التسميات

الموسيقى الصامتة

Our sponsors

02‏/01‏/2015

متابعة السرايا والبعوث والغزوات






متابعة السرايا والبعوث والغزوات

  • السرايا والبعوث بين أحد والأحزاب
  • سرية أبي سلمة
  • بعث عبد الله بن أنيس
  • بعث الرجيع
  • مأساة بئر معونة
  • غزوة بني نضير
  • غزوة نجد
  • غزوة بدر الثانية
  • غزوة دومة الجندل
  • غزوة الأحزاب
  • غزوة بني قريظة
  • النشاط العسكري بعد هذه الغزوة
  • مقتل سلام بن أبي الحقيق
  • سرية محمد بن مسلمة
  • غزوة بني لحيان
  • متابعة البعوث والسرايا
  • غزوة بني المصطلق أو غزوة المريسيع
  • دور المنافقين قبل غزوة بني المصطلق
  • دور المنافقين في غزوة بني المصطلق
  • قول المنافقين "لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل"
  • حديث الإفك

كان لمأساة أحد أثر سيء على سمعة المؤمنين، فقد ذهبت ريحهم، وزالت هيبتهم عن النفوس، وزادت المتاعب الداخلية والخارجية على المؤمنين، وأحاطت الأخطار بالمدينة من كل جانب. وكاشف اليهود والمنافقون والأعراب بالعداء السافر، وهمت كل طائفة منهم أن تنال من المؤمنين، بل طمعت في أن تقضي عليهم، وتستأصل شأفتهم.
فلم يمض على هذه المعركة شهران حتى تهيأت بنو أسد للإِغارة على المدينة. ثم قامت قبائل عضل وقارة في شهر صفر سنة 4هـ بمكيدة سببت في قتل عشرة من الصحابة، وفي نفس الشهر قامت بنو عامر بمكيدة مثلها سببت في قتل سبعين من الصحابة، وتعرف هذه الوقعة بوقعة بئر معونة، ولم تزل بنو نضير خلال هذه المدة تجاهر بالعداوة حتى قامت في ربيع الأول سنة 4هـ بمكيدة تهدف إلى قتل النبي صلى الله عليه وسلم ، وتجرأت بنو غطفان حتى همت بالغزو على المدينة في جمادى الأولى سنة 4هـ.
فريح المسلمين التي كانت قد ذهبت في معركة أحد تركت المسلمين - إلى حين - يهددون بالأخطار، ولكن تلك هي حكمة محمد صلى الله عليه وسلم التي صرفت وجوه التيارات وأعادت للمسلمين هيبتهم المفقودة، وأكسبت لهم العلو والمجد من جديد، وأول ما أقدم عليه بهذا الصدد هي حركة المطاردة التي قام بها إلى حمراء الأسد، فقد حفظ بها مقداراً كبيراً من سمعة جيشه، واستعاد بها من هيبتهم ومكانتهم ما ألقى اليهود والمنافقين في الدهش والذهول، ثم قام بمناورات أعادت للمسلمين هيبتهم بل زادت فيها، وفي الصفحة الآتية شيء من تفاصيلها
سرية أبي سلمة:
أول من قام ضد المسلمين بعد نكسة أحد هم بنو أسد بن خزيمة، فقد نقلت استخبارات المدينة أن طلحة وسلمة ابني خويلد قد سارا في قومهما ومن أطاعهما يدعون بني أسد بن خزيمة إلى حرب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم .
فسارع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى بعث سرية قوامها مائة وخمسون مقاتلاً من المهاجرين والأنصار، وأمر عليهم أبا سلمة وعقد له لواء، وباغت أبو سلمة بني أسد بن خزيمة في ديارهم قبل أن يقوموا بغارتهم، فتشتتوا في الأمر، وأصاب المسلمون إبلاً وشاء لهم فاستاقوها وعادوا إلى المدينة سالمين غانمين لم يلقوا حرباً.
كان مبعث هذه السرية حين استهل هلال المحرم سنة 4هـ، وعاد أبو سلمة وقد نغر عليه جرح كان قد أصابه في أحد، فلم يلبث حتى مات.
بعث عبد اللَّه بن أنيس:
وفي اليوم الخامس من نفس الشهر - المحرم سنة 4هـ - نقلت الاستخبارات أن خالد بن سفيان الهذلي يحشد الجموع لحرب المسلمين، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم عبد اللَّه بن أنيس ليقضي عليه.
وظل عبد اللَّه بن أنيس غائباً عن المدينة ثماني عشرة ليلة، ثم قدم يوم السبت لسبع بقين من المحرم، وقد قتل خالداً وجاء برأسه، فوضعه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاه عصا وقال: هذه آية بيني وبينك يوم القيامة، فلما حضرته الوفاة أوصى أن تجعل معه في أكفانه.

بعث الرجيع:
وفي شهر صفر من نفس السنة - أي الرابعة من الهجرة - قدم على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قوم من عضل وقارة، وذكروا أن فيهم إسلاماً، وسألوا أن يبعث معهم من يعلمهم الدين، ويقرئهم القرآن، فبعث معهم ستة نفر - في قول ابن إسحاق وفي رواية البخاري أنهم كانوا عشرة - وأمر عليهم مرثد بن أبي مرثد الغنوي - في قول ابن إسحاق وعند البخاري أنه عاصم بن ثابت جد عاصم بن عمر بن الخطاب - فذهبوا معهم فلما كانوا بالرجيع - وهو ماء لهذيل بناحية الحجاز بين رابغ وجدة - استصرخوا عليهم حياً من هذيل يقال لهم بنو لحيان، فتبعوهم بقرب من مائة رام، واقتصوا آثارهم حتى لحقوهم، فأحاطوا بهم - وكانوا قد لجأوا إلى فدفد - وقالوا: لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا أن لا نقتل منكم رجلاً. فأما عاصم فأبى من النزول وقاتلهم في أصحابه، فقتل منهم سبعة بالنبل، وبقي خبيب وزيد بن الدثنة ورجل آخر فأعطوهم العهد والميثاق مرة أخرى، فنزلوا إليهم، ولكنهم غدروا بهم وربطوهم بأوتار قسيهم، فقال الرجل الثالث. هذا أول الغدر، وأبى أن يصحبهم، فجرروه وعالجوه على أن يصحبهم فلم يفعل فقتلوه، وانطلقوا بخبيب وزيد فباعوهما بمكة، وكانا قتلا من رؤوسهم يوم بدر، فأما خبيث فمكث عندهم مسجوناً، ثم أجمعوا على قتله، فخرجوا به من الحرم إلى التنعيم، فلما أجمعوا على صلبه قال: دعوني حتى أركع ركعتين، فتركوه فصلاهما، فلما سلم قال: واللَّه لولا أن تقولوا إن ما بي جزع لزدت، ثم قال: اللهم احصهم عدداً، واقتلهم بدداً ولا تبق منهم أحداً، ثم قال:
لقد أجمع الأحزاب حولي وألبوا قبائلهم واستجمعوا كل مجمع
وقد قربوا أبناءهم ونساءهم وقربت من جذع طويل ممنع
إلى اللَّه أشكو غربتي بعد كربتي وما جمع الأحزاب لي عند مضجعي
فذا العرش صبرني على ما يراد بي فقد بضعوا لحمي وقد بؤس مطعمي
وقد خيروني الكفر والموت دونه فقد ذرفت عيناي من غير مدمع
ولست أبالي حين أقتل مسلما على أي شق كان في اللَّه مضجعي
وذلك في ذات الإِله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع

فقال له أبو سفيان أيسرك أن محمداً عندنا نضرب عنقه، وأنك في أهلك؟ فقال: لا واللَّه ما يسرني أني في أهلي وأن محمداً في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه.
ثم صلبوه ووكلوا به من يحرس جثته، فجاء عمرو بن أمية الضمري، فاحتمله بخدعة ليلاً، فذهب به فدفنه، وكان الذي تولى قتل خبيب هو عقبة بن الحارث، وكان خبيب قد قتل أباه حارثاً يوم بدر.
وفي الصحيح أن خبيباً أول من سن الركعتين عند القتل، وأنه رئي وهو أسير يأكل قطفاً من العنب، وما بمكة ثمرة.
وأما زيد بن الدثنة فأتبعه صفوان بن أمية فقتله بأبيه.
وبعثت قريش إلى عاصم ليؤتوا بشيء من جسده يعرفونه - وكان عاصم قتل عظيماً من عظمائهم يوم بدر - فبعث اللَّه عليه مثل الظلة من الدبر - الزنابير - فحمته من رسلهم، فلم يقدروا منه على شيء. وكان عاصم أعطى اللَّه عهداً أن لا يمسه مشرك ولا يمس مشركاً. وكان عمر لما بلغه خبره يقول يحفظ اللَّه العبد المؤمن بعد وفاته كما يحفظه في حياته.

