التسميات

الموسيقى الصامتة

Our sponsors

13‏/12‏/2014

في الغرور




الفقرة الثامنة: في الغرور

      أول آثار الغرور السير وراء الأوهام، وقضاء العمر فيها، ولأن أكثر الناس مبتلون بذلك فإنهم كثيراً ما يسيرون وراء السّراب ولا يشعرون، قال ابن عطاء: (ما قادك شيء مثل الوهم) وما ذلك إلا أثر عن الغرور، فقد يكون طريق أقرب من طريق إلى هدف، وقد يكون طريق أهدى من طريق، ولكن الغرور يجعل صاحبه بمنأى عن ذلك كلّه.
      ومن آثار الغرور أن يرفض المغرور النصيحة وان يبقى حيث هو في سلّم الغلط او في سلّم الحياة لا ارتقاء ولا نهوض مع التلبّس بالغلط.
      ولنتصوّر حياة بشرية عمّ فيها داء الغرور كيف تكون؟
     
بيان ذم الغرور وحقيقته وأمثلته
      اعلم أن قوله تعالى: {فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان: 33] وقوله تعالى: {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمْ الأَمَانِيُّ} [الحديد: 14] كاف في ذم الغرور وكل ما ورد في فضل العلم وذمّ الجهل فهو دليل على ذم الغرور، لأن الغرور عبارة عن بعض أنواع الجهل، إذ الجهل هو أن يعتقد الشيء ويراه على خلاف ما هو به، والغرور هو جهل إلا أن كل جهل ليس بغرور، بل يستدعي الغرور مغروراً فيه مخصوصاً ومغروراً به وهو الذي يغره.

أنواع المغترين وبعض فرقهم
      (ففرقة) أحكموا العلوم الشرعية والعقلية وتعمقوا فيها واشتغلوا بها وأهملوا تفقد الجوارح وحفظها عن المعاصي وإلزامها الطاعات، واغتروا بعلمهم وظنوا أنهم عند الله بمكان وأنهم قد بلغوا من العلم مبلغاً لا يعذب الله مثلهم، بل يقبل في الخلق شفاعتهم، وأنه لا يطالبهم بذنوبهم وخطاياهم لكرامتهم على الله وهم مغرورون، فإنهم لو نظروا بعين البصيرة علموا أنّ العلم علمان: علم معاملة، وعلم بالله وبصفاته، المسمى بالعادة: علم المعرفة. فأما العلم بالمعاملة: كمعرفة الحلال والحرام، ومعرفة أخلاق النفس المذمومة والمحمودة وكيفية علاجها والفرار منها، فهي علوم لا تراد إلا للعمل ولولا الحاجة إلى العمل لم يكن لهذه العلوم قيمة، وكل علم يراد للعمل فلا قيمة له دون العمل.
      وأما الذي يدّعي علم المعرفة: كالعلم بالله وبصفاته وأسمائه وهو مع ذلك يهمل العمل ويضيع أمر الله وحدوده فَغُروره أشدّ، قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].
      (وفرقة أخرى) أحكموا العلم والعمل فواظبوا على الطاعات الظاهرة وتركوا المعاصي، إلا أنهم لم يتفقدوا قلوبهم ليمحوا الصفات المذمومة عند الله من الكبر والحسد والرياء وطلب الرياسة والعلاء وإرادة السوء للأقران والنظراء وطلب الشهرة في البلاد والعباد، وربما لم يعرف بعضهم أن ذلك مذموم فهو مكب عليها غير متحرز عنها.
      )وفرقة أخرى) علموا أنّ هذه الأخلاق الباطنة مذمومة من جهة الشرع، إلا أنهم لعجبهم بأنفسهم يظنون أنهم منفكون عنها وأنهم أرفع عند الله من أن يبتليهم بذلك، وإنما يبتلي به العوام دون من بلغ مبلغهم في العلم، فأما هم فأعظم عند الله من أن يبتليهم، ثم إذا ظهر عليهم مخايل الكبر والرياسة وطلب العلو والشرف قالوا: ما هذا كبر وإنما هو طلب عز الدين وإظهار شرف العلم ونصرة دين الله وإرغام أنف المخالفين من المبتدعين أو إني لو لبست الدون من الثياب وجلست في الدون من المجالس لشمت بي أعداء الدين وفرحوا بذلك، وكان ذلي ذلا على الإِسلام ونسي المغرور أن عدوّه الذي حذره منه مولاه هو الشيطان، وأنه يفرح بما يفعله ويسخر به، وينسى أنّ النبي بماذا نصر الدين وبماذا أرغم الكافرين؟ ونسي ما روي عن الصحابة من التواضع والتبذل والقناعة بالفقر والمسكنة، حتى عوتب عمر رضي الله عنه في بذاذة زيه عند قدومه إلى الشام فقال: إنا قوم أعزنا الله بالإِسلام فلا نطلب العز في غيره.
      )وفرقة أخرى) اشتغلوا بالوعظ والتذكير، وأعلاهم رتبة من يتكلم في أخلاق النفس وصفات القلب من الخوف والرجاء والصبر والشكر والتوكل والزهد واليقين والإِخلاص والصدق ونظائره، وهم مغرورون يظنون بأنفسهم أنهم إذا تكلموا فقد صاروا موصوفين بهذه الصفات وهم منفكون عنها عند الله إلا عن قدر يسير لا ينفك عنه عوام المسلمين، وغرور هؤلاء أشد الغرور لأنهم يعجبون بأنفسهم غاية الإِعجاب.
      (وفرقة أخرى) قنعوا بحفظ كلام الزهاد وأحاديثهم في ذم الدنيا فهم يحفظون الكلمات على وجهها ويؤدونها من غير إحاطة بمعانيها فبعضهم يفعل ذلك على المنابر، وبعضهم في المحاريب، وبعضهم في الأسواق مع الجلساء وكل منهم يظن أنه تميز بهذا القدر عن السوقة والجندية، إذ حفظ كلام الزهاد وأهل الدين دونهم ويظنّ أن حفظه لكلام أهل الدين يكفيه. وغرور هؤلاء أظهر من غرور من قبلهم.
      )وفرقة أخرى) اغتروا بالصوم وربما صاموا الدهر أو صاموا الأيام الشريفة وهم فيها لا يحفظون ألسنتهم عن الغيبة وخواطرهم عن الرياء وبطونهم عن الحرام عند الإِفطار وألسنتهم عن الهذيان بأنواع الفضول طول النهار، وهو مع ذلك يظن بنفسه الخير فيهمل الفرائض ويطلب النفل ثم لا يقوم بحقه وذلك غاية الغرور.


0 التعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة الموضوع

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More