الناس يدخلون في دين اللَّه
أفواجاً
- الوفود
- نجاح الدعوة وأثرها
- حجة الوداع
كانت غزوة فتح مكة - كما قلنا - معركة فاصلة، قضت على
الوثنية قضاء باتاً، عرفت العرب لأجلها الحق من الباطل، وزالت عنهم الشبهات،
فتسارعوا إلى اعتناق الإسلام. قال عمرو بن سلمة كنا بماء ممر الناس، وكان يمر بنا
الركبان فنسألهم ما للناس؟ ما هذا الرجل؟ - أي النبي صلى الله عليه وسلم - فيقولون
يزعم أن اللَّه أرسله. أوحى إليه... أوحى اللَّه كذا فكنت أحفظ ذلك الكلام، فكأنما
يقرأ في صدري، وكانت العرب تلوم بإسلامهم الفتح، فيقولون اتركوه وقومه، فإنه إن ظهر
عليهم فهو نبي صادق، فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قوم بإسلامهم، وبدر أبي قومي
بإسلامهم، فلما قدم قال: جئتكم واللَّه من عند النبي صلى الله عليه وسلم حقاً.
فقال: صلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلاة كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن
أحدكم، وليؤمكم أكثركم قرآناً. الحديث.
وهذا الحديث يدل على مدى أثر فتح مكة في تطوير الظروف،
وتعزيز الإسلام، وتعيين الموقف للعرب، واستسلامهم للإسلام، وتأكد ذلك أي تأكد بعد
غزوة تبوك، ولذلك نرى الوفود تقصد المدينة تترى في هذين العامين - التاسع والعاشر -
ونرى الناس يدخلون في دين اللَّه أفواجاً، حتى إن الجيش الإسلامي الذي كان قوامه
عشرة آلاف مقاتل في غزوة الفتح، إذا هو يزخرفي ثلاثين ألف مقاتل في غزوة تبوك قبل
أن يمضي على فتح مكة عام كامل، ثم نرى في حجة الوداع بحراً من رجال الإسلام - مائة
ألف من الناس أو مائة وأربعة وأربعون ألفاً منهم - يموج حول رسول اللَّه صلى الله
عليه وسلم بالتلبية والتكبير والتسبيح والتحميد تدوي له الآفاق، وترتج له
الأرجاء.
الوفود:
والوفود التي سردها أهل المغازي يزيد عددها على سبعين
وفداً، لا يمكن لنا استقصاؤها، وليس كبير فائدة في بسط تفاصيلها، وإنما نذكر منها
إجمالاً ماله روعة أو أهمية في التاريخ. وليكن على ذكر من القارىء أو وفادة عامة
القبائل وإن كانت بعد الفتح، ولكن هناك قبائل توافدت قبله أيضاً:
- وفد عبد القيس - كانت لهذه القبيلة وفادتان الأولى سنة خمس من الهجرة أو قبل ذلك. كان رجل منهم يقال له منقذ بن حيان، يرد المدينة بالتجارة فلما جاء المدينة بتجارته بعد مقدم النبي صلى الله عليه وسلم ، وعلم بالإسلام أسلم وذهب بكتاب من النبي صلى الله عليه وسلم ، إلى قومه فأسلموا، فتوافدوا إليه في شهر حرام في ثلاثة أو أربعة عشر رجلاً، وفيها سألوا عن الإيمان وعن الأشربة، وكان كبيرهم الأشج العصري الذي قال فيه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن فيك خصلتين يحبهما اللَّه، الحلم والأناة".
والوفادة الثانية كانت في سنة الوفود، وكان عددهم فيها أربعين
رجلاً، وكان فيهم الجارود بن العلاء العبدي، وكان نصرانياً فأسلم وحسن
إسلامه.
- وفد دوس - كانت وفادة هذه القبيلة في أوائل سنة سبع، ورسول اللَّه صلى الله
عليه وسلم بخيبر، وقد قدمنا حديث إسلام الطفيل بن عمرو الدوسي، وأنه أسلم ورسول
اللَّه صلى الله عليه وسلم بمكة، ثم رجع إلى قومه، فلم يزل يدعوهم إلى الإسلام،
ويبطئون عليه حتى يئس منهم، ورجع إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فطلب منه أن
يدعو على دوس، فقال: اللهم اهد دوساً. ثم أسلم هؤلاء فوفد الطفيل بسبعين أو ثمانين
بيتاً من قومه إلى المدينة في أوائل سنة سبع ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بخيبر
فلحق به.
