الفقرة الثالثة: في حبّ الجاه والرئاسة
عندما يندفع الإنسان في العمل انطلاقاً من حبّ الجاه والرئاسة، فإن عمله
سينغمس كنتيجة لذلك في الأخطاء، فمقتضيات الجاه والرئاسة تستدعي تصرّفات غير مشروعة
أحياناً.
ثم إن اندفاع الإِنسان في مثل هذا يجعله يقصّر في الخير إذا لم يحقّق له
ما يريد. وقد يؤدي التنافس على الجاه والرئاسة إلى أنواع من الشرور والخصومات عدا
عن كونه يؤثر في أصل النيّة فيحبط العمل.
لذلك كان المرض خطيراً وعلاجه ضرورياً. وقد كتب الغزالي في ذلك وهذه
مختارات من كلامه:
قال رحمه الله:
بيان ما يحمد من حب الجاه وما يذم
مهما عرفت أنّ معنى الجاه ملكُ القلوبِ والقدرةُ عليها فحكمهُ حكم ملك
الأموال فإنه عرض من أعراض الحياة الدنيا، وينقطع بالموت كالمال، والدنيا مزرعة
الآخرة، فكل ما خُلق في الدنيا فيمكن أن يتزوّد منه للآخرة، وكما أنه لا بد من أدنى
مال لضرورة المطعم والمشرب والملبس، فلا بدّ من أدنى جاهٍ لضرورة المعيشة مع الخلق،
والإِنسان كما لا يستغني عن طعام يتناوله فيجوز أن يحب الطعام أو المال الذي يبتاع
به الطعام، فكذلك لا يخلو عن الحاجة إلى خادم يخدمه، ورفيق يعينه، وأستاذ يرشده،
وسلطان يحرسه ويدفع عنه ظلم الأشرار، فحبه لأنْ يكونَ له في قلب خادمه من المحل ما
يدعوه إلى الخدمة ليس بمذموم، وحبه لأن يكون له في قلب رفيقه من المحل ما يحسن به
مرافقته ومعاونته ليس بمذموم، وحبه لأن يكون له في قلب أستاذه من المحل ما يحسن به
إرشاده وتعليمه والعناية به ليس بمذموم، وحبه لأن يكون له من المحل في قلب سلطانه
ما يحث ذلك على دفع الشر عنه ليس بمذموم، فإن الجاه وسيلة إلى الأغراض كالمال، فلا
فرق بينهما إلا أنّ التحقيق في هذا يفضي إلى أن لا يكون المال والجاه بأعيانهما
محبوبين له.
بيان علاج حب الجاه
اعلم أن من غلب على قلبه حب الجاه صار مقصور الهم على مراعاة الخلق
مشغوفاً بالتودد إليهم والمراءاة لأجلهم، ولا يزال في أقواله وأفعاله ملتفتاً إلى
ما يعظم منزلته عندهم وذلك بذر النفاق وأصلُ الفساد، ويجر ذلك لا محالة إلى التساهل
في العبادات والمراءاة بها وإلى اقتحام المحظورات للتوصل إلى اقتناص القلوب، ولذلك
شبه رسول الله صلى الله عليه وسلم حب الشرف والمال وإفسادهما للدين بذئبين ضاريين،
وحب الجاه ينبت النفاق كما ينبت الماء البقل إذ النفاق هو مخالفة الظاهر للباطن
بالقول أو بالفعل، وكل من طلب المنزلة في قلوب الناس فيضطر إلى النفاق معهم وإلى
التظاهر بخصال حميدة هو خال عنها، وذلك هو عين النفاق.
فحب الجاه إذن من المهلكات، فيجب علاجه وإزالته عن القلب فإنه طَبْعٌ
جُبِلَ عليه القلب كما جبل على حب المال.
قال تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ
خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 16-17] وقال عز وجل: {كَلا بَلْ تُحِبُّونَ
الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ} [القيامة: 20-21] فمن هذا حَدُّه فينبغي
أن يعالج قلبه من حب الجاه بالعلم بالآفات العاجلة، وهو أن يتفكر في الأخطار التي
يستهدف لها أرباب الجاه في الدنيا، فإن كل ذي جاه محسود، ومقصود بالإِيذاء وخائف
على الدوام على جاهه ومحترز من أن تتغير منزلته في القلوب، والقلوب أشدّ تغيراً من
القِدْر في غليانها وهي مترددة بين الإِقبال والإِعراض، فكل ما يبنى على قلوب الخلق
يضاهي ما يبنى على أمواج البحر فإنه لا ثبات له.
0 التعليقات:
إرسال تعليق