مأساة بئر معونة:
وفي نفس الشهر الذي وقعت فيه مأساة الرجيع وقعت مأساة أخرى أشد وأفظع من الأولى، وهي التي تعرف بوقعة بئر معونة.
وملخصها أن أبا براء عامر بن مالك المدعو بملاعب الأسنة قدم على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينة، فدعاه إلى الإِسلام فلم يسلم ولم يبعد، فقال: يا رسول اللَّه لو بعثت أصحابك إلى أهل نجد يدعونهم إلى دينك؛ لرجوت أن يجيبوهم، فقال: إني أخاف عليهم أهل نجد، فقال أبو براء أنا جار لهم، فبعث معه أربعين رجلاً - في قول ابن إسحاق، وفي الصحيح أنهم كانوا سبعين، والذي في الصحيح هو الصحيح - وأمر عليهم المنذر بن عمرو أحد بني ساعدة الملقب بالمعتق ليموت، وكانوا من خيار المسلمين وفضلائهم وساداتهم وقرائهم، فساروا يحتطبون بالنهار، يشترون به الطعام لأهل الصفة، ويتدارسون القرآن ويصلون بالليل، حتى نزلوا بئر معونة - وهي أرض بين بني عامر وحرة بني سليم - فنزلوا هناك، ثم بعثوا حرام بن ملحان أخا أم سليم بكتاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى عدو اللَّه عامر بن الطفيل، فلم ينظر فيه، وأمر رجلاً فطعنه بالحربة من خلفه، فلما أنفذها فيه ورأى الدم قال حرام اللَّه أكبر، فزت ورب الكعبة.
ثم استنفر عدو اللَّه لفوره بني عامر إلى قتال الباقين، فلم يجيبوه لأجل جوار أبي براء، فاستنفر بني سليم، فأجابته عصية ورعل وذكوان، فجاؤوا حتى أحاطوا بأصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فقاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم إلا كعب بن زيد بن النجار، فإنه ارتث من بين القتلى، فعاش حتى قتل يوم الخندق.
وكان عمرو بن أمية الضمري والمنذر بن عقبة بن عامر في سرح المسلمين فرأيا الطير تحوم على موضع الوقعة، فنزل المنذر، فقاتل المشركين حتى قتل مع أصحابه، وأسر عمرو بن أمية الضمري، فلما أخبر أنه من مضر جز عامر ناصيته، وأعتقه عن رقبة كانت على أمه.
ورجع عمرو بن أمية الضمري إلى النبي صلى الله عليه وسلم حاملاً معه أنباء المصاب الفادح، مصرع سبعين من أفاضل المسلمين. تذكر نكبتهم الكبيرة بنكبة أحد، إلا أن هؤلاء ذهبوا في قتال واضح؛ وأولئك ذهبوا في غدرة شائنة.
ولما كان عمرو بن أمية في الطريق بالقرقرة من صدر قناة، نزل في ظل شجرة وجاء رجلان من بني كلاب فنزلا معه، فلما ناما فتك بهما عمرو، وهو يرى أنه قد أصاب ثأر أصحابه، وإذا معهما عهد من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لم يشعر به، فلما قدم أخبر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بما فعل، فقال: لقد قتلت قتيلين لأدينهما وانشغل بجمع دياتهم من المسلمين وحلفائهم اليهود وهذا الذي صار سبباً لغزوة بني النضير كما سيذكر.
وقد تألم النبي صلى الله عليه وسلم لأجل هذه المأساة، ولأجل مأساة الرجيع اللتين وقعتا خلال أيام معدودة تألماً شديداً، وتغلب عليه الحزن والقلق حتى دعا على هؤلاء الأقوام والقبائل التي قامت بالغدر والفتك في أصحابه. ففي الصحيح عن أنس قال: دعا النبي صلى الله عليه وسلم على الذين قتلوا أصحابه ببئر معونة ثلاثين صباحاً يدعو في صلاة الفجر على رعل وذكوان ولحيان وعصية، ويقول عصية عصت اللَّه ورسوله، فأنزل اللَّه تعالى على نبيه قرآناً حتى نسخ بعد {بلغوا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه} فترك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قنوته.
غزوة بني النضير:
قد أسلفنا أن اليهود كانوا يتحرقون على الإِسلام والمسلمين، إلا أنهم لم يكونوا أصحاب حرب وضرب، بل كانوا أصحاب دس ومؤامرة فكانوا يجاهرون بالحقد والعداوة، ويختارون أنواعاً من الحيل، لإِيقاع الإِيذاء بالمسلمين دون أن يقوموا للقتال، مع ما كان بينهم وبين المسلمين من عهود ومواثيق، وأنهم بعد وقعة بني قينقاع، وقتل كعب بن الأشرف خافوا على أنفسهم فاستكانوا والتزموا الهدوء والسكوت.
ولكنهم بعد وقعة أحد تجرؤوا، فكاشفوا بالعداوة والغدر، وأخذوا يتصلون بالمنافقين والمشركين من أهل مكة سراً، ويعملون لصالحهم ضد المسلمين.
وصبر النبي صلى الله عليه وسلم حتى ازدادوا جرأة وجسارة بعد وقعة الرجيع وبئر معونة حتى قاموا بمؤامرة تهدف القضاءعلى النبي صلى الله عليه وسلم .
وبيان ذلك أنه صلى الله عليه وسلم خرج إليهم في نفر من أصحابه وكلمهم أن يعينوه في دية الكلابيين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري - وكان ذلك يجب عليهم حسب بنود المعاهدة - فقالوا: نفعل يا أبا القاسم، اجلس ههنا حتى نقضي حاجتك فجلس إلى جنب جدار من بيوتهم ينتظر وفاءهم بما وعدوا، وجلس معه أبو بكروعمر وعلي وطائفة من أصحابه.
وخلا اليهود بعضهم إلى بعض وسول لهم الشيطان الشقاء الذي كتب عليهم فتآمروا بقتله صلى الله عليه وسلم ، وقالوا: أيكم يأخذ هذه الرحى، ويصعد فيلقيها على رأسه يشدخه بها؟... فقال أشقاهم عمرو بن جحاش أنا. فقال لهم سلام بن مشكم لا تفعلوا فواللَّه ليخبرن بما هممتم به، وإنه لنقض العهد الذي بيننا وبينه، لكنهم عزموا على تنفيذ خطتهم.
ونزل جبريل من عند رب العالمين على رسوله صلى الله عليه وسلم يعلمه بما هموا به، فنهض مسرعاً، وتوجه إلى المدينة، ولحقه أصحابه فقالوا: نهضت ولم نشعر بك، فأخبرهم بما همت به يهود.
وما لبث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن بعث محمد بن مسلمة إلى بني النضير يقول لهم اخرجوا من المدينة ولا تساكنوني بها، وقد أجلتكم عشراً، فمن وجدت بعد ذلك بها ضربت عنقه، ولم يجد يهود مناصاً من الخروج، فأقاموا أياماً يتجهزون للرحيل، بيد أن رئيس المنافقين - عبد اللَّه بن أبي - بعث إليهم أن اثبتوا وتمنعوا. ولا تخرجوا من دياركم، فإن معي ألفين يدخلون معكم حصنكم، فيموتون دونكم {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ} [الحشر: 11] وتنصركم قريظة وحلفاؤكم من غطفان.
وهناك عادت لليهود ثقتهم، واستقر رأيهم على المناوأة، وطمع رئيسهم حيي بن أخطب فيما قاله رأس المنافقين، فبعث إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول إنا لا نخرج من ديارنا فاصنع ما بدا لك.
ولا شك أن الموقف كان حرجاً بالنسبة إلى المسلمين، فإن اشتباكهم بخصومهم في هذه الفترة المحرجة من تاريخهم لم يكن مأمون العواقب، وقد رأت كلب العرب عليهم، وفتكهم الشنيع ببعوثهم، ثم إن يهود بني النضير كانوا على درجة من القوة تجعل استسلامهم بعيد الاحتمال، وتجعل فرض القتال معهم محفوفاً بالمكاره، إلا أن الحال التي جدت بعد مأساة بئر معونة وما قبلها زادت حساسية المسلمين بجرائم الاغتيال والغدر التي أخذوا يتعرضون لها جماعات وأفراداً، وضاعفت نقمتهم على مقترفيها، ومن ثم قرروا أن يقاتلوا بني النضير - بعد همهم باغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم - مهما تكن النتائج.
فلما بلغ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جواب حيي بن أخطب كبر وكبر أصحابه ثم نهض لمناجزة القوم، فاستعمل على المدينة ابن أم مكتوم وسار إليهم، وعلي بن أبي طالب يحمل اللواء، فلما انتهى إليهم فرض عليهم الحصار.
والتجأ بنو النضير إلى حصونهم، فأقاموا عليها يرمون بالنبل والحجارة، وكانت نخيلهم وبساتينهم عوناً لهم في ذلك، فأمر بقطعها وتحريقها، وفي ذلك يقول حسان:
وهان على سراة بني لؤي حريق بالبويرة مستطير
البويرة اسم لنخل بني النضير، وفي ذلك أنزل اللَّه تعال: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [الحشر: 5].
واعتزلتهم قريظة، وخانهم عبد اللَّه بن أبي وحلفاؤهم من غطفان، فلم يحاول أحد أن يسوق لهم خيراً، أو يدفع عنهم شراً. ولهذا شبه سبحانه وتعالى قصتهم، وجعل مثلهم: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ} [الحشر: 16].
ولم يطل الحصار - فقد دام ست ليال فقط، وقيل: خمس عشرة ليلة - حتى قذف اللَّه في قلوبهم الرعب، فاندحروا وتهيأوا للاستسلام ولإِلقاء السلاح، فأرسلوا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نحن نخرج عن المدينة، فأنزلهم على أن يخرجوا عنها بنفوسهم وذراريهم، وأن لهم ما حملت الإِبل إلا السلاح.
فنزلوا على ذلك وخربوا بيوتهم بأيديهم، ليحملوا الأبواب والشبابيك بل حتى حمل بعضهم الأوتاد وجذوع السقف، ثم حملوا النساء والصبيان، وتحملوا على ستمائة بعير، فترحل أكثرهم وأكابرهم كحيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق إلى خيبر، وذهبت طائفة منهم إلى الشام، وأسلم منهم رجلان فقط يامين بن عمرو وأبو سعد بن وهب، فأحرزا أموالهما.
وقبض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سلاح بني النضير واستولى على أرضهم وديارهم وأموالهم، فوجد من السلاح خمسين درعاً، وخمسين بيضة، وثلاثمائة وأربعين سيفاً.
وكانت أموال بني النضير وأرضهم وديارهم خالصة لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، يضعها حيث يشاء، ولم يخمسها لأن اللَّه أفاءها عليه، ولم يوجف المسلمون عليها بخيل ولا ركاب، فقسمها بين المهاجرين الأولين خاصة إلا أنه أعطى أبا دجانة وسهل بن حنيف الأنصاريين لفقرهما. وكان ينفق منها على أهله نفقة سنة، ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل اللَّه.
كانت غزوة بني النضير في ربيع الأول سنة 4 من الهجرة، أغسطس 635م. وأنزل اللَّه في هذه الغزوة سورة الحشر بأكملها، فوصف طرد اليهود، وفضح مسلك المنافقين، وبين أحكام الفيء، وأثنى على المهاجرين والأنصار، وبين جواز القطع والحرق في أرض العدو للمصالح الحربية، وأن ذلك ليس من الفساد في الأرض وأوصى المؤمنين بالتزام التقوى والاستعداد للآخرة، ثم ختمها بالثناء على نفسه وبيان أسمائه وصفاته.
وكان ابن عباس يقول عن سورة الحشر سورة النضير.
غزوة نجد:
وبهذا النصر الذي أحرزه المسلمون - في غزوة بني النضير - دون تضحيات توطد سلطانهم في المدينة، وتخاذل المنافقون عن الجهر بكيدهم، وأمكن الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتفرغ لقمع الأعراب الذين آذوا المسلمين بعد أحد، وتواثبوا على بعوث الدعاة يقتلون رجالها في نذالة وكفران، وبلغت بهم الجرأة إلى أن أرادوا القيام بجر غزوة على المدينة.
فقبل أن يقوم النبي صلى الله عليه وسلم بتأديب أولئك الغادرين نقلت إليه استخبارات المدينة بتحشد جموع البدو والأعراب من بني محارب وبني ثعلبة من غطفان، فسارع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الخروج، يجوس فيافي نجد، ويلقي بذور الخوف في أفئدة أولئك البدو القساة؛ حتى لا يعاودوا مناكرهم التي ارتكبوها مع المسلمين.
وأضحى الأعراب الذين مردوا على النهب والسطو لا يسمعون بمقدم المسلمين إلا حذروا وتمنعوا في رؤوس الجبال. وهكذا أرهب المسلمون هذه القبائل المغيرة وخلطوا بمشاعرهم الرعب، ثم رجعوا إلى المدينة آمنين.
وقد ذكر أهل المغازي والسير بهذا الصدد غزوة معينة غزاها المسلمون في أرض نجد في شهر ربيع الثاني أو جمادى الأولى سنة 4هـ، ويسمون هذه الغزوة بغزوة ذات الرقاع. أما وقوع الغزوة خلال هذه المدة فلا شك فيه. وهذا الذي كانت تقتضيه ظروف المدينة، فإن موسم غزوة بدر التي كان قد تواعد بها أبو سفيان حين انصرافه من أحد كان قد اقترب وإخلاء المدينة، مع ترك البدو والأعراب على تمردهم وغطرستهم والخروج لمثل هذا اللقاء الرهيب لم يكن من مصالح سياسة الحروب قطعاً، بل كان لا بد من خضد شوكتهم، وكف شرهم قبل الخروج لمثل هذه الحرب الكبيرة التي كانوا يتوقعون وقوعها في رحاب بدر.
وأما أن تلك الغزوة التي قادها الرسول صلى الله عليه وسلم في ربيع أو جمادى الأولى سنة 4هـ هي غزوة الرقاع فلا يصح، فإن غزوة ذات الرقاع شهدها أبو هريرة وأبو موسى الأشعري رضي اللَّه عنهما، وكان إسلام أبي هريرة قبل غزوة خيبر بأيام، وكذلك أبو موسى الأشعري رضي اللَّه عنه وافى النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر. وإذن فغزوة ذات الرقاع بعد خيبر، ويدل على تأخرها عن السنة الرابعة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيها صلاة الخوف، وكانت أول شرعية صلاة الخوف في غزوة عسفان، ولا خلاف أن غزوة عسفان كانت بعد الخندق، وكانت غزوة الخندق في أواخر السنة الخامسة.