- رسول فروة بن عمرو الجذامي - كان فروة قائداً عربياً من قواد الرومان، عاملاً
لهم على من يليهم من العرب، وكان منزله معان وما حوله من أرض الشام، أسلم بعد ما
رأى من جلاد المسلمين وشجاعتهم، وصدقهم اللقاء في معركة مؤتة سنة 8هـ ولما أسلم بعث
إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رسولاً بإسلامه، وأهدى له بغلة بيضاء، ولما علم
الروم بإسلامه أخذوه فحبسوه، ثم خيروه بين الردة والموت، فاختار الموت على الردة،
فصلبوه بفلسطين على ماء يقال له عفراء، وضربوا عنقه.
- وفد صداء - جاء هذا الوفد عقب انصراف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من
الجعرانة سنة ه. وذلك أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هيأ بعثة من أربعمائة من
المسلمين، وأمرهم أن يطأوا ناحية من اليمن فيها صداء. وبينما ذلك البعث عمل معسكراً
بصدر قناة، علم به زياد بن الحارث الصدائي، فجاء إلى رسول اللَّه صلى الله عليه
وسلم ، فقال: جئتك وافداً على من ورائي، فاردد الجيش وأنا لك بقومي. فرد الجيش من
صدر قناة، وجاء الصدائي إلى قومه فرغبهم في القدوم على رسول اللَّه صلى الله عليه
وسلم ، فقدم عليه خمسة عشر رجلاً منهم، وبايعوه على الإسلام، ثم رجعوا إلى قومهم،
فدعوهم ففشا فيهم الإسلام، فوافى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم منهم مائة رجل في
حجة الوداع.
- قدوم كعب بن زهير بن أبي سلمى - كان من بيت الشعراء، من أشعر العرب، وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما انصرف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من غزوة الطائف سنة 8هـ، كتب إلى كعب بن زهير أخوه بجير بن زهير أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قتل رجالاً بمكة ممن كانوا يهجونه ويؤذونه، ومن بقي من شعراء قريش هربوا في كل وجه، فإن كانت لك في نفسك حاجة فطر إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فإنه لا يقتل أحداً جاء تائباً، وإلا فانج إلى نجاتك. ثم جرى بين الأخوين مراسلات ضاقت لأجلها الأرض على كعب، وأشفق على نفسه، فجاء المدينة، ونزل على رجل من جهينة وصلى معه الصبح. فلما انصرف أشار عليه الجهني، فقام إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى جلس إليه، فوضع يده في يده، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا يعرفه فقال: يا رسول اللَّه. إن كعب بن زهير قد جاء ليستأمن منك تائباً مسلماً، فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به؟ قال: نعم. قال: أنا كعب بن زهير. فوثب عليه رجل من الأنصار يستأذن ضرب عنقه، فقال: دعه عنك، فإنه قد جاء تائباً نازعاً عما كان عليه.
وحينئذ أنشد كعب قصيدته المشهورة التي أولها:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول متيم إثرها، لم يفد، مكبول
قال فيها - وهو يعتذر إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ،
ويمدحه -:
نبئت أن رسول اللَّه أوعدني والعفو عند رسول اللَّه
مأمول
مهلاً هداك الذي أعطاك نافلة الـ ـقرآن فيها مواعيظ
وتفضيل
لا تأْخُذَنْ بأقوال الوشاة ولم أذنب، ولو كثرت في
الأقاويل
لقد أقوم مقاماً لو يقوم به أرى وأسمع ما لو يسمع الفيل
لظل يرعد، إلا أن يكون له من الرسول بإذن اللَّه تنويل
حتى وضعت يمين ما أنازعه في كف ذي نقمات قيلة القيل
فلهو أخوف عندي إذ أكلمه وقيل: إنك منسوب ومسؤول
من ضيغم بضراء الأرض مخدره في بطن عثر غيل دونه غيل
إن الرسول لنور يستضاء به مهند من سيوف اللَّه مسلول
ثم مدح المهاجرين من قريش؛ لأنهم لم يكن قد تكلم منهم رجل
في كعب حين جاء إلا بخير، وعرض في أثناء مدحهم على الأنصار لاستئذان رجل منهم في
ضرب عنقه، قال:
يمشون مشي الجمال الزهر يعصمهم ضرب إذا عرد السود
التنابيل
فلما أسلم وحسن إسلامه مدح الأنصار في قصيدة له، وتدارك ما
كان قد فرط منه في شأنهم، قال في تلك القصيدة:
من سره كرم الحياة فلا يزل في مقنب من صالحي الأنصار
ورثوا المكارم كابراً عن كابر إن الخيار هم بنو الأخيار
- وفد عذرة - قدم هذا الوفد في صفر سنة 9هـ - وهم اثنا عشر رجلاً فيهم حمزة بن
النعمان. قال متكلمهم حين سئلوا من القوم: نحن بنوا عذرة إخوة قصي لأمه، نحن الذين
عضدوا قصياً، وأزاحوا من بطن مكة خزاعي وبني بكر لنا قرابات وأرحام، فرحب بهم النبي
صلى الله عليه وسلم ، وبشرهم بفتح الشام، ونهاهم عن سؤال الكاهنة، وعن الذبائح التي
كانوا يذبحونها، أسلموا وأقاموا أياماً ثم رجعوا.
