التسميات

الموسيقى الصامتة

Our sponsors

13‏/12‏/2014

في الشرك والرياء



الفقرة الثانية: في الشرك والرياء

      أفظع أنواع الأمراض التي تُبْتلى بها الحياة البشرية الشركُ، لأنه إعطاء الربوبية لغير مستحقها، وتقديم أنواعٍ من العبودية لمن لا يستأهلها، ثم هو تمزيقٌ وتشتيت للقلب البشري، فلا يتوجّه بعد ذلك إلى جهة واحدة في العبودية والتلقّي ولا ينطلق في الحياة عن مشكاةٍ واحدة ولا بصيرة شاملة، فتراه يتعبَّد لحجر أو شجر أو كونٍ أو إنسان أو مجتمع ثم تتتابع حلقات الانحراف.
      والمسلم الذي اعتنق التوحيد تخلّص من هذا كلّه، لكنّه يصيبه مرض الشرك الخفي الذي هو الرياء، فتراه يتصرّف عمليّاً وكأنه يتعبّد لفرد أو لمجتمع، ومن ههنا يقع في مرض الرياء الخطير الذي آثاره على صاحبه وعلى الأمّة خطيرٌ لأنّه خداع للنفس وللأمّة وإهلاك للنفس في الدنيا والآخرة.

بيان درجات الرياء
      اعلم أن بعض أبوب الرياء أشد وأغلظ من بعض، واختلافه باختلاف أركانه وتفاوت الدرجات فيه. وأركانه ثلاثة: المراءى به، والمراءى لأجله، ونفس قَصْدِ الرياء.

      الركن الأول: نفس قصد الرياء وذلك لا يخلو إما أن يكون مجرداً دون إرادة عبادة الله تعالى والثواب، وإما أن يكون مع إرادة الثواب، فإن كان كذلك فلا يخلو إما أن تكون إرادة الثواب أقوى وأغلب أو أضعف أو مساوية لإرادة العبادة فتكون الدرجات الأربع:
      (الأولى) وهي أغلظها أن لا يكون الثواب أصلاً، كالذي يصلي بين أظهر الناس، ولو انفرد لكان لا يصلي بل رُبَّما يصلي من غير طهارة مع الناس، فهذا جرَّد قصده إلى الرياء فهو الممقوت عند الله تعالى. وكذلك من يخرج الصدقة خوفاً من مذمةِ الناس وهو لا يقصد الثواب ولو خلا بنفسه لما أداها فهذه الدرجة العليا من الرياء.
      (الثانية) أن يكون له قصد الثواب أيضاً ولكن قصداً ضعيفاً، بحيث لو كان في الخلوة لكان لا يفعله، ولا يحمله ذلك القصد على العمل، ولو لم يكن قصد الثواب لكان الرياء يحمله على العمل، فهذا قريب مما قبله وما فيه من شائبة قصد ثواب لا يستقل بحمله على العمل لا ينفي عنه المقت والإِثم.
      (الثالثة) أن يكون له قصد الثواب وقصد الرياء متساويين، بحيث لو كان كل واحد منهما خالياً عن الآخر لم يبعثه على العمل فلما اجتمعا انبعثت الرغبة، أو كان كل واحد منهما لو انفرد لاستقل بحمله على العمل، فهذا قد أفسد مثل ما أصلح فنرجو أن يسلم رأساً برأس لا له ولا عليه، أو يكون له من الثواب مثل ما عليه من العقاب وظواهر الأخبار تدل على أنه لا يسلم.
      (الرابعة) أن يكون اطلاع الناس مرجحاً ومقوياً لنشاطه، ولو لم يكن لكان لا يترك العبادة ولو كان قصد الرياء وحده لما أقدم عليه فالذي نظنه والعلم عند الله أنه لا يُحبط أصل الثواب، ولكنه يُنقص منه أو يعاقب على مقدار قصد الرياء ويُثابُ على مقدار قصد الثواب، وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى أنا أغنى الأغنياء عن الشرك". [أخرجه ابن ماجه وابن خزيمة في صحيحه]. فهو محمول على ما إذا تساوى القصدان أو كان قصد الرياء أرجح.

      الركن الثاني: المراءى به وهو الطاعات وذلك ينقسم إلى الرياء بأصول العبادات وإلى الرياء بأوصافها.

      القسم الأول وهو الأغلظ: الرياء بالأصول وهو على ثلاث درجات:
      (الأولى) الرياء بأصل الإِيمان وهذا أغلظ أبواب الرياء وصاحبه مخلد في النار، وهو الذي يُظهر كلمتي الشهادة وباطنه مشحون بالتكذيب ولكنه يرائي بظاهر الإِسلام.
      (الثانية) الرياء بأصول العبادات مع التصديق بأصل الدين، وهذا أيضاً عظيم عند الله ولكنه دون الأولى بكثير. ومثاله: أن يكون مال الرجل في يد غيره فيأمره بإخراج الزكاة خوفاً من ذمه، والله يعلم منه أنه لو كان في يده لما أخرجها.
      (الثالثة) أن لا يرائي بالإِيمان ولا بالفرائض، ولكنه يرائي بالنوافل والسنن التي لو تركها لا يعصي، ولكنه يكسل عنها بالخلوة لفتور رغبته في ثوابها ولإِيثار لذة الكسل على ما يرجى من الثواب، ثم يبعثه الرياء على فعلها، وذلك كحضور الجماعة في الصلاة وعيادة المريض وإتباع الجنازة وغسل الميت، وكالتهجد بالليل وصيام يوم عرفة وعاشوراء ويوم الاثنين والخميس.

      القسم الثاني: الرياء بأوصاف العبادات لا بأصولها، وهو أيضاً على ثلاث درجات.
      (الأولى) أن يرائي بفعل ما في تركه نقصان العبادة، كالذي غرضه أن يخفف الركوعَ والسجود ولا يطوِّلَ القراءة، فإذا رآهُ الناسُ أحسنَ الركوع والسجود وترك الالتفات وتمّم القعود بين السجدتين، وقد قال ابن مسعود: من فعل ذلك فهو استهانة يستهين بها ربه عز وجل، أي أنه ليس يبالي باطلاع الله عليه في الخلوة، فإذا اطلع عليه آدميٌ أحسنَ الصلاة.
      (الدرجة الثانية) أن يرائي بفعل ما لا نقصان في تركه ولكنَّ فعله في حكم التكملة والتتمة لعبادته، كالتطويل في الركوع والسجود ومدِّ القيام وتحسين الهيئة ورفع اليدين والمبادرة إلى التكبيرة الأولى وتحسين الاعتدال والزيادة في القراءة على السور المعتادة، وكذلك كثرة الخلوة في صوم رمضان وطول الصمت، وكاختيار الأجود على الجيد في الزكاة وإعتاق الرقبة الغالية في الكفارة. وكل ذلك مما لو خلا بنفسه لكان لا يقدم عليه.
      (الثالثة) أن يرائي بزيادات خارجة عن نفس النوافل أيضاً كحضوره الجماعة قبل القوم وقصده للصف الأول وتوجهه إلى يمين الإِمام وما يجري مجراه. وكل ذلك مما يعلم الله منه أنه لو خلا بنفسه لكان لا يبالي أين وقف ومتى يُحْرِمُ بالصلاة؟ فهذه درجات الرياء بالإِضافة إلى ما يرائي به وبعضه أشدّ من بعض. والكل مذموم.

      الركن الثالث: المرائى لأجله، فإن للمرائي مقصوداً لا محالة، وإنما يرائي لإِدراك مالٍ أو جاهٍ أو غرضٍ من الأغراض لا محالة، وله أيضاً درجات:
      (الأولى) وهو أشدّها وأعظمها أن يكون مقصوده التمكن من معصية، كالذي يرائي بعبادته ويظهر التقوى والورع بكثرة النوافل والامتناع عن أكل الشبهات وغرضه أن يُعْرَفَ بالأمانة فيولّى القضاء أو الأوقاف أو الوصايات أو ماَل الأيتام فيأخذها، أو يسلم إليه تفرقةُ الزكاة أو الصدقات ليستأثر بما قدر عليه منها، أو يودع الودائع فيأخذها ويجحدها، أو تسلم إليه الأموال التي تنفق في طريق الحج فيختزل بعضها أو كلها، أو يتوصل بها إلى استتباع الحجيج ويتوصل بقوتهم إلى مقاصده الفاسدة في المعاصي.
      (الثانية) أن يكون غرضه نيل حظ مباح من حظوظ الدنيا من مالٍ أو نكاح امرأةٍ جميلة أو شريفة، كالذي يُظْهِرُ الحزنَ والبكاء ويشتغل بالوعظ والتذكير لتُبذَل له الأموال ويرغب في نكاحه النساء، فيقصد إما امرأة بعينها لينكحها أو امرأة شريفة على الجملة.
      (الثالثة) أن لا يقصد نيل حظ وإدراك مال أو نكاح، ولكن يُظهر عبادته خوفاً من أن يُنْظَرَ إليه بعين النقص ولا يعدَّ من الخاصة والزهاد ويُعتقد أنه من جملة العامة كالذي يمشي مستعجلاً فيطلع عليه الناس فيحسن المشي ويترك العجلة كيلا يقال إنه من أهل اللهو والسهو لا من أهل الوقار.
      فهذه درجات الرياء ومراتب أصناف المرائين وجميعهم تحت مقت الله وغضبه، وهو من أشد المهلكات وإن من شدّته أن فيه شوائب هي أخفى من دبيب النمل كما ورد به الخبر، يزل فيه فحول العلماء فضلاً عن العباد الجهلاء بآفات النفوس وغوائل القلوب والله أعلم.

بيان دواء الرياء وطريق معالجة القلب فيه
      قد عرفت مما سبق أن الرياء محبط للأعمال وسبب للمقت عند الله تعالى وأنه من كبائر المهلكات، وما هذا وصْفُهُ فجديرٌ بالتشمير عن ساق الجدّ في إزالته ولو بالمجاهدة وتحمل المشاق، فلا شفاء إلا في شرب الأدوية المرّة البشعة، وهذه مجاهدة يضطر إليها العباد كلهم، إذ الصبي يُخْلَقُ ضعيفَ العقل والتمييز ممتدّ العين إلى الخلق، كثير الطمع فيهم، فيرى الناسَ يتصنعُ بعضهم لبعض فيغلبُ عليه حب التصنع بالضرورة ويرسخ ذلك في نفسه، وإنما يشعر بكونه مُهلكاً بعد كمال عقله وقد انغرس الرياء في قلبه، وترسّخ فيه فلا يقدر على قمعه إلا بمجاهدة شديدة ومكابرة لقوة الشهوات.


0 التعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة الموضوع

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More