل العقد عليها إذا رغبت في ذلك،
لأنه إذا أكذب نفسه فقد بطل حكم اللعان، فكما يلحق به الولد كذلك ترد المرأة عليه،
لأن السبب الموجب للتحريم إنما هو الجهل بتعيين صدق أحدهما مع القطع بأن أحدهما
كاذب فإذا انكشف ارتفع التحريم.
وذهب الأئمة الثلاثة المالكية والشافعية والحنبلية أن اللعان فسخ يوجب تحريماً مؤبداً لا يرتفع بحال وإن أكذب نفسه للحديث
الذي رواه أبو داود عن سهل بن سعد "مضت السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا
يجتمعان أبداً" وما رواه الدارقطني عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
"المتلاعنان إذا تفرقا لا يجتمعان أبداً".
المبحث الخامس
في تحريم من لا تدين بدين سماوي
والمراد بها من لا تؤمن بكتاب سماوي أنزل على رسول من الرسل في حينه،
ولتوضيح هذا تقول: إن المخالفين للمسلمين في الدين أصنافٌ
ثلاثة:
الأول: من ليس لهم كتاب سماوي ولا شبهة كتاب. وهؤلاء هم الذين يعبدون غير الله
من الأصنام والأوثان والشمس والقمر والنجوم والنار والحيوان وغير ذلك. ومنهم
الملاحدة الذين لا يدينون بدين مطلقاً ويحاربون الأديان كلها. ويلحق بهم بعض الشيعة
الذين ينكرون المعلوم من الدين بالضرورة فيعتقدون أن جبريل غلط في الوحي فأوحى إلى
محمد مع أن الله أمره بالإيحاء إلى علي، أو يدعون ألوهية علي، وكذلك المرتدون وهم
الخارجون عن الإسلام وإن انتقلوا إلى دين سماوي آخر لأنهم لا يقرون على ما انتقلوا
إليه فلا دين لهم، كما يلحق بهم كل من اعتقد مذهباً يخرج صاحبه من الإيمان إلى
الكفر كالبابية أو البهائية، والقاديانية أو الأحمدية.
الصنف الثاني: من لهم شبهة كتاب، وهؤلاء هم المجوس الذي يعبدون النار فقد قيل إن الله
أنزل على نبيهم وهو زرادشت كتاباً فحرقوه وقتلوا نبيهم فرفع الله هذا الكتاب من
بينهم.
الصنف الثالث: من لهم كتاب سماوي يؤمنون به كاليهود الذين يؤمنون بالتوراة والنصارى
الذي يؤمنون بالتوراة والإنجيل.
فالصنف الأول: يحرم على المسلم أن يتزوج بواحدة منه تحريماً مؤقتاً حتى تؤمن
بالله.
كما لا يجوز للمسلمة أن تتزوج برجل من هؤلاء إلى أن يؤمن لقوله تعالى:
{وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ
مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى
يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ
أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ
وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 221].
كما لا يجوز الزواج بهن ابتداء لا يجوز بقاءً، فيما إذا أسلم واحد منهم
وكان متزوجاً بمن تشاركه في عقيدته ولم تدخل في الإسلام فإنه يفرق بينهما وينتهي
ذلك الزواج، لقوله تعالى:{وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}
[الممتحنة: 10].
والمراد بالكوافر المشركات. ولفظ المشرك وإن كان يتبادر منه عبدة
الأوثان وكل من عبد غير الله في لغة القرآن إلا أنه في عرف الشرعيين - بعد وجود
طوائف عديدة - يشمل هؤلاء جميعاً.
ويدخل في عبدة الأوثان الزنادقة والباطنية والإباحية وكل من اعتقد
مذهباً يكفر به معتقده لأن اسم المشرك يتناولهم جميعاً.
والحكمة في تحريم زواج المسلم بمن لا دين لها أن الزواج مشروع للأغراض
الكريمة، وزواج المشركة لا يحقق تلك الأغراض لبعد ما بين
الزوجين.
فهذا يؤمن بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب وتلك
لا تؤمن بشيء من ذلك، وكل منهما يتمسك بما يعتقده ويدافع عنه فيكونان على طرفي نقيض
وحياتهما إما منازعة ومخاصمة فلا يتحقق السكن، وإما مسالمة قد تستهوي فيها المرأة
الرجل بما فيها من جمال ولين طباع وأحكام التدبير لجذب زوجها إليها، فتزل قدمه
فيتهاون في دينه أو يضيعه، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى في الآية السابقة تعليلاً
للنهي عن ذلك الزواج {أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو
إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ}.
وأما الصنف الثاني: فقد ذهب أصحاب المذاهب الأربعة إلى تحريم تزوج المسلمين من
نسائهم، لأن حقيقة المجوس أنهم يعبدون النار فيدخلون في عداد المشركين الذي لا
يدينون بدين سماوي. وقد عدهم القرآن فرقة مغايرة لأهل الكتاب في قوله تعالى
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى
وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ} [الحج: 17]. كما بين لنا رسول الله أنهم ليسوا بأهل كتاب ولا يحل
التزوج منهم في قوله "سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم"
وهذا يدل على أنه لا كتاب لهم وهو يأمر المسلمين أن يعاملوهم معاملة أهل الكتاب من
حقن دمائهم وإقرارهم بالجزية دون التزوج بنسائهم وأكل
ذبائحهم.
وأما الصنف الثالث: فيحل التزوج بنسائه عند جماهير الفقهاء لقوله تعالى: {الْيَوْمَ
أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ
لَكُمْ} إلى قوله {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ
قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ
وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ
وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ} [المائدة: 5]. والمراد بأهل الكتاب
في هذه الآية أهل التوراة والإنجيل.
-
وهل يشترط في حل الكتابية أن يكون أبواها كتابيين أو يكفي أن يكون
أحدهما كتابياً والآخر وثنياً أو مجوسياً؟
ذهب الحنابلة والشافعية في الأظهر عندهم إلى أنه يشترط في حلها أن يكون أبواها كتابيين فلو كان
أحدهما كتابياً والآخر غير كتابي لا تحل حتى ولو كانت بالغة واختارت دين أهل
الكتاب، لأنها ليست خالصة من أهل الكتاب لأنها مولودة بين من يحل ومن لا يحل.
وذهب الحنفية إلى الاكتفاء بكون أحدهما كتابياً لأنها تكون تابعة لأفضلهما ديناً
فتعطى حكم أهل الكتاب كما لو كان أحد الأبوين مسلماً، فإن الولد يتبع خير الأبوين
ديناً.
وقد كان عمر رضي الله عنه ينهى عن التزوج بالكتابيات خشية الفتنة وإلحاق
الضرر بالمسلمات. ورد عن إبراهيم عن حذيفة أنه تزوج يهودية بالمدائن. فكتب إليه
عمر: أن خل سبيلها، فكتب إليه: أحرام هي يا أمير المؤمنين؟ فكتب إليه عمر: أعزم
عليك أن لا تضع كتابي هذا حتى تخلي سبيلها، فإني أخاف أن يقتدي بك المسلمون
فيختاروا نساء أهل الذمة لجمالهن وكفى بذلك فتنة لنساء
المسلمين.
ويُروى أن عمر قال للذين تزوجوا من نساء أهل الكتاب: طلقوهن فطلقوهن إلا
حذيفة فقال له عمر: طلقها. قال: تشهد أنها حرام؟ قال: هي خمرة طلقها، قال: قد علمت
أنها خمرة ولكنها لي حلال فلما كان بعد طلقها، فقيل له: ألا طلقتها حين أمرك عمر ؟
قال: كرهت أن يرى الناس أني ركبت أمراً لا ينبغي لي.
فليت الذي يتسابقون في التزوج بالأجنبيات من أهل الكتاب يتدبرون تلك
المعاني التي من أجلها منع الفاروق بعض الصحابة من الإبقاء على زواجهن. وحكم أكثر
الفقهاء عليه بالكراهة، ليتهم يفكرون بعقولهم ولا يسيرون وراء هذا السراب الخادع،
ولا يغرنهم إسلام هؤلاء بعد الزواج أو قبله فإنه إسلام ظاهري لغرض، ولا أدل على ذلك
من أن أغلب هؤلاء حتى بعد إسلامهن الصوري يطبعن بيوتهن بطابع غير إسلامي مما لا
يخفى على أحد.
المبحث السادس
في جمع الرجل بين أكثر من أربع زوجات في
عصمته
ويتحقق هذا بزواج الخامسة فمن جمع بين أربع زوجات يحرم عليه أن يتزوج
بخامسة تحريماً مؤقتاً حتى ينتهي زواجه من إحداهن إما بالموت أو
الطلاق.
فإذا فعل ذلك كان العقد فاسداً يجب عليه أن يفارقها فإن لم يفعل فرق
القاضي بينهما فإن كان قبل الدخول لا تستحق شيئاً وإن كان بعده وجب لها مهر المثل
إن لم يكن سمى لها مهراً أو الأقل من المسمى ومهر المثل إن وجدت التسمية.
يستوي في ذلك كون الأربع زوجات حقيقة كلهن أو بعضهن زوجات والبعض معتدات
أو كلهن معتدات، فلو كان متزوجاً بأربع وطلقهن طلاقاً رجعياً حرم عليه التزوج
بخامسة قبل انتهاء عدتهن أو انتهاء عدة إحداهن إذا سبقت الأخريات باتفاق
الفقهاء.
أما إذا كان الطلاق بائناً:
فذهب الحنفية إلى منع التزوج أيضاً حتى تنتهي العدة.
وذهب المالكية والشافعية إلى حل التزوج في العدة.
والدليل على هذا التحريم قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا
تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى
وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ} [النساء:3]، هذه الآية جاءت لبيان العدد المباح من الزوجات وقد
جعلت غايته أربعاً. ولو كانت الزيادة مباحة لما اقتصرت على هذا
العدد.
ثم جاءت السنة الشارحة مؤكدة لذلك فكان العربي إذا أسلم مع زوجاته وكان
يجمع أكثر من أربع أمره رسول الله أن يمسك أربعاً منهن ويفارق الباقي فقد روى أحمد
والترمذي وابن ماجه عن ابن عمر: أن غيلان الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة في الجاهلية
فأسلمن معه فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يختار منهن أربعاً ويفارق
سائرهن.
وروى أحمد وأبو داود عن قيس بن الحارث قال: أسلمت وتحتي ثمان نسوة فأتيت
النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له ذلك فقال: اختر منهن
أربعاً.
هذا هو العدد الذي جاء الإسلام بإباحته من الزوجات كما نطقت به الآية
وأكدته السنة ولم يؤثر عن أحد من الصحابة ومن جاء بعدهم ممن يعتد بإسلامه أنه زاد
على هذا العدد لا في خاصة نفسه ولا في فتواه لغيره.
المبحث السابع
الجمع المشروع:
شرع الله تعداد الزوجات. وبعبارة أدق أقره بعد أن حدده وقصره على أربع
وجعله مرتبطاً بالعدل والمساواة بين الزوجات يباح عند الثقة بإقامة العدل والأمن من
الجور، فإذا انتفى الوثوق وخيف توقع الظلم فالتعدد حرام {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا
تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ}.
وهناك قيد آخر هو القدرة على الانفاق على أكثر من زوجة، لأن القدرة شرط
في إباحة أصل الزواج. لقوله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفْ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ
نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 33] ولقول رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج" فإذا
توفر الأمران الوثوق من العدل، والقدرة على الإنفاق ومتطلبات المعيشة الثنائية أو
الثلاثية جاز التعدد، وإن انعدما أو انعدم أحدهما حرم التعدد وأثم فاعله، لكن هذا
التحريم ديني لا يقع تحت سلطان القضاء، لأن العدل أمر نفسي لا يعلم إلا من جهته،
والقدرة على الإنفاق أمر نسبي ليس له ميزان واحد يحدد به فهما متروكان إلى الشخص
يقدرهما ولأنهما يتعلقان بالمستقبل، فالعاجز قد يصير قادراً والظالم قد يتبدل حاله
فيعدل، فإذا عقد العقد دون توفر الشرطين أو أحدهما يكون العقد في ذاته صحيحاً، بل
يكون فاعله آثماً إن وقع منه جور أو عجز عن الإنفاق يحاسبه الله
عليه.
0 التعليقات:
إرسال تعليق