- وفد بلى - قدم في ربيع الأول سنة 9هـ، وأسلم وأقام بالمدينة ثلاثاً وقد سأل
رئيسهم أبو الضبيب عن الضيافة هل فيها أجر؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
نعم. وكل معروف صنعته إلى غني أو فقير فهو صدقة، وسأل عن وقت الضيافة، فقال: ثلاثة
أيام، وسأل عن ضالة الغنم فقال: هي لك أو لأخيك أو للذئب، وسأل عن ضالة البعير.
فقال: مالك وله؟ دعه حتى يجده صاحبه.
- وفد ثقيف - كانت وفادتهم في رمضان سنة 9هـ، بعد مرجع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من تبوك. وقصة إسلامهم أن رئيسهم عروة بن مسعود الثقفي جاء إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعد مرجعه من غزوة الطائف في ذي القعدة سنة 8هـ قبل أن يصل إلى المدينة، فأسلم عروة، ورجع إلى قومه، ودعاهم إلى الإسلام - وهو يظن انهم يطيعونه، لأنه كان سيداً مطاعاً في قومه وكان أحب إليهم من أبكارهم - فلما دعاهم إلى الإسلام رموه بالنبل من كل وجه حتى قتلوه، ثم أقاموا بعد قتله أشهراً، ثم ائتمروا بينهم، ورأوا أنه لا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب - الذين كانوا قد بايعوا وأسلموا - فأجمعوا أن يرسلوا رجلاً إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فكلموا عبد ياليل بن عمرو، وعرضوا عليه ذلك فأبى، وخاف أن يصنعوا به إذا رجع مثل ما صنعوا بعروة، وقال: لست فاعلاً حتى ترسلوا معي رجالاً، فبعثوا معه رجلين من الأحلاف وثلاثة من بني مالك، فصاروا ستة فيهم عثمان بن أبي العاص الثقفي، وكان أحدثهم سناً.
فلما قدموا على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ضرب عليهم
قبة في ناحية المسجد، لكي يسمعوا القرآن، ويروا الناس إذا صلوا، ومكثوا يختلفون إلى
رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وهو يدعوهم إلى الإسلام، حتى سأل رئيسهم أن يكتب
لهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قضية صلح بينهم وبين ثقيف، يأذن لهم فيها
بالزنى وشرب الخمور وأكل الربا، ويترك لهم طاغيتهم اللات، وأن يعفيهم من الصلاة وأن
لا يكسروا أصنامهم بأيديهم، فأبى رسول اللَّه أن يقبل شيئاً من ذلك، فخلوا وتشاوروا
فلم يجدوا محيصاً من الاستسلام لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فاستسلموا
وأسلموا، واشترطوا أن يتولى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هدم اللات، وأن ثقيفاً
لا يهدمونها بأيديهم أبداً. فقبل ذلك، وكتب لهم كتاباً، وأمرعليهم عثمان بن أبي
العاص الثقفي، لأنه كان أحرصهم على التفقه في الإسلام وتعلم الدين والقرآن. وذلك أن
الوفد كانوا كل يوم يفدون إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، ويخلفون عثمان بن
أبي العاص في رحالهم، فإذا رجعوا وقالوا بالهاجرة عمد عثمان بن أبي العاص إلى رسول
اللَّه صلى الله عليه وسلم فاستقرأه القرآن، وسأله عن الدين، وإذا وجده نائماً عمد
إلى أبي بكر لنفس الغرض (وكان من أعظم الناس بركة لقومه في زمن الردة، فإن ثقيفاً
لما عزمت على الردة قال لهم: يا معشر ثقيف كنتم آخر الناس إسلاماً، فلا تكونوا أول
الناس ردة، فامتنعوا على الردة، وثبتوا على الإسلام).