غزوة بدر الثانية:
ولما حصد المسلمون شوكة الأعراب، وكفكفوا شرهم، أخذوا يتجهزون لملاقاة عدوهم الأكبر، فقد استدار العام، وحضر الموعد المضروب مع قريش - في غزوة أحد - وحق لمحمد صلى الله عليه وسلم وصحبه أن يخرجوا؛ ليواجهوا أبا سفيان وقومه، وأن يديروا رحى الحرب كرة أخرى حتى يستقر الأمر لأهدى الفريقين وأجدرهما بالبقاء.
ففي شعبان سنة 4هـ يناير سنة 626م، خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لموعده في ألف وخمسمائة، وكانت الخيل عشرة أفراس، وحمل لواءه علي بن أبي طالب، واستخلف على المدينة عبد اللَّه بن رواحة وانتهى إلى بدر، فأقام بها ينتظر المشركين.
وأما أبو سفيان، فخرج في ألفين من مشركي مكة، ومعهم خمسون فرساً، حتى انتهى إلى مر الظهران على بعد مرحلة من مكة فنزل بمجنة - ماء في تلك الناحية.
خرج أبو سفيان من مكة متثاقلا يفكر في عقبى القتال مع المسلمين، وقد أخذه الرعب، واستولت على مشاعره الهيبة، فلما نزل بمر الظهران خار عزمه، فاحتال للرجوع وقال لأصحابه يا معشر قريش إنه لا يصلحكم إلا عام خصب ترعون فيه الشجر وتشربون فيه اللبن، وإن عامكم هذا عام جدب، وإني راجع فارجعوا.
ويبدو أن الخوف والهيبة كانت مستولية على مشاعر الجيش أيضاً، فقد رجع الناس ولم يبدوا أي مصادمة لهذا الرأي وأي إصرار وإلحاح على مواصلة السير للقاء المسلمين.
وأما المسلمون فأقاموا ببدر ثمانية أيام ينتظرون العدو، وباعوا ما معهم من التجارة فربحوا بدرهم درهمين، ثم رجعوا إلى المدينة وقد انتقل زمام المفاجأة إلى أيديهم، وتوطدت هيبتهم في النفوس وسادوا على الموقف.
وتعرف هذه الغزوة ببدر الموعد، وبدر الثانية، وبدر الآخرة وبدر الصغرى.

غزوة دومة الجندل:
عاد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من بدر، وقد ساد المنطقة الأمن والسلام، واطمأنت دولته، فتفرغ للتوجه إلى أقصى حدود العرب حتى تصير السيطرة للمسلمين على الموقف، ويعترف بذلك الموالون والمعادون.
مكث بعد بدر الصغرى في المدينة ستة أشهر، ثم جاءت إليه الأخبار بأن القبائل حول دومة الجندل - قريباً من الشام - تقطع الطريق هناك، وتنهب ما يمر بها، وأنها قد حشدت جمعاً كبيراً تريد أن تهاجم المدينة، فاستعمل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري، وخرج في ألف من المسلمين لخمس ليال بقين من ربيع الأول سنة 5هـ، وأخذ رجلاً من بني عذرة دليلاً للطريق يقال له مذكور.
خرج يسير الليل ويكمن النهار حتى يفاجىء أعداءهم وهم غارون، فلما دنا منهم إذا هم مغربون، فهجم على ماشيتهم ورعائهم، فأصاب من أصاب، وهرب من هرب.
وأما أهل دومة الجندل ففروا في كل وجه، فلما نزل المسلمون بساحتهم لم يجدوا أحداً، وأقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أياماً، وبث السرايا وفرق الجيوش، فلم يصب منهم أحداً، ثم رجع إلى المدينة، ووادع في تلك الغزوة عيينة بن حصن. ودُومة بالضم، موضع معروف بمشارف الشام بينها وبين دمشق خمس ليال، وبعدها من المدينة خمس عشرة ليلة.
بهذه الإِقدامات السريعة الحاسمة، وبهذه الخطط الحكيمة الحازمة نجح النبي صلى الله عليه وسلم في بسط الأمن، وتنفيذ السلام في المنطقة والسيطرة على الموقف، وتحويل مجرى الأيام لصالح المسلمين، وتخفيف المتاعب الداخلية والخارجية التي كانت قد توالت عليهم، وأحاطتهم من كل جانب، فقد سكت المنافقون واستكانوا، وتم إجلاء قبيلة من اليهود، وبقيت الأخرى تظاهر بإيفاء حق الجوار وبإيفاء العهود والمواثيق، واستكانت البدو والأعراب، وحادت قريش عن مهاجمة المسلمين، ووجد المسلمون فرصة لإِفشاء الإِسلام وتبليغ رسالات رب العالمين.

غزوة الأحزاب:
عاد السلام والأمن، وهدأت الجزيرة العربية بعد الحروب والبعثات التي استغرقت أكثر من سنة كاملة، إلا أن اليهود - الذين كانوا قد ذاقوا ألواناً من الذلة والهوان نتيجة غدرهم وخيانتهم ومؤامرتهم ودسائسهم - لم يفيقوا من غيهم. ولم يستكينوا ولم يتعظوا بما أصابهم نتيجة الغدر والتآمر، فبعد نفيهم إلى خيبر ظلوا ينتظرون ما يحل بالمسلمين نتيجة المناوشات التي كانت قائمة بين المسلمين والوثنيين، ولما تحول مجرى الأيام لصالح المسلمين، وتمخضت الليالي والأيام عن بسط نفوذهم، وتوطد سلطانهم تحرق هؤلاء اليهود أي تحرق.
وشرعوا في التآمر من جديد على المسلمين، وأخذوا يعدون العدّة، لتهيئة ضربة إلى المسلمين تكون قاتلة لا حياة بعدها. ولما لم يكونوا يجدون في أنفسهم جرأة على مناورة المسلمين مباشرة، خططوا لهذا الغرض خطة رهيبة.
خرج عشرون رجلاً من زعماء اليهود وسادات بني النضير إلى قريش بمكة، يحرضونهم على غزو الرسول صلى الله عليه وسلم ، يوالونهم عليه، ووعدهم من أنفسهم بالنصر لهم فأجابتهم قريش، وقريش قد أخلفت وعدها في الخروج إلى بدر فرأت في ذلك إنقاذ سمعتها والبر بكلمتها.
ثم خرج هذا الوفد إلى غطفان، فدعاهم إلى ما دعا إليه قريشاً فاستجابوا لذلك ثم طاف الوفد في قبائل العرب يدعوهم إلى ذلك، فاستجاب له من استجاب، وهكذا نجح ساسة اليهود وقادتهم في تأليب أحزاب الكفر على النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته والمسلمين.
وفعلا خرجت من الجنوب قريش وكنانة وحلفاؤهم من أهل تهامة - وقائدهم أبو سفيان - في أربعة آلاف، ووافاهم بنو سليم بمر الظهران، وخرجت من الشرق قبائل غطفان بنو فزارة، يقودهم عيينة بن حصن، وبنو مرة، يقودهم الحارث بن عوف، وبنو أشجع يقودهم مسعر بن رخيلة كما خرجت بنو أسد وغيرها.
واتجهت هذه الأحزاب وتحركت نحو المدينة على ميعاد كانت قد تعاقدت عليه.
وبعد أيام تجمع حول المدينة جيش عرمرم يبلغ عدده عشرة آلاف مقاتل. جيش ربما يزيد عدده على جميع من في المدينة من النساء والصبيان والشباب والشيوخ.
ولو بلغت هذه الأحزاب المحزبة والجنود المجندة إلى أسوار المدينة بغتتة لكانت أعظم خطر على كيان المسلمين مما يقاس، ربما تبلغ إلى استئصال الشأفة وإبادة الخضراء ولكن قيادة المدينة كانت قيادة متيقظة، لم تزل واضعة أناملها على العروق النابضة، تتجسس الظروف وتقدر ما يتمخض عن مجراها، فلم تكد تتحرك هذه الجيوش عن مواضعها حتى نقلت استخبارات المدينة إلى قيادتها فيها بهذا الزحف الخطير
وسارع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى عقد مجلس استشاري أعلى، تناول فيه موضوع خطة الدفاع عن كيان المدينة، وبعد مناقشات جرت بين القادة وأهل الشورى اتفقوا على قرار قدمه الصحابي النبيل سلمان الفارسي رضي اللَّه عنه. قال سلمان يا رسول اللَّه، إنا كنا بأرض فارس إذا حوصرنا خندقنا علينا - وكانت خطة حكيمة لم تكن تعرفها العرب قبل ذلك.
وأسرع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى تنفيذ هذه الخطة، فوكل إلى كل عشرة رجال أن يحفروا من الخندق أربعين ذراعاً.
وقام المسلمون بجد ونشاط يحفرون الخندق، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يحثهم ويساهمهم في عملهم هذا. ففي البخاري عن سهل بن سعد، قال: كنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الخندق، وهم يحفرون، ونحن ننقل التراب على أكتادنا، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم :
اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للمهاجرين والأنصار
وعن أنس خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى الخندق فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة، فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم، فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال:
اللهم إن العيش عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة
فقالوا مجيبين له:
نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا
وفيه عن البراء بن عازب قال: رأيته صلى الله عليه وسلم ينقل من تراب الخندق حتى وارى عني الغبار جلدة بطنه، وكان كثير الشعر، فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة، وهو ينقل من التراب ويقول:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الأولى رغبوا علينا وإن أرادوا فتنة أبينا
قال: ثم يمد بها صوته بآخرها، وفي رواية:
إن الأولى قد بغوا علينا وإن أرادوا فتنة أبينا
كان المسلمون يعملون بهذا النشاط وهم يقاسون من شدة الجوع، ما يفتت الأكباد قال أنس: (كان أهل الخندق) يؤتون بملء كفي من الشعير فيصنع لهم باهالة سخنة توضع بين يدي القوم، والقوم جياع، وهي لشعة في الحلق ولها ريح.
وقال أبو طلحة شكونا النبي صلى الله عليه وسلم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الجوع فرفعنا عن بطوننا عن حجر حجر، فرفع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن حجرين.
وبهذه المناسبة وقع في حفر الخندق آيات من أعلام النبوة، رأى جابر بن عبد اللَّه في النبي صلى الله عليه وسلم خمصاً شديداً فذبح بهيمة وطحنت امرأته صاعاً من شعير ثم التمس من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سراً أن يأتي في نفر من أصحابه، فقام النبي صلى الله عليه وسلم بجميع أهل الخندق، وهم ألف فأكلوا من ذلك الطعام وشبعوا، وبقيت برمة اللحم تغط به كما هي، وبقي العجين يخبز كما هو وجاءت أخت النعمان بن بشير بحفنة من تمر إلى الخندق ليتغدى أبوه وخاله، فمرت برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فطلب منها التمر وبدده فوق ثوب، ثم دعا أهل الخندق فجعلوا يأكلون منه. وجعل التمر يزيد حتى صدر أهل الخندق عنه، وإنه يسقط من أطراف الثوب
وأعظم من هذين ما رواه البخاري عن جابر قال: إنا يوم خندق نحفر فعرضت كدية شديدة فجاؤوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق فقال: أنا نازل، ثم قام وبطنه معصوب بحجر - ولبثنا ثلاثة لا نذوق ذواقاً - فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول، فضرب فعاد كثيباً أهيل أو أهيم أي صار رملاً لا يتماسك.
وقال البراء لما كان يوم الخندق عرضت لنا في بعض الخندق صخرة لا تأخذ منها المعاول، فاشتكينا ذلك لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فجاء وأخذ المعول فقال: بسم اللَّه ثم ضرب ضربة، وقال: اللَّه أكبر، أعطيت مفاتيح الشام واللَّه إني لأنظر قصورها الحمر الساعة ثم ضرب الثانية فقطع آخر، فقال: اللَّه أكبر أعطيت فارس واللَّه إني لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن، ثم ضرب الثالثة، فقال: بسم اللَّه فقطع بقية الحجر، فقال: اللَّه أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، واللَّه إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني.
وروى ابن إسحاق مثل ذلك عن سلمان الفارسي رضي اللَّه عنه.
ولما كانت المدينة تحيط بها الحرات والجبال وبساتين من النخيل من كل جانب سوى الشمال، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعمل كخبير عسكري حاذق أن زحف مثل هذا الجيش الكبير، ومهاجمة المدينة لا يمكن إلا من جهة الشمال، اتخذ الخندق في هذا الجانب.
وواصل المسلمون عملهم في حفره، فكانوا يحفرونه طول النهار، ويرجعون إلى أهليهم في المساء، حتى تكامل الخندق حسب الخطة المنشودة، قبل أن يصل الجيش الوثني العرمرم إلى أسوار المدينة.
وأقبلت قريش في أربعة آلاف، حتى نزلت بمجتمع الأسيال من رومة بين الجرف وزعابة، وأقبلت غطفان ومن تبعهم من أهل نجد في ستة آلاف حتى نزلوا بذنب نقمي إلى جانب أحد.{وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22].
وأما المنافقون وضعفاء النفوس فقد تزعزعت قلوبهم لرؤية هذا الجيش: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا} [الأحزاب: 12].
وخرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في ثلاثة آلاف من المسلمين، فجعلوا ظهورهم إلى جبل سلع فتحصنوا به، والخندق بينهم وبين الكفار. وكان شعارهم هم لا ينصرون، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، وأمر بالنساء والذراري فجعلوا في آطام المدينة.
ولما أراد المشركون مهاجمة المسلمين واقتحام المدينة، وجدوا خندقاً عريضاً يحول بينهم وبينها، فالتجأوا إلى فرض الحصار على المسلمين، بينما لم يكونوا مستعدين له حين خرجوا من ديارهم، إذ كانت هذه الخطة - كما قالوا - مكيدة ما عرفتها العرب. فلم يكونوا أدخلوها في حسابهم رأساً.
وأخذ المشركون يدورون حول الخندق غضاباً، يتحسسون نقطة ضعيفة، لينحدروا منها، وأخذ المسلمون يتطلعون إلى جولات المشركين، يرشقونهم بالنبل، حتى لا يجترئوا على الاقتراب منه، ولا يستطيعوا أن يقتحموه، أو يهيلوا عليه التراب، ليبنوا به طريقاً يمكنهم من العبور.
وكره فوارس من قريش أن يقفوا حول الخندق من غير جدوى في ترقب نتائج الحصار، فإن ذلك لم يكن من شيمهم، فخرجت منها جماعة فيها عمرو بن عبد ود وعكرمة بن أبي جهل وضرار بن الخطاب وغيرهم، فتيمموا مكاناً ضيقاً من الخندق فاقتحموه، وجالت بهم خيلهم في السبخة بين الخندق وسلع، وخرج علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين حتى أخذوا عليهم الثغرة التي أقحموا منها خيلهم ودعا عمرو النبي صلى الله عليه وسلم إلى المبارزة، فانتدب له علي بن أبي طالب، وقال كلمة حمى لأجلها - وكان من شجعان المشركين وأبطالهم - فاقتحم عن فرسه فعقره وضرب وجهه، ثم أقبل على علي فتجاولا وتصاولا حتى قتله علي رضي اللَّه عنه، وانهزم الباقون حتى اقتحموا من الخندق هاربين وقد بلغ بهم الرعب إلى أن ترك عكرمة رمحه وهو منهزم عن عمرو.
وقد حاول المشركون في بعض الأيام محاولة بليغة، لاقتحام الخندق، أو لبناء الطرق فيها، ولكن المسلمين كافحوا مكافحة مجيدة، ورشقوهم بالنبل وناضلوهم أشد النضال حتى فشل المشركون في محاولتهم.
ولأجل الاشتغال بمثل هذه المكافحة الشديدة فات بعض الصلوات عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم والمسلمين، ففي الصحيحين عن جابر رضي اللَّه عنه أن عمر بن الخطاب جاء يوم الخندق، فجعل يسب كفار قريش، فقال: يا رسول اللَّه ما كدت أن أصلي حتى كادت الشمس أن تغرب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم وأنا واللَّه ما صليتها، فنزلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بطحان، فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها، فصلى العصر بعدما غربت الشمس ثم صلى بعدها المغرب.
وقد استاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لفوات هذه الصلاة حتى دعا على المشركين ففي البخاري عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم الخندق ملأ اللَّه عليهم بيوتهم وقبورهم ناراً كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس.
وفي مسند أحمد والشافعي أنهم حبسوه عن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء فصلاهن جميعاً. قال النووي وطريق الجمع بين هذه الروايات أن وقعة الخندق بقيت أياماً فكان هذا في بعض الأيام، وهذا في بعضها. انتهى.
ومن هنا يؤخذ أن محاولة العبور من المشركين، والمكافحة المتواصلة من المسلمين دامت أياماً، إلا أن الخندق لما كان حائلاً بين الجيشين لم يجر بينهما قتال مباشر وحرب دامية، بل اقتصروا على المراماة والمناضلة.
وفي هذه المراماة قتل رجال من الجيشين، يعدون على الأصابع ستة من المسلمين وعشرة من المشركين، بينما كان قتل واحد أو اثنين منهم بالسيف.
وفي هذه المراماة رمي سعد بن معاذ رضي اللَّه عنه بسهم فقطع منه الأكحل، رماه رجل من قريش يقال له حبان بن العرقة، فدعا سعد اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إلي أن أجاهدهم فيك من قوم كذبوا رسولك وأخرجوه، اللهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فإن كان بقي من حرب قريش شيء فأبقني لهم حتى أجاهدهم فيك، وإن كنت وضعت الحرب فافجرها واجعل موتتي فيها وقال في آخر دعائه ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة.
وبينما كان المسلمون يواجهون هذه الشدائد على جبهة المعركة كانت أفاعي الدس والتآمر تتقلب في جحورها، تريد إيصال السم داخل أجسادهم. انطلق كبير مجرمي بني النضير إلى ديار بني قريظة فأتى كعب بن أسد القرظي - سيد بني قريظة، وصاحب عقدهم وعهدهم، وكان قد عاقد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على أن ينصره إذا أصابته حرب كما تقدم - فضرب عليه حيي الباب فأغلقه كعب دونه، فما زال يكلمه حتى فتح له بابه، فقال حيي إني قد جئتك يا كعب بعز الدهر وببحر طام. جئتك بقريش على قادتها وسادتها، حتى أنزلتهم بمجمع الأسيال من رومة، وبغطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذنب نقمي إلى جانب أحد، قد عاهدوني وعاقدوني على أن لا يبرحوا حتى نستأصل محمداً ومن معه.
فقال له كعب جئتني واللَّه بذل الدهر وبجهام قد هراق ماؤه، فهو يرعد ويبرق ليس فيه شيء. ويحك يا حيي فدعني وما أنا عليه، فإني لم أر من محمد إلا صدقاً ووفاءً.
فلم يزل حيي بكعب يفتله في الذروة والغارب، حتى سمح له على أن أعطاه عهداً من اللَّه وميثاقاً لئن رجعت قريش وغطفان، ولم يصيبوا محمداً أن أدخل معك في حصنك، حتى يصيبني ما أصابك، فنقض كعب بن أسد عهده وبرىء مما كان بينه وبين المسلمين، ودخل مع المشركين في المحاربة ضد المسلمين.
وفعلا قد قامت يهود بني قريظة بعمليات الحرب. قال ابن إسحاق: كانت صفية بنت عبد المطلب في فارع حصن حسان بن ثابت، وكان حسان فيه مع النساء والصبيان، قالت صفية فمر بنا رجل من يهود، فجعل يطيف بالحصن، وقد حاربت بنو قريظة وقطعت ما بينها وبين رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وليس بينا وبينهم أحد يدفع عنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم والمسلمون في غور عدوهم، لا يستطيعون أن ينصرفوا عنهم إن آتانا آت، قالت: فقلت يا حسان إن هذا اليهودي كما ترى يطيف بالحصن، وإنى واللَّه ما آمنه أن يدل على عورتنا من وراءنا من يهود، وقد شغل عنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فانزل إليه فاقتله، قال: واللَّه لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا، قالت: فاحتجزت ثم أخذت عموداً ثم نزلت من الحصن إليه، فضربته بالعمود حتى قتلته، ثم رجعت إلى الحصن وقلت يا حسان انزل إليه فاسلبه فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل قال: ما لي بسلبه من حاجة.
وقد كان لهذا الفعل المجيد من عمة الرسول صلى الله عليه وسلم أثر عميق في حفظ ذرارى المسلمين ونسائهم، ويبدو أن اليهود ظنوا أن هذه الآطام والحصون في منعة من الجيش الإِسلامي - مع أنها كانت خالية عنهم تماماً - فلم يجترئوا مرة ثانية للقيام بمثل هذا العمل، إلا أنهم أخذوا يمدون الغزاة الوثنيين بالمؤن كدليل عملي على انضمامهم إليهم ضد المسلمين، حتى أخذ المسلمون من مؤنهم عشرين جملاً.
وانتهى الخبر إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وإلى المسلمين فبادر إلى تحقيقه، حتى يستجلي موقف قريظة فيواجهه بما يجب من الوجهة العسكرية، وبعث لتحقيق الخبر السعدين سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وعبد اللَّه بن رواحة وخوات بن جبير، وقال: انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا؟ فإن كان حقاً فالحنوا لي لحناً أعرفه، ولا تفتوا في أعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء فاجهروا به للناس. فلما دنوا منهم وجدوهم على أخبث ما يكون، فقد جاهروهم بالسب والعداوة ونالوا من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم . وقالوا: من رسول اللَّه؟ لا عهد بيننا وبين محمد، ولا عقد فانصرفوا عنهم، فلما أقبلوا على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لحنوا له، وقالوا: عضل وقارة، أي أنهم على غدر، كغدر عضل وقارة بأصحاب الرجيع.
وعلى رغم محاولتهم إفاء الحقيقة تفطن الناس لجلية الأمر، فتجسد أمامهم خطر رهيب.
وقد كان أحرج موقف يقفه المسلمون، فلم يكن يحول بينهم وبين قريظة شيء يمنعهم من ضربهم من الخلف، بينما كان أمامهم جيش عرمرم لم يكونوا يستطيعون الانصراف عنه، وكانت ذراريهم ونساؤهم بمقربة من هؤلاء الغادرين في غير منعة وحفظ، وصاروا كما يقول اللَّه تعال: {وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا} [الأحزاب: 10-11] ونجم النفاق من بعض المنافقين حتى قال: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لايأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط. وحتى قال بعض آخر في ملأ من رجال قومه إن بيوتنا عورة من العدو، فأذن لنا أن نخرج، فنرجع إلى دارنا، فإنها خارج المدينة، وحتى همت بنو سلمة بالفشل وفي هؤلاء أنزل اللَّه تعال: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا} [الأحزاب: 12-13].
أما رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فتقنع بثوبه حين أتاه غدر قريظة، فاضطجع ومكث طويلاً حتى اشتد على الناس البلاء، ثم غلبته روح الأمل فنهض يقول اللَّه أكبر أبشروا يا معشر المسلمين بفتح اللَّه ونصره، ثم أخذ يخطط لمجابهة الظرف الراهن، وكجزء من هذه الخطة كان يبعث الحرس إلى المدينة لئلا يؤتى الذراري والنساء على غرة، ولكن كان لا بد من إقدام حاسم، يفضي إلى تخاذل الأحزاب، وتحقيقاً لهذا الهدف أراد أن يصالح عيينة بن حصن والحارث بن عوف رئيسي غطفان على ثلث ثمار المدينة حتى ينصرفا بقومهما، ويخلوا المسلمون لإِلحاق الهزيمة الساحقة العاجلة على قريش التي اختبروا مدى قوتها وبأسها مراراً، وجرت المراوضة على ذلك، فاستشار السعدين في ذلك، فقالا يا رسول اللَّه إن كان اللَّه أمرك بهذا فسمعاً وطاعة، وإن كان شيء تصنعه لنا فلا حاجة لنا فيه، لقد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك باللَّه وعبادة الأوثان، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قرى أو بيعا، فحين أكرمنا اللَّه بالإِسلام وهدانا له، وأعزنا بك نعطيهم أموالنا؟ واللَّه لا نعطيهم إلا السيف، فصوب رأيهما وقال: إنما هو شيء أصنعه لكم لما رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة.
ثم إن اللَّه عز وجل - وله الحمد - صنع أمراً من عنده خذل به العدو وهزم جموعهم، وفل حدهم، فكان مما هيأ من ذلك أن رجلاً من غطفان يقال له نعيم بن مسعود بن عامر الأشجعي - رضي اللَّه عنه - جاء إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه إني قد أسلمت، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني ما شئت، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إنما أنت رجل واحد، فخذل عنا ما استطعت فإن الحرب خدعة، فذهب من فوره إلى بني قريظة - وكان عشيراً لهم في الجاهلية - فدخل عليهم وقال: قد عرفتم ودي إياكم، وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت قال: فإن قريشاً ليسوا مثلكم، البلد بلدكم فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم لا تقدرون أن تتحولوا منه إلى غيره، وإن قريشاً وغطفان قد جاؤوا لحرب محمد وأصحابه وقد ظاهرتموهم عليه وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغوه فإن أصابوا فرصة انتهزوها وإلا لحقوا ببلادهم وتركوكم ومحمداً فانتقم منك، قالوا فما العمل يا نعيم؟ قال: لا تقاتلوا معهم حتى يعطوكم رهائن. قالوا: لقد أشرت بالرأي.
ثم مضى نعيم على وجهه إلى قريش وقال لهم تعلمون ودي لكم ونصحي لكم؟ قالوا: نعم، قال: إن يهود قد ندموا على ما كان منهم من نقض عهد محمد وأصحابه وإنهم قد راسلوه أنهم يأخذون منكم رهائن يدفعونها إليه، ثم يوالونه عليكم، فإن سألوكم رهائن فلا تعطوهم، ثم ذهب إلى غطفان، فقال لهم مثل ذلك.
فلما كان ليلة السبت من شوال - سنة 5هـ - بعثوا إلى يهود أنا لسنا بأرض مقام وقد هلك الكراع والخف، فانهضوا بنا حتى نناجز محمداً، فأرسل إليهم اليهود أن اليوم يوم السبت، وقد علمتم ما أصاب من قبلنا حين أحدثوا فيه، ومع هذا فإنا لا نقاتل معكم حتى تبعثوا إلينا رهائن. وفلما جاءتهم رسهلم بذلك قالت قريش وغطفان صدقكم واللَّه نعيم، فبعثوا إلى يهود أنا واللَّه لا نرسل إليكم أحداً، فاخرجوا معنا حتى نناجز محمداً. فقالت قريظة صدقكم واللَّه نعيم. فتخاذل الفريقان، ودبت الفرقة بين صفوفهم، وخارت عزائمهم.
وكان المسلمون يدعون اللَّه تعالى: اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا ودعا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على الأحزاب، فقال: اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم.
وقد سمع اللَّه دعاء رسوله والمسلمين فبعد أن دبت الفرقة في صفوف المشركين وسرى بينهم التخاذل أرسل اللَّه عليهم جنداً من الريح فجعلت تقوض خيامهم، ولا تدع لهم قدراً إلا كفأتها، ولا طنباً إلا قلعته، ولا يقر لهم قرار، وأرسل جنداً من الملائكة يزلزلونهم، ويلقون في قلوبهم الرعب والخوف.
وأرسل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة الباردة القارصة حذيفة بن اليمان يأتيه بخبرهم، فوجدهم على هذه الحال، وقد تهيأوا للرحيل، فرجع إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فأخبره برحيل القوم، فأصبح رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقد رد اللَّه عدوه بغيظه لم ينالوا خيراً وكفاه اللَّه قتالهم، فصدق وعده، وأعز جنده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، فرجع إلى المدينة.
وكانت غزوة الخندق سنة خمس من الهجرة في شوال على أصح القولين، وأقام المشركون محاصرين رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم والمسلمين شهراً أو نحو شهر، ويبدو بعد الجمع بين المصادر أن بداية فرض الحصار كانت في شوال، ونهايته في ذي القعدة، وعند ابن سعد أن انصراف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الخندق كان يوم الأربعاء لسبع بقين من ذي القعدة.
إن معركة الأحزاب لم تكن معركة خسائر بل كانت معركة أعصاب، لم يجر فيها قتال مرير إلا أنها كانت من أحسم المعارك في تاريخ الإِسلام تمخضت عن تخاذل المشركين، وأفادت أن أية قوة من قوات العرب لا تستطيع استئصال القوة الصغيرة التي تنمو في المدينة، لأن العرب لم تكن تستطيع أن تأتي بجمع أقوى مما أتت به في الأحزاب ولذلك قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين أجلى اللَّه الأحزاب الآن نغزوهم لا يغزونا، نحن نسير إليهم.
كلام الخريطة ص -.
الخليج العربي قبائل العرب في العهد النبوي البحر الأحمر الإِفريقية
بنو ربيعة بنوبنو بنو عامر بنو تميم اليمامة بنو حذيفة
بنو طي بنو كلب بنو عبس ومرة وذبيان
بنو جذام بنو قضاعة الشمال بنو أسد أرض بني مرة فرارة سعد
بنو سليم بنو هوازن بنو لحيان فدك خيبر والد القرى الدينة حمراء الأسد هذيل الطائف أوطاس
مكة الرجيع بنو خزامة جدة رابغ خليج العقبة سينا
كلام الخريطة ص295.
خريطة غزوة الأحزاب حرة الواقم مجمع الأسيال جيش قريش البساتين البساتين المدينة البساتين حرة الوبرة
ديار بني قريظة ديار بني قينقاع التي فحتها المسلمون قبل البساتين
الخندق الخندق جبل سلع ديار بني النضير التي فتحها المسلمون قبل الأحزاب جبل عير ذو الحليفة بحيرة جيوش بني غطفان وغيرهم وادي القناة جبل أحد وادي العقيق
غزوة بني قريظة:
وفي اليوم الذي رجع فيه رسول اللَّه إلى المدينة، جاءه جبريل عليه السلام عند الظهر، وهو يغتسل في بيت أم سلمة، فقال: أو قد وضعت السلاح؟ فإن الملائكة لم تضع أسلحتهم، وما رجعت الآن إلا من طلب القوم، فانهض بمن معك إلى بني قريظة، فإني بسائر أمامك أزلزل بهم حصونهم، وأقذف في قلوبهم الرعب، فسار جبريل في موكب من الملائكة.
فأمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مؤذناً فأذن في الناس من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلين العصر إلا ببني قريظة واستعمل على المدينة ابن مكتوم، وأعطى الراية علي بن أبي طالب، وقدمه إلى بني قريظة فسار علي حتى إذا دنا من حصونهم سمع منها مقالة قبيحة لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم .
وخرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في موكبه من المهاجرين والأنصار حتى نزل على بئر من آبار قريظة يقال لها بئر أنا، وبادر المسلمون إلى إمتثال أمره، ونهضوا من فورهم، وتحركوا نحو قريظة، وأدركتهم العصر في الطريق فقال بعضهم لا نصليها إلا في بني قريظة كما أمرنا حتى أن رجالاً منهم صلوا العصر بعد العشاء الآخرة وقال بعضهم لم يرد منا ذلك، وإنما أراد سرعة الخروج، فصلوها في الطريق، فلم يعنف واحدة من الطائفتين.
هكذا تحرك الجيش الإسلامي نحو بني قريظة أرسالاً حتى تلاحقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وهم ثلاثة آلاف، والخيل ثلاثون فرساً، فنازلوا حصون بني قريظة وفرضوا عليهم الحصار.
ولما اشتد عليهم الحصار عرض عليهم رئيسهم كعب بن أسد ثلاث خصال إما أن يسلموا، ويدخلوا مع محمد صلى الله عليه وسلم في دينه فيأمنوا على دمائهم وأموالهم وأبنائهم ونسائهم وقد قال لهم واللَّه لقد تبين لكم أنه لنبي مرسل، وأنه الذي تجدونه في كتابكم وإما أن يقتلوا ذراريهم ونساءهم، بأيديهم ويخرجوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالسيوف مصلتين، يناجزونه حتى يظفروا بهم، أو يقتلوا عن آخرهم وإما أن يهجموا على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه. ويكسبوهم يوم السبت لأنهم قد أمنوا أن يقاتلوهم فيه، فأبوا أن يجيبوه إلى واحدة من هذه الخصال الثلاث، وحينئذ قال سيدهم كعب بن أسد في انزعاج وغضب ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر حازماً.
ولم يبق لقريظة بعد رد هذه الخصال الثلاث إلا أن ينزلوا على حكم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وسلم لكنهم أرادوا أن يتصلوا ببعض حلفائهم من المسلمين، لعلهم يتعرفون ماذا سيحل بهم إذا نزلوا على حكمه، فبعثوا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن أرسل إلينا أبا لبابة نستشيره وكان حليفاً لهم، وكانت أمواله وولده في منطقتهم، فلما رأوه قام إليه الرجال وجهش النساء والصبيان يبكون في وجهه، فرق لهم، وقالوا: يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال: نعم وأشار بيده إلى حلقه يقول إنه الذبح، ثم علم من فوره أنه خان اللَّه ورسوله فمضى على وجهه، ولم يرجع إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، حتى أتى المسجد النبوي بالمدينة، فربط نفسه بسارية المسجد، وحلف أن لا يحله إلا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بيده، وأنه لا يدخل أرض بني قريظة أبداً. فلما بلغ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خبره وكان قد استبطأه قال: أما إنه لو جاءني لاستغفرت له، أما إذ قد فعل ما فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب اللَّه إليه.
وبرغم ما أشار إليه أبو لبابة قررت قريظة النزول على حكم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، ولقد كان باستطاعة اليهود أن يتحملوا الحصار الطويل، لتوفر المواد الغذائية والمياه والآبار ومناعة الحصون، ولأن المسلمين كانوا يقاسون البرد القارس والجوع الشديد وهم في العراء مع شدة التعب الذي اعتراهم؛ لمواصلة الأعمال الحربية من قبل بداية معركة الأحزاب. إلا أن حرب قريظة كانت حرب أعصاب، فقد قذف اللَّه في قلوبهم الرعب، وأخذت معنوياتهم تنهار، وبلغ هذا الانهيار إلى نهايته أن تقدم علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وصاح علي يا كتيبة الإيمان، واللَّه لأذوقن ما ذاق حمزة أو لأفتحن حصنهم.
وحينئذ بادروا إلى النزول على حكم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وأمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم باعتقال الرجال، فوضعت القيود في أيديهم تحت إشراف محمد بن سلمة الأنصاري، وجعلت النساء والذراري بمعزل عن الرجال في ناحية، وقامت الأوس إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول اللَّه قد فعلت في بني قينقاع ما قد علمت وهم حلفاء إخواننا الخزرج، وهؤلاء موالينا، فأحسن فيهم، فقال: ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا: بلى. قال: فذاك إلى سعد ابن معاذ. قالوا: قد رضينا.
فأرسل إلى سعد بن معاذ، وكان في المدينة، لم يخرج معهم للجرح الذي كان أصاب أكحله في معركة الأحزاب. فأركب حماراً، وجاء إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فجعلوا يقولون وهم كنفيه يا سعد أجمل في مواليك فأحسن فيهم، فإن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد حكمك لتحسن فيهم، وهو ساكت لا يرجع إليهم شيئاً، فلما أكثروا عليه قال: لقد آن لسعد أن لا تأخذه في اللَّه لومة لائم، فلما سمعوا ذلك منه رجع بعضهم إلى المدينة فنعى إليهم القوم.
ولما انتهى سعد إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال للصحابة قوموا إلى سيدكم فلما أنزلوه قالوا: يا سعد إن هؤلاء القوم قد نزلوا على حكمك. قال: وحكمي نافذ عليهم؟ قالوا: نعم وقال: وعلى المسلمين؟ قالوا: نعم. قال: وعلى من ههنا؟ وأعرض بوجهه، وأشار إلى ناحية رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إجلالاً له وتعظيماً قال: نعم وعلي. قال: فإني أحكم فيهم أن يقتل الرجال، وتسبى الذرية، وتقسم الأموال، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لقد حكمت فيهم بحكم اللَّه من فوق سبع سماوات.
وكان حكم سعد في غاية العدل والإنصاف، فإن بني قريظة بالإضافة إلى ما ارتكبوا من الغدر الشنيع كانوا قد جمعوا لإبادة المسلمين ألفاً وخمسمائة سيف، وألفين من الرماح وثلاثمائة درع وخمسمائة ترس وجحفة، حصل عليها المسلمون بعد فتح ديارهم.
وأمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فحبست بنو قريظة في دار بنت الحارث امرأة من بني النجار، وحفرت لهم خنادق في سوق المدينة. ثم أمر بهم فجعل يذهب بهم إلى الخنادق أرسالاً أرسالاً، وتضرب فيتلك الخنادق أعناقهم. فقال: من كان بعد في الحبس لرئيسهم كعب بن أسد ما تراه يصنع بنا؟ فقال: أفي كل موطن لا تعقلون أما ترون الداعي لا ينزع؟ والذاهب منكم لا يرجع؟ هو واللَّه القتل وكانوا ما بين الستمائة إلى السبعمائة فضربت أعناقهم.
وهكذا تم استئصال أفاعي الغدر والخيانة، الذين كانوا قد نقضوا الميثاق المؤكد، وعاونوا الأحزاب على إبادة المسلمين في أحرج ساعة كانوا يمرون بها في حياتهم وكانوا قد صاروا بعملهم هذا من أكابر مجرمي الحروب الذين يستحقون المحاكمة والإعدام وقتل مع هؤلاء شيطان بني النضير، وأحد أكابر مجرمي معركة الأحزاب حيي بن أخطب والد صفية أم المؤمنين رضي اللَّه عنها، كان قد دخل مع بني قريظة في حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان؛ وفاء لكعب بن أسد بما كان عاهده عليه حينما جاء يثيره على الغدر والخيانة أيام غزوة الأحزاب، فلما أتى به وعليه حلة قد شقها من كل ناحية بقدر أنملة لئلا يسلبها مجموعة يداه إلى عنقه بحبل، قال لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أما واللَّه ما لمت نفسي في معاداتك، ولكن من يغالب اللَّه يغلب. ثم قال: أيها الناس، لا بأس بأمر اللَّه، كتاب وقدر وملحمة كتبها اللَّه على بني إسرائيل ثم جلس، فضربت عنقه.
وقتل من نسائهم امرأة واحدة كانت قد طرحت الرحى على خلاد بنت سويد فقتلته، فقتلت لأجل ذلك.
وكان قد أمر رسول اللَّه بقتل من أنبت، وترك من لم ينبت، فكان ممن لم ينبت عطية القرظي، فترك حياً، فأسلم وله صحبة.
واستوهب ثابت بن قيس الزبير بن باطا وأهله وماله وكانت للزبير يد عند ثابت فوهبهم له، ثابت بن قيس قد وهبك رسول للَّه صلى الله عليه وسلم إلى، ووهب لي مالك وأهلك فهم لك. فقال الزبير بعد أن علم بمقتل قومه سألتك بيدي عندك يا ثابت ألا ألحقتني بالأحبة، فضرب عنقه، وألحقه بالأحبة من اليهود، واستحيا ثابت من ولد الزبير بن باطا عبد الرحمن بن الزبير، فأسلم وله صحبة واستوهبت أم المنذر سلمى بنت قيس النجارية رفاعة بن سموأل القرظي فوهبه لها فاستحيته فأسلم وله صحبة.
وأسلم منهم تلك الليلة نفر قبل النزول فحقنوا دماءهم وأموالهم وذراريهم وخرج تلك الليلة عمرو وكان رجلاً لم يدخل مع بني قريظة في غدرهم برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : فرآه محمد بن مسلمة قائد الحرس النبوي، فخلى سبيله حين عرفه فلم يعلم أين ذهب.
وقسم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أموال بني قريظة بعد أن أخرج منها الخمس فأسهم للفارس ثلاثة أسهم، سهمان للفرس وسهم للفارس، وأسهم للراجل سهماً واحداً، وبعث من السبايا إلى نجد تحت إشراف سعد بن زيد الأنصاري. فابتاع بها خيلاً وسلاحاً.
واصطفى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لنفسه من نسائهم ريحانة بنت عمرو بن خناقة فكانت عنده حتى توفي عنها وهي في ملكه، هذا ما قاله ابن إسحاق وقال الكلبي إنه صلى الله عليه وسلم أعتقها، وتزوجها سنة 6هـ، وماتت مرجعه من حجة الوداع فدفنها بالبقيع.
ولما تم أمر قريظة أجيبت دعوة العبد الصالح سعد بن معاذ رضي اللَّه عنه التي قدمنا ذكرها في غزوة الأحزاب وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد ضرب له خيمة في المسجد ليعوده من قريب، فلما تم أمر قريظة انتقضت جراحته قالت عائشة فانفجرت من لبته فلم يرعهم وفي المسجد خيمة من بني غفار إلا والدم يسيل إليهم. فقالوا: يا أهل الخيمة، ما هذا يأتينا من قبلكم، فإذا سعد يغذو جرحه دما فمات منها.
وفي الصحيحين عن جابر أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ وصحح الترمذي من حديث أنس قال: لما حملت جنازة سعد بن معاذ قال المنافقون ما أخف جنازته، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : إن الملائكة كانت تحمله.
قتل في حصار بني قريظة رجل واحد من المسلمين، وهو خلاد بن سويد، الذي طرحت عليه الرحى امرأة من قريظة. ومات في الحصار أبو سنان بن محصن أخو عكاشة.
أما أبو لبابة، فأقام مرتبطاً بالجذع ست ليال تأتيه امرأته في وقت كل صلاة فتحله للصلاة ثم يعود فيرتبط بالجذع، ثم نزلت توبته على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سحراً، وهو في بيت أم سلمة، فقامت على باب حجرتها وقالت لي يا أبا لبابة أبشر فقد تاب اللَّه عليك، فثار الناس ليطلقوه، فأبى أن يطلقه أحد إلا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فلما مر النبي صلى الله عليه وسلم خارجاً إلى صلاة الصبح أطلقه.
وقعت هذه الغزوة في ذي القعدة سنة ه، ودام الحصار خمساً وعشرين ليلة.
وأنزل اللَّه تعالى في غزوة الأحزاب وبني قريظة آيات من سورة الأحزاب، علق فيها على أهم جزئيات الوقعة بين حال المؤمنين والمنافقين، ثم تخذيل الأحزاب، ونتائج الغدر من أهل الكتاب.
النشاط العسكري بعد هذه الغزوة
مقتل سلام بن أبي الحقيق:
كان سلام بن أبي الحقيق وكنيته أبو رافع من أكابر مجرمي اليهود الذين حزبوا الأحزاب ضد المسلمين وأعانوهم بالمؤن والأموال الكثيرة، وكان يؤذي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلما فرغ المسلمون من أمر قريظة استأذنت الخزرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في قتله وكان قتل كعب بن الأشرف على أيدي رجال من الأوس، فرغبت الخزرج في إحراز فضيلة مثل فضيلتهم فلذلك أسرعوا إلى هذا الاستئذان.
وأذن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في قتله، ونهى عن قتل النساء والصبيان، فخرجت مفرزة قوامها خمسة رجال، كلهم من بني سلمة من الخزرج، قائدهم عبد اللَّه بن عتيك.
خرجت هذه المفرزة، واتجهت نحو خيبر، إذ كان هناك حصن أبي رافع، فلما دنوا منه وقد غربت الشمس، وراح الناس بسرحهم قال عبد اللَّه بن عتيك لأصحابه اجلسوا مكانكم، فإني منطلق ومتلطف للبواب، لعلي أن أدخل، فأقبل حتى دنى من الباب ثم تقنع بثوبه كأنه يقضى حاجته، وقد دخل الناس، فهتف به البواب يا عبد اللَّه إن كنت تريد أن تدخل فادخل، فإني أريد أن أغلق الباب.
قال عبد اللَّه بن عتيك فدخلت فكمنت، فلما دخل الناس أغلق الباب، ثم علق الأغاليق على قال: فقمت إلى الأقاليد فأخذتها، ففتحت الباب، وكان أبو رافع يسمر عنده، وكان في علالي له، فلما ذهب عنه أهل سمره صعدت إليه، فجعلت كلما فتحت باباً أغلقت على من داخل. قلت إن القوم لو نذروا بي لم يخلصوا إلي حتى أقتله، فانتهيت إليه، فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله، لا أدري أين هو من البيت. قلت أبا رافع، قال: من هذا؟ فأهويت نحو الصوت فأضربه ضربة بالسيف وأنا دهش، فما أغنيت شيئاً، وصاح فخرجت من البيت فأمكث غير بعيد، ثم دخلت إليه، فقلت وما هذا الصوت يا أبا رافع؟ فقال: لأمك الويل، إن رجلاً في البيت ضربني قبل بالسيف، قال: فأضربه ضربة أثخنته ولم أقتله، ثم وضعت ضبيب السيف في بطنه حتى أخذ في ظهره، فعرفت أني قتلته، فجعلت أفتح الأبواب باباً، حتى انتهيت إلى درجة له، فوضعت رجلي، وأنا أرى أني قد انتهيت إلى الأرض، فوقعت في ليلة مقمرة، ود فانكسرت ساقي، فعصبتها بعمامة، ثم انطلقت حتى جلست على الباب فقلت لا أخرج الليلة حتى أعلم أقتلته؟ فلما صاح الديك صاح الناعي على السور فقال: أنعي أبا رافع تاجر أهل الحجاز، فانطلقت إلى أصحابي فقلت النجاء فقد قتل اللَّه أبا رافع. فانتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فحدثته فقال: ابسط رجلك، فبسطت رجلي فمسحها فكأنما لم أشتكها.
هذه رواية البخاري، وعند ابن إسحاق أن جميع النفر دخلوا على أبي رافع واشتركوا في قتله، وأن الذي تحامل عليه بالسيف حتى قتله هو عبد اللَّه بن أنيس، وفيه أنهم لما قتلوه ليلاً، وانكسرت ساق عبد اللَّه بن عتيك حملوه، وأتوا منهراً من عيونهم، فدخلوا فيه، وأوقد اليهود النيران، واشتدوا في كل وجه حتى إذا يئسوا رجعوا إلى صاحبهم، وأنهم حين رجعوا احتملوا عبد اللَّه بن عتيك حتى قدموا على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
كان مبعث هذه السرية في ذي القعدة أو ذي الحجة سنة 5هـ.
ولما فرغ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الأحزاب وقريظة واقتص من مجرمي الحروب أخذ يوجه حملات تأديبية إلى القبائل والأعراب، الذين لم يكونوا يستكينون للأمن والسلام إلا بالقوة القاهرة.

سرية محمد بن مسلمة:
كانت أول سرية بعد الفراغ من الأحزاب وقريظة، وكان عدد قوات هذه السرية ثلاثين راكباً.
تحركت هذه السرية إلى القرطاء بناحية ضرية بالبكرات من أرض نجد وبين ضرية والمدينة سبع ليال، تحركت لعشر ليال خلون من المحرم سنة 6هـ إلى بطن بني بكر بن كلاب. فلما أغارت عليهم هرب سائرهم فاستاق المسلمون نعماً وشاء وقدموا المدينة لليلة بقيت من المحرم ومعهم ثمامة بن أثال الحنفي سيد بني حنيفة، كان قد خرج متنكراً لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم بأمر مسيلمة الكذاب فأخذه المسلمون، فلما جاؤوا به ربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي خير يا محمد، إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعطى منه ما شئت، فتركه، ثم مرّ به مرة أخرى، فقال: له مثل ذلك، فرد عليه كما رد عليه أولاً، ثم مر مرة ثالثة فقال - بعد ما دار بينهما الكلام السابق أطلقوا ثمامة، فأطلقوه، فذهب إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل، ثم جاءه فأسلم وقال: واللَّه ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إلى من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلى، وواللَّه ما كان على وجه الأرض دين أبغض علي من دينك، فقد أصبح دينك أحب الأديان إلي، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة، فبشره رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يعتمر فلما قدم على قريش قالوا: صبأت يا ثمامة، قال: لا واللَّه ولكني أسلمت مع محمد صلى الله عليه وسلم، ولا واللَّه لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
وكانت يمامة ريف مكة، فانصرف إلى بلاده، ومنع الحمل إلى مكة، حتى جهدت قريش، وكتبوا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يسألونه بأرحامهم أن يكتب إلى ثمامة يخلى إليهم حمل الطعام، ففعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

غزوة بني لحيان:
بنو لحيان هم الذين كانوا قد غدروا بعشرة من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالرجيع، وتسببوا في إعدامهم، ولكن لما كانت ديارهم متوغلة في الحجاز إلى حدود مكة. والتارات الشديدة قائمة بين المسلمين وقريش والأعراب، لم يكن يرى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يتوغل في البلاد بمقربة من العدو الأكبر، فلما تخاذلت الأحزاب، واستوهنت عزائمهم واستكانوا للظروف الراهنة إلى حد ما، رأى أن الوقت قد آن لأن يأخذ من بني لحيان ثأر أصحابه المقتولين بالرجيع، فخرج إليهم في ربيع الأول أو جمادي الأولى سنة 6هـ في مائتين من أصحابه، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، وأظهر أنه يريد الشام، ثم أسرع السير حتى انتهى إلى بطن غران واد بين أمج وعسفان، حيث كان مصاب أصحابه، فترحم عليهم ودعا لهم، وسمعت به بنو لحيان فهربوا في رؤوس الجبال، فلم يقدر منهم على أحد. فأقام يومين بأرضهم، وبعث السرايا، فلم يقدروا عليهم، فسار إلى عسفان، فبعث عشرة فوارس إلى كراع الغميم لتسمع به قريش، ثم رجع إلى المدينة. وكانت غيبته عنها أربع عشرة ليلة.

متابعة البعوث والسرايا:
ثم تابع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في إرسال البعوث والسرايا. وهاك صورة مصغرة منها:
1.  سرية عكاشة بن محصن إلى الغمر في ربيع الأول أو الآخر سنة 6هـ.خرج عكاشة في أربعين رجلاً إلى الغمر، ماء لبني أسد، ففر القوم، وأصاب المسلمون مائتي بعير ساقوها إلى المدينة.
2.  سرية محمد بن مسلمة إلى ذي القصة في ربيع الأول أو الآخر سنة 6هـ، خرج ابن مسلمة في عشرة رجال إلى القصة في ديار بني ثعلبة، فكمن القوم لهم وهم مائة فلما ناموا قتلوهم إلا ابن مسلمة فإنه أفلت منهم جريحاً.
3.  سرية أبي عبيدة بن الجراح إلى ذي القصة في ربيع الآخر سنة 6هـ وقد بعثه النبي صلى الله عليه وسلم على إثر مقتل أصحاب محمد بن مسلمة، فخرج ومعه أربعون رجلاً إلى مصارعهم، فساروا ليلتهم مشاة، ووافوا بني ثعلبة مع الصبح فأغاروا عليهم، فأعجزوهم هرباً في الجبال، وأصابوا رجلاً واحداً فأسلم. وغنموا نعماً وشاء.
4.  سرية زيد بن حارثة إلى الجموم في ربيع الآخر سنة 6هـ. والجموم ماء لبني سليم في مر الظهران، خرج إليهم زيد فأصاب امرأة من مزينة يقال لها حليمة، فدلتهم على محلة من بني سليم أصابوا فيها نعماً وشاء وأسرى، فلما قفل بما أصاب، وهب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم للمزينية نفسها وزوجها.
5.  سرية زيد أيضاً إلى العيص في جمادي الأولى سنة 6هـ في سبعين ومائة راكب، وفيها أخذت أموال عير لقريش كان قائدها أبو العاص ختن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. وأفلت أبو العاص، فأتى زينب فاستجار بها، وسألها أن تطلب من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رد أموال العير عليه، ففعلت، وأشار رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على الناس برد الأموال من غير أن يكرههم، فردوا الكثير والقليل والكبير والصغير حتى رجع أبو العاص إلى مكة، وأدى الودائع إلى أهلها، ثم أسلم وهاجر فرد عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم زينب بالنكاح الأول بعد ثلاث سنين ونيف. كما ثبت في الحديث الصحيح ردها بالنكاح الأول لأن آية تحريم المسلمات على الكفار لم تكن نزلت إذ ذاك، وأما ما ورد من الحديث من أنه رد عليه بنكاح جديد أو رد عليه بعد ست سنين فلا يصح معنى كما أنه ليس بصحيح سنداً والعجب ممن يتمسكون بهذا الحديث الضعيف، فإنهم يقولون إن أبا العاص أسلم في أواخر سنة ثمان. قبيل الفتح، ثم يناقضون أنفسهم، فيقولون إن زينب ماتت في أوائل سنة ثمان. وجنح موسى بن عقبة أن هذا الحادث وقع في سنة 7هـ من قبل أبي بصير وأصحابه، ولكن ذلك لا يطابق الحديث الصحيح ولا الضعيف.
6.  سرية زيد أيضاً إلى الطرف أو الطرق في جمادي الآخرة سنة 6هـ خرج زيد في خمسة عشر رجلاً إلى بني ثعلبة فهربت الأعراب، وخافوا أن يكون رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سار إليهم، فأصاب من نعمهم عشرين بعيراً، وغاب أربع ليال.
7.  سرية زيد أيضاً إلى وادي القرى في رجب سنة 6هـ خرج زيد في اثني عشر رجلاً إلى وادي القرى لاستكشاف حركات العدو إن كانت هناك، فهجم عليهم سكان وادي القرى. فقتلوا تسعة وأفلتت ثلاثة فيهم زيد بن حارثة.
8.  سرية الخبط تذكر هذه السرية في رجب سنة 8هـ. ولكن السياق يدل على أنها كانت قبل الحديبية، قال جابر بعثنا النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثمائة راكب أميرنا أبو عبيدة بن الجراح نرصد عيراً لقريش، فأصابنا جوع شديد حتى أكلنا الخبط، فسمى جيش الخبط، فنحر رجل ثلاث جزائر، ثم نحر ثلاث جزائر، ثم نحر ثلاث جزائر، ثم إن أبا عبيدة نهاه، فألقى إلينا البحر دابة يقال لها العنبر، فأكلنا منه نصف شهر. وادهنا منه حتى ثابت منه أجسامنا، وصلحت، وأخذ أبو عبيدة ضلعاً من أضلاعه، فنظر إلى أطول رجل في الجيش وأطول جمل، فحمل عليه، ومر تحته، وتزودنا من لحمه وشائق، فلما قدمنا المدينة أتينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فذكرنا له ذلك فقال: هو رزق أخرجه اللَّه لكم فهل معكم من لحمه شيء، تطعمونا فأرسلنا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم منه.
وإنما قلنا: إن سياق هذه السرية يدل على أنها كانت قبل الحديبية لأن المسلمين لم يكونوا يتعرضون لعير قريش بعد صلح الحديبية.

غزوة بني المصطلق أو غزوة المريسيع (في شعبان سنة 6هـ):
وهذه الغزوة وإن لم تكن طويلة الذيل، عريضة الأطراف، من حيث الوجهة العسكرية إلا أنها وقعت فيها وقائع أحدثت البلبلة والاضطراب في المجتمع الإسلامي وتمخضت عن افتضاح المنافقين والتشريعات التعزيرية التي أعطت المجتمع الإسلامي صورة خاصة من النبل والكرامة وطهارة النفوس. ونسرد الغزوة أولاً، ثم نذكر تلك الوقائع.
كانت هذه الغزوة في شعبان سنة ست من الهجرة على أصح الأقوال وسببها أنه بلغه صلى الله عليه وسلم أن رئيس بني المصطلق الحارث بن أبي ضرار سار في قومه ومن قدر عليه من العرب يريدون حرب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فبعث بريدة بن الحصيب الأسلمي؛ لتحقيق الخبر، فأتاهم ولقى الحارث بن أبي ضرار وكلمه، ورجع إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر.
وبعد أن تأكد لديه صلى الله عليه وسلم صحة الخبر ندب الصحابة، وأسرع في الخروج، وكان خروجه لليلتين خلتا من شعبان، وخرج معه جماعة من المنافقين لم يخرجوا في غزاة قبلها، واستعمل على المدينة زيد بن حارثة، وقيل أبا ذر، وقيل ثميلة بن عبد اللَّه الليثي، وكان الحارث بن ضرار قد وجه عيناً؛ ليأتيه بخبر الجيش الإسلامي، فألقى المسلمون عليه القبض وقتلوه.
ولما بلغ الحارث بن أبي ضرار ومن معه مسير رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقتله عينه، خافوا خوفاً شديداً، وتفرق عنهم من كان معهم من العرب، وانتهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى المريسيع - بالضم فالفتح مصغراً اسم لماء من مياههم في ناحية فديد إلى الساحل - فتهيأوا للقتال، وصف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أصحابه، وراية المسلمين مع أبي بكر الصديق، وراية الأنصار مع سعد بن عبادة، فتراموا بالنبل ساعة، ثم أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فحملوا حملة رجل واحد، فكانت النصرة، وانهزم المشركون، وقتل من قتل، وسبي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم النساء والذراري والنعم والشاء، ولم يقتل من المسلمين إلا رجل واحد، قتله رجل من الأنصار ظناً منه أنه من العدو.
كذا قال أهل المغازي والسير، قال ابن القيم: وهو وهم، فإنه لم يكن بينهم قتال، وإنما أغار عليهم على الماء فسبى ذراريهم وأموالهم كما في الصحيح. أغار رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارون، وذكر الحديث؟ انتهى.
وكان من جملة السبي جويرية بنت الحارث إبنة سيد القوم، وقعت في سهم ثابت بن قيس فكاتبها، فأدى عنها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وتزوجها، فأعتق المسلمون بسبب هذا التزويج مائة من أهل بيت بني المصطلق وقد أسلموا، وقالوا: أصهار رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
وأما الوقائع التي حدثت في هذه الغزوة فلأجل أن مبعثها كان هو رأس النفاق عبد اللَّه بن أبي وأصحابه نرى أن نورد أولاً شيئاً من أفعالهم في المجتمع الإسلامي.

دور المنافقين قبل غزوة بني المصطلق:
قدمنا مراراً أن عبد اللَّه بن أبي كان يحنق على الإسلام والمسلمين، ولا سيما على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حنقاً شديداً، لأن الأوس والخزرج كانوا قد اتفقوا على سيادته، وكانوا ينظمون له الخرز؛ ليتوجوه إذ دخل فيهم الإسلام، فصرفهم عن أبي، فكان يرى أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هو الذي استلبه ملكه.
وقد ظهر حنقه هذا وتحرقه منذ بداية الهجرة قبل أن يتظاهر بالإسلام، وبعد أن تظاهر به. ركب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مرة على حمار ليعود سعد بن عبادة فمر بمجلس فيه عبد اللَّه بن أبي فحمر ابن أبي أنفه وقال: لا تغبروا علينا، ولما تلا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على المجلس القرآن، قال: اجلس في بيتك، ولا تغشنا في مجلسنا.
وهذا قبل أن يتظاهر بالإسلام، ولما تظاهر به بعد بدر لم يزل إلا عدواً للَّه ولرسوله وللمؤمنين، ولم يكن يفكر إلا في تشتيت المجتمع الإسلامي، وتوهين كلمة الإسلام، وكان يوالي أعداءه، وقد تدخل في أمر بني قينقاع كما ذكرنا، وكذلك جاء في غزوة أحد من الشر والغدر والتفريق بين المسلمين، وإثارة الارتباك والفوضى في صفوفهم بما مضى.
وكان من شدة مكر هذا المنافق وخداعه بالمؤمنين، أنه كان بعد التظاهر بالإسلام، يقوم كل جمعة حين يجلس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم للخطبة، فيقول هذا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بين أظهركم، أكرمكم اللَّه وأعزكم به فانصروه، وعزروه، واسمعوا له وأطيعوا، ثم يجلس، فيقوم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ويخطب، وكان من وقاحة هذا المنافق أنه قام في يوم الجمعة التي بعد أحد - مع ما ارتكبه من الشر والغدر الشنيع - قام ليقول ما كان يقوله من قبل، فأخذ المسلمون بثيابه من نواحيه، وقالوا له اجلس أي عدو اللَّه، لست لذلك بأهل وقد صنعت ما صنعت، فخرج يتخطى رقاب الناس وهو يقول واللَّه لكأنما قلت بجراً أن قمت أشدد أمره، فلقيه رجل من الأنصار بباب المسجد فقال: ويلك، ارجع يستغفر لك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال: واللَّه ما أبتغي أن يستغفر لي.
وكانت له اتصالات ببني النضير يؤامر معهم ضد المسلمين حتى قال لهم لئن أخرجتم لنخرجن معكم، ولئن قوتلتم لننصرنكم.
وكذلك فعل هو وأصحابه في غزوة الأحزاب من إثارة القلق والاضطراب وإلقاء الرعب والدهشة في قلوب المؤمنين ما قد قص اللَّه تعالى في سورة الأحزاب {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا} [الأحزاب: 12] إلى قوله: {يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلا قَلِيلا} [الأحزاب: 20].
بيد أن جميع أعداء الإسلام من اليهود والمنافقين والمشركين كانوا يعرفون جيداً أن سبب غلبة الإسلام ليس هو التفوق المادي، وكثرة السلاح والجيوش والعدد وإنما السبب هي القيم والأخلاق والمثل، التي يتمتع بها المجتمع الإسلامي، وكل من يمت بصلة إلى هذا الدين، وكانوا يعرفون أن منبع هذا الفيض إنما هو رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، الذي هو المثل الأعلى - إلى حد الإعجاز - لهذه القيم.
كما عرفوا بعد إدارة دفة الحروب طيلة خمس سنين، أن القضاء على هذا الدين وأهله لا يمكن بطريق استخدام السلاح، فقرروا أن يشنوا حرباً دعائية واسعة ضد هذا الدين من ناحية الأخلاق والتقاليد، وأن يجعلوا شخصية الرسول أول هدف لهذه الدعاية. ولما كان المنافقون هم الطابور الخامس في صفوف المسلمين، ولكونهم سكان المدينة، كان يمكن لهم الاتصال بالمسلمين واستفزاز مشاعرهم كل حين، تحمل فريضة الدعاية هؤلاء المنافقون، وعلى رأسهم ابن أبي.
وقد ظهرت خطتهم هذه جلية بعد غزوة الأحزاب، حينما تزوج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بأم المؤمنين زينب بنت جحش، بعد أن طلقها زيد بن حارثة، وكان من تقاليد العرب أنهم كانوا يعتبرون المتبني مثل الابن الصلبي، فكانوا يعتقدون حرمة حليلة المتبني على الرجل الذي تبناه، فلما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب وجد المنافقون ثلمتين - حسب زعمهم - لإثارة المشاغب ضد النبي صلى الله عليه وسلم.
الأولى: أن زوجته هذه كانت زوجة خامسة، والقرآن لم يكن أذن في الزواج بأكثر من أربع نسوة، فكيف صح له هذا الزواج؟
الثانية: أن زينب كانت زوجة ابنه - متبناه - فالزواج بها من أكبر الكبائر، حسب تقاليد العرب - وأكثروا من الدعاية في هذا السبيل، واختلقوا قصصاً وأساطير، قالوا: إن محمداً رآها بغتة، فتأثر بحسنها فشغفه حباً، وعلقت بقلبه، وعلم بذلك ابنه زيد فخلى سبيلها لمحمد، وقد نشروا هذه الدعاية المختلقة نشراً بقيت آثاره في كتب التفسير والحديث إلى هذا الزمان، وقد أثرت تلك الدعاية أثراً قوياً في صفوف الضعفاء حتى نزل القرآن بالآيات البينات فيها شفاء لما في الصدور، وينبىء عن سعة نشر هذه الدعاية أن اللَّه استفتح سورة الأحزاب بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الأحزاب: 1].
وهذه إشارات عابرة، وصورة مصغرة مما اقترفه المنافقون قبل غزوة بني المصطلق، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكابد كل ذلك بالصبر واللين والتلطف وكان عامة المسلمين يحترزون عن شرهم، أو يتحملونه بالصبر إذا كانوا قد عرفوهم بافتضاحهم مرة بعد أخرى حسب قوله تعال: {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} [التوبة: 126].

دور المنافقين في غزوة بني المصطلق:
ولما كانت غزوة بني المصطلق، وخرج فيها المنافقون مثلوا قوله تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} [التوبة: 47] فقد وجدوا متنفسين للتنفس بالشر فأثاروا الارتباك الشديد في صفوف المسلمين، والدعاية الشنيعة ضد النبي صلى الله عليه وسلم، وهاك بعض التفصيل عنها:

قول المنافقين:
{يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون: 8].
كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ من الغزو مقيماً على المريسيع ووردت واردة الناس، ومع عمر بن الخطاب أجير يقال له جهجاه الغفاري، فازدحم هو وسنان بن وبر الجهني على الماء فاقتتلا، فصرخ الجهني يا معشر الأنصار وصرخ جهجاه يا معشر المهاجرين، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟ دعوها فإنها منتنة. وبلغ ذلك عبد اللَّه بن أبي ابن سلول فغضب - وعنده رهط من قومه، فيهم زيد بن أرقم غلام حدث - وقال: أو قد فعلوها، قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا،واللَّه ما نحن وهم إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك، أما واللَّه لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، ثم أقبل على من حضره فقال لهم هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما واللَّه لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم.
فأخبر زيد بن أرقم عمه بالخبر، فأخبر عمه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وعنده عمر، فقال عمر مر عباد بن بشر فليقتله. فقال: فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه؟ لا ولكن أذن بالرحيل. وذلك في ساعة لم يكن يرتحل فيها، فارتحل الناس، فلقيه أسيد بن حضير فحياه، وقال: لقد رحت في ساعة منكرة؟ فقال له أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟ يريد ابن أبي، فقال وما قال؟ قال: زعم أنه إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، قال: فأنت يا رسول اللَّه، تخرجه منها إن شئت، هو واللَّه الذليل وأنت العزيز، ثم قال: يا رسول اللَّه، ارفق به، فواللَّه لقد جاءنا اللَّه بك، وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه، فإنه يرى أنك استلبته ملكاً.
ثم مشى بالناس يومهم ذلك حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس، فلم يلبثوا أن وجدوا مس الأرض فوقعوا نياماً فعل ذلك ليشغل الناس عن الحديث.
أما ابن أبي فلما علم أن زيد بن أرقم بلغ الخبر جاء إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وحلف باللَّه ما قلت ما قال، ولا تكلمت به، وقال من حضر من الأنصار يا رسول اللَّه عسى أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه، ولم يحفظ ما قال الرجل. فصدقه، قال زيد فأصابني هم لم يصبني مثله قط، فجلست في بيتي، فأنزل اللَّه {إذا جاءك المنافقون} إلى قوله {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون: 7] إلى
{لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون: 8] فأرسل إلي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقرأها علي.ثم قال: إن اللَّه قد صدقك.
وكان ابن هذا المنافق - وهو عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن أبي - رجلاً صالحاً من الصحابة الأخيار، فتبرأ من أبيه، ووقف له على باب المدينة، واستل سيفه، فلما جاء ابن أبي قال له واللَّه لا تجوز من ههنا حتى يأذن لك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فإنه العزيز وأنت الذليل، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم أذن له فخلى سبيله، وكان قد قال عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن أبي يا رسول اللَّه إن أردت قتله فمرني بذلك فأنا واللَّه أحمل إليك رأسه.

حديث الإفك:
وفي هذه الغزوة كانت قصة الإفك، وملخصها أن عائشة رضي اللَّه عنها كانت قد خرج بها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم معه في هذه الغزوة بقرعة أصابتها وكانت تلك عادته مع نسائه، فلما رجعوا من الغزوة نزلوا في بعض المنازل، فخرجت عائشة لحاجتها ففقدت عقداً لأختها كانت أعارتها إياه، فرجعت تلتمسه في الموضع الذي فقدته فيه في وقتها، فجاء النفر الذين كانوا يرحلون هودجها فظنوها فيه فحملوا الهودج، ولا ينكرون خفته؛ لأنها رضي اللَّه عنها كانت فتية السن لم يغشها اللحم الذي كان يثقلها، وأيضاً فإن النفر لما تساعدوا على حمل الهودج لم ينكروا خفته ولو كان الذي حمله واحداً أو اثنين لم يخف عليهما الحال، فرجعت عائشة إلى منازلهم، وقد أصابت العقد، فإذا ليس به داع ولا مجيب، فقعدت في المنزل، وظنت أنهم سيفقدونها فيرجعون في طلبها، واللَّه غالب على أمره، يدبر الأمر فوق عرشه كما يشاء، فغلبتها عيناها، فنامت، فلم تستيقظ إلا بقول صفوان بن المعطل إنا للَّه وإنا إليه راجعون، زوجة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ - وكان صفوان قد عرس في أخريات الجيش لأنه كان كثير النوم، فلما رآها عرفها، وكان يراها قبل نزول الحجاب، فاسترجع وأناخ راحلته، فقربها إليه، فركبتها، وما كلمها كلمة واحدة، ولم تسمع منه إلا استرجاعه، ثم سار بها يقودها، حتى قدم بها، وقد نزل الجيش في نحر الظهيرة، فلما رأى ذلك الناس تكلم كل منهم بشاكلته، وما يليق به، ووجد الخبيث عدو اللَّه ابن أبي متنفساً، فتنفس من كرب النفاق والحسد الذي بين ضلوعه، فجعل يستحكي الإفك، ويستوشيه، ويشيعه، ويذيعه، ويجمعه، ويفرقه، وكان أصحابه يتقربون به إليه، فلما قدموا المدينة أفاض أهل الإفك في الحديث، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ساكت لا يتكلم، ثم استشار أصحابه - لما استلبث الوحي طويلاً - في فراقها، فأشار عليه علي رضي اللَّه عنه أن يفارقها، ويأخذ غيرها، تلويحاً لا تصريحاً، وأشار عليه أسامة وغيره بإمساكها، وأن لا يلتفت إلى كلام الأعداء فقام على المنبر يستندر من عبد اللَّه بن أبي، فأظهر أسيد بن حضير سيد الأوس رغبته في قتله، فأخذت سعد بن عبادة - سيد الخزرج وهي قبيلة ابن أبي - الحمية القبلية فجرى بينهما كلام تثاور له الحيان، فخفضهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى سكتوا وسكت.
أما عائشة فلما رجعت مرضت شهراً، وهي لا تعلم عن حديث الإفك شيئاً سوى أنها كانت لا تعرف من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كانت تعرفه حين تشتكي، فلما نقهت خرجت مع أم مسطح إلى البراز ليلاً، فعثرت أم مسطح في مرطها فدعت على ابنها، فاستنكرت ذلك عائشة منها فأخبرتها الخبر، فرجعت عائشة واستأذنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ لتأتي أبويها وتستيقن الخبر، ثم أتتهما بعد الإذن حتى عرفت جلية الأمر، فجعلت تبكي، فبكت ليلتين ويوماً. لم تكن تكتحل بنوم، ولا يرقأ لها دمع، حتى ظنت أن البكاء فاتق كبدها. وجاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في ذلك فتشهد وقال: أما بعد يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك اللَّه، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري اللَّه وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه، ثم تاب إلى اللَّه تاب اللَّه عليه.
وحينئذ قلص دمعها. وقالت لكل من أبويها أن يجيبا، فلم يدريا ما يقولان فقالت: واللَّه لقد علمت لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم، وصدقتم به فلئن قلت لكم إني بريئة - واللَّه يعلم أني بريئة - لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر - واللَّه يعلم أني منه بريئة - لتصدقني، واللَّه ما أجد لكم مثلاً إلا قول أبي يوسف. قال: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18].
ثم تحولت واضطجعت، ونزل الوحي ساعته، فسرى عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو يضحك. فكانت أول كلمة تكلم بها يا عائشة، أما اللَّه فقد برأك، فقالت لها أمها قومي إليه. فقالت عائشة - إدلالاً ببراءة ساحتها، وثقة بمحبة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم- واللَّه لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا اللَّه.
والذي أنزله اللَّه بشأن الإفك هو قوله تعال: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} العشر الآيات.
وجلد من أهل الإفك مسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش، جلدوا ثمانين، ولم يحد الخبيث عبد اللَّه بن أبي مع أنه رأس أهل الإفك، والذي تولى كبره. إما لأن الحدود تخفيف لأهلها، وقد وعده اللَّه بالعذاب العظيم في الآخرة، وإما للمصلحة التي ترك لأجلها قتله.
وهكذا وبعد شهر أقشعت سحابة الشك والارتياب والقلق والاضطراب عن جو المدينة، وافتضح رأس المنافقين افتضاحاً لم يستطع أن يرفع رأسه بعد ذلك، قال ابن إسحاق وجعل بعد ذلك إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه ويعنفونه. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لعمر كيف ترى يا عمر؟ أما واللَّه لو قتلته يوم قلت لي اقتله لأرعدت له أنف، ولو أمرتها اليوم بقتله لقتلته. قال عمر قد واللَّه علمت لأمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمري.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة الموضوع

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More