ورجع الوفد إلى قومه فكتمهم الحقيقة، وخوفهم بالحرب
والقتال، وأظهر الحزن والكآبة، وأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سألهم ترك الزنى
والخمر والربا وغيرها وإلا يقاتلهم. فأخذت ثقيفاً نخوة الجاهلية، فمكثوا يومين أو
ثلاثة يريدون القتال، ثم ألقى اللَّه في قلوبهم الرعب، وقالوا للوفد ارجعوا إليه
فاعطوه ما سأل، وحينئذ أبدى الوفد حقيقة الأمر، وأظهروا ما صالحوا عليه، فأسلمت
ثقيف.
وبعث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رجالاً لهدم اللات،
أمر عليهم خالد بن الوليد، فقام المغيرة بن شعبة، فأخذ الكرزين وقال لأصحابه و
اللَّه لأضحكنكم من ثقيف، فضرب بالكرزين، ثم سقط يركض، فارتج أهل الطائف، وقالوا:
أبعد اللَّه المغيرة، قتلته الربة، فوثب المغيرة فقال: قبحكم اللَّه، إنما هي لكاع
حجارة ومدر، ثم ضرب الباب فكسره، ثم علا أعلى سورها، وعلا الرجال فهدموها وسووها
بالأرض حتى حفروا أساسها. وأخرجوا حليها ولباسها، فبهتت ثقيف، ورجع خالد مع مفرزته
لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بحليها وكسوتها، فقسمه رسول اللَّه صلى الله عليه
وسلم من يومه، وحمد اللَّه على نصرة نبيه وإعزاز دينه.
- رسالة ملوك اليمن - وبعد مرجع النبي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من تبوك
قدم كتاب ملوك حمير، وهم الحارث بن عبد كلال، ونعيم بن عبد كلال، والنعمان بن قيل
ذي رعين، وهمدان ومعافر، ورسولهم إليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مالك بن مرة
الرهاوي، بعثوه بإسلامهم ومفارقتهم الشرك وأهله، وكتب إليهم رسول اللَّه صلى الله
عليه وسلم كتاباً بين فيه ما للمؤمنين وما عليهم، وأعطى فيه المعاهدين ذمة اللَّه
وذمة رسوله إذا أعطوا ما عليهم من الجزية، وبعث إليهم رجالاً من أصحابه أميرهم معاذ
بن جبل.
- وفد همدان - قدموا سنة 9هـ بعد مرجع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من تبوك،
فكتب لهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كتاباً أقطعهم فيه ما سألوه، وأمر عليهم
مالك بن النمط، واستعمله على من أسلم من قومه، وبعث إلى سائرهم خالد بن الوليد
يدعوهم إلى الإسلام، فأقام ستة أشهر يدعوهم فلم يجيبوه، ثم بعث علي بن أبي طالب،
وأمره أن يقفل خالداً، فجاء علي إلى همدان، وقرأ عليهم كتاباً من رسول اللَّه صلى
الله عليه وسلم ، ودعاهم إلى الإسلام فأسلموا جميعاً، وكتب علي ببشارة إسلامهم إلي
رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فلما قرأ الكتاب خر ساجداً، ثم رفع رأسه فقال:
السلام على همدان، السلام على همدان.
- وفد بني فزارة - قدم هذا الوفد سنة 9هـ بعد مرجعه صلى الله عليه وسلم من تبوك،
قدم في بضعة عشر رجلاً جاؤوا مقرين بالإسلام، وشكوا جدب بلادهم، فصعد رسول اللَّه
صلى الله عليه وسلم المنبر، فرفع يديه واستسقى، وقال: اللهم اسق بلادك وبهائمك،
وانشر رحمتك، وأحيي بلدك الميت، اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً مريحاً مريعاً، طبقاً
واسعاً، عاجلاً، غير آجل، نافعاً غير ضار، اللهم سقيا رحمة، لا سقيا عذاب، ولا هدم
ولا غرق ولا محق، اللهم اسقنا الغيث، وانصرنا على الأعداء.
- وفد نجران - نجران، بفتح النون وسكون الجيم بلد كبير على سبع مراحل من مكة إلى جهة اليمن، كان يشتمل على ثلاث وسبعين قرية، مسيرة يوم للراكب السريع، وكان يؤلف مائة ألف مقاتل كانوا على دين المسيحية.
وكانت وفادة أهل نجران سنة 9هـ، وقوام الوفد ستون رجلاً
منهم أربعة وعشرون من الأشراف، فيهم ثلاثة كانت إليهم زعامة أهل نجران. أحدهم
العاقب، كانت إليه الإمارة والحكومة واسمه عبد المسيح، والثاني السيد، كانت تحت
إشرافه الأمور الثقافية والسياسية واسمه الأيهم أو شرحبيل، والثالث الأسقف وكانت
إليه الزعامة الدينية، والقيادة الروحانية، واسمه أبو حارثة بن علقمة..
ولما نزل الوفد بالمدينة، ولقى النبي صلى الله عليه وسلم
سألهم وسألوه، ثم دعاهم إلى الإسلام، وتلا عليهم القرآن فامتنعوا، وسألوه عما يقول
في عيسى عليه السلام، فمكث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يومه ذلك حتى نزل عليه
{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ
ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ
الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ
فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ
وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى
الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 59-61].
ولما أصبح رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أخبرهم بقوله في
عيسى ابن مريم في ضوء هذه الآية الكريمة، وتركهم ذلك اليوم؛ ليفكروا في أمرهم،
فأبوا إن يقروا بما قال في عيسى. فلما أصبحوا وقد أبوا عن قبول ما عرض عليهم من
قوله في عيسى، وأبوا عن الإسلام دعاهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى
المباهلة، وأقبل مشتملاً على الحسن والحسين في خميل له، وفاطمة تمشي عند ظهره، فلما
رأوا منه الجد والتهيؤ خلوا وتشاوروا، فقال كل من العاقب والسيد للآخر لا تفعل
فواللَّه لئن كان نبياً فلاعننا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا، فلا يبقى على وجه
الأرض منا شعرة ولا ظفر إلا هلك، ثم اجتمع رأيهم على تحكيم رسول اللَّه صلى الله
عليه وسلم في أمرهم، فجاؤوا وقالوا: إنا نعطيك ما سألتنا. فقبل رسول اللَّه صلى
الله عليه وسلم منهم الجزية، وصالحهم على ألفي حلة. ألف في صفر، ومع كل حلة أوقية،
وأعطاهم ذمة اللَّه وذمة رسوله. وترك لهم الحرية الكاملة في دينهم، وكتب لهم بذلك
كتاباً، وطلبوا منه أن يبعث عليهم رجلاً أميناً فبعث عليهم أمين هذه الأمة أبا
عبيدة بن الجراح؛ ليقتص مال الصلح.
ثم طفق الإسلام يفشو فيهم، فقد ذكروا أن السيد والعاقب
أسلما بعد ما رجعا إلى نجران، وأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إليهم علياً؛
ليأتيه بصدقاتهم وجزيتهم، ومعلوم أن الصدقة إنما تؤخذ من المسلمين.
- وفد بني حنيفة - كانت وفادتهم سنة 9هـ، وكانوا سبعة عشر رجلاً فيهم مسيلمة الكذاب - وهو مسيلمة بن ثمامة بن كبير بن حبيب بن الحارث من بني حنيفة - نزل هذا الوفد في بيت رجل من الأنصار، ثم جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلموا، واختلفت الروايات في مسيلمة الكذاب، ويظهر بعد التأمل في جميعها أن مسيلمة صدر منه الاستنكاف والأنفة والاستكبار والطموح إلى الإماة وأنه لم يحضر مع سائر الوفد إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أراد استئلافه بالإحسان بالقول والفعل أولاً. فلما رأى أن ذلك لا يجدي نفعاً تفرس فيه الشر.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى قبل ذلك في المنام
أنه أتى بخزائن الأرض، فوقع في يديه سواران من ذهب، فكبرا عليه وأهماه، فأوحى إليه
أن انفخهما فنفخهما فذهبا، فأولهما كذابين يخرجان من بعده، فلما صدر من مسيلمة ما
صدر من الاستنكاف - وقد كان يقول إن جعل لي محمد الأمر من بعده تبعته - جاء رسول
اللَّه صلى الله عليه وسلم وفي يده قطعة من جريد، ومعه خطيبه ثابت بن قيس بن شماس،
حتى وقف على مسيلمة في أصحابه، فكلمه فقال له مسيلمة إن شئت خلينا بينك وبين الأمر،
ثم جعلته لنا بعدك، فقال: لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها، ولن تعدو أمر اللَّه
فيك، ولئن أدبرت ليعقرنك اللَّه، واللَّه إني لأراك الذي أريت فيه ما رأيت، وهذا
ثابت يجيبك عني. ثم انصرف.
وأخيراً وقع ما تفرس فيه النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن
مسيلمة لما رجع إلى اليمامة بقي يفكر في أمره حتى ادعى أنه أشرك في الأمر مع النبي
صلى الله عليه وسلم ، فادعى النبوة، وجعل يسجع السجعات، وأحل لقومه الخمر والزنى،
وهو مع ذلك يشهد لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه نبي، وافتتن به قومه فتبعوه،
وأصفقوا معه، حتى تفاقم أمره، فكان يقال له رحمان اليمامة لعظم قدره فيهم. وكتب إلى
رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كتاباً قال فيه إني أشركت في الأمر معك، وإن لنا
نصف الأمر، ولقريش نصف الأمر، فرد عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بكتاب قال
فيه إن الأرض للَّه يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين.
وعن ابن مسعود قال: جاء ابن النوحة، وابن أثال رسولاً
مسيلمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال لهما أتشهدان أني رسول اللَّه؟ فقالا
نشهد أن مسيلمة رسول اللَّه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم آمنت باللَّه ورسوله.
لو كنت قاتلاً رسولاً لقتلتكما.
كان ادعاء مسيلمة النبوة سنة عشر، وقتل في حرب اليمامة في
عهد أبي بكر رضي اللَّه عنه في ربيع الأول سنة 12، قتله وحشي قاتل حمزة، وأما
المتنبىء الثاني، وهو الأسود العنسي الذي كان باليمن، فقتله فيروز، واحتز رأسه قبل
وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بيوم وليلة، فأتاه الوحي فأخبر به أصحابه، ثم جاء
الخبر من اليمن إلى أبي بكر رضي اللَّه عنه.
- وفد بني عامر بن صعصعة - كان فيهم عامر بن الطفيل عدو اللَّه وأربد بن قيس - أخو لبيد لأمه - وخالد بن جعفر، وجبار بن أسلم، وكانوا رؤساء القوم وشياطينهم، وكان عامر هو الذي غدر بأصحاب بئر معونة، فلما أراد هذا الوفد أن يقدم المدينة تآمر عامر وأربد، واتفقا على الفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم ، فلما جاء الوفد جعل عامر يكلم النبي صلى الله عليه وسلم ، ودار أربد خلفه، واخترط سيفه شبرا، ثم حبس اللَّه يده فلم يقدر على سله، وعصم اللَّه نبيه، ودعا عليهما النبي صلى الله عليه وسلم فلما رجعا أرسل اللَّه على أربد وجمله صاعقة فأحرقته، وأما عامر فنزل على امرأة سلولية، فأصيب بغدة في عنقه فمات وهو يقول أغدة كغدة البعير، وموتاً في بيت السلولية.
وفي صحيح البخاري أن عامراً أتى النبي صلى الله عليه وسلم
فقال: أخيرك بين خصال ثلاث يكون لك أهل السهل ولي أهل المدر، أو أكون خليفتك من
بعدك، أو أغزوك بغطفان بألف أشقر وألف شقراء، فطعن في بيت امرأة فقال: أغدة كغدة
البعير، في بيت امرأة من بني فلان إيتوني بفرسي فركب، فمات على فرسه.
- وفد تجيب - قدم هذا الوفد بصدقات قومه مما فضل عن فقرائهم وكان الوفد ثلاثة عشر
رجلاً، وكانوا يسألون عن القرآن والسنن يتعلمونها، وسألوا رسول اللَّه صلى الله
عليه وسلم فكتب لهم بها، ولم يطلبوا اللبث، ولما أجازهم رسول اللَّه صلى الله عليه
وسلم بعثوا إليه غلاماً كانوا خلفوه في رحالهم، فجاء الغلام، وقال: واللَّه ما
أعملني من بلادي إلا أن تسأل اللَّه عز وجل أن يغفر لي ويرحمني، وأن يجعل غناي في
قلبي، فدعا له بذلك. فكان أقنع الناس، وثبت في الردة على الإسلام وذكر قومه ووعظهم
فثبتوا عليه، والتقى أهل الوفد بالنبي صلى الله عليه وسلم مرة أخرى في حجة الوداع
سنة 10هـ.
- وفد طيء - قدم هذا الوفد وفيهم زيد الخيل، فلما كلموا النبي صلى الله عليه وسلم ، وعرض عليهم الإسلام أسلموا وحسن إسلامهم، وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن زيد ما ذكر لي رجل من العرب بفضل، ثم جاءني إلا رأيته دون ما يقال فيه، إلا زيد الخيل فإنه لم يبلغ كل ما فيه، وسماه زيد الخير.
وهكذا تتابعت الوفود إلى المدينة في سنتي تسع وعشر، وقد ذكر
أهل المغازي والسير منها وفود أهل اليمن، والأزد وبني سعد هذيم من قضاعة، وبني عامر
بن قيس، بني أسد، وبهراء، وخولان ومحارب، وبني الحارث، كعب، وغامد بني المنتفق،
وسلامان، وبني عبس، ومزينة، ومراد، وزبيد، وكندة، وذي مرة، وغسان، وبني عيش، ونخع -
وهو آخر الوفود، توافد في منتصف محرم سنة 11هـ في مائتي رجل - وكانت وفادة
الأغلبيةمن هذه الوفود سنة 11 و10هـ وقد تأخرت وفادة بعضها إلى سنة 11هـ.
وتتابع هذه الوفود يدل على مدى ما نالت الدعوة الإسلامية من
القبول التام وبسط السيطرة والنفوذ على أنحاء جزيرة العرب وأرجائها، وأن العرب كانت
تنظر إلى المدينة بنظر التقدير والإجلال، حتى لم تكن ترى محيصاً عن الاستسلام
أمامها، فقد صارت المدينة عاصمة لجزيرة العرب، لا يمكن صرف النظر عنها. إلا أننا لا
يمكن لنا القول بأن الدين قد تمكن من أنفس هؤلاء بأسرهم، لأنه كان وسطهم كثيراً من
الأعراب الجفاة الذين أسلموا تبعاً لسادتهم، ولم تكن أنفسهم قد خلصت بعد مما تأصل
فيها من الميل إلى الغارات، ولم تكن تعاليم الإسلام قد هذبت أنفسهم تمام التهذيب،
وقد وصل القرآن بعضهم بقوله في سورة التوبة: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا
وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى
رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا
يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ
السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 97-98] وأثنى على آخرين منهم
فقال: {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ
وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا
إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 99].
أما الحاضرون منهم في مكة والمدينة وثقيف، وكثير من اليمن
والبحرين فقد كان الإسلام فيهم قوياً، ومنهم كبار الصحابة وسادات المسلمين.
نجاح الدعوة وأثرها
وقبل أن نتقدم خطوة أخرى إلى مطالعة أواخر أيام حياة الرسول
صلى الله عليه وسلم ينبغي لنا أن نلقي نظرة إجمالية على العمل الجليل الذي هو فذلكة
حياته، والذي امتاز به عن سائر الأنبياء والمرسلين حتى توج اللَّه هامته بسيادة
الأولين والآخرين.
إنه صلى الله عليه وسلم قيل له: {يَا أَيُّهَا
الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا} [المزمل: 1-2] و {يَا
أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر: 1-2]، فقام، وظل قائماً
أكثر من عشرين عاماً يحمل على عاتقه عبء الأمانة الكبرى في هذه الأرض، عبء البشرية
كلها؛ وعبء العقيدة كلها، وعبء الكفاح والجهاد في ميادين شتى.
حمل عبء الكفاح والجهاد في ميدان الضمير البشري الغارق في
أوهام الجاهلية وتصوراتها، المثقل بأثقال الأرض وجواذبها، المكبل بأوهان الشهوات
وأغلالها، حتى إذا خلص هذا الضمير في بعض صحابته مما يثقله من ركام الجاهلية
والحياة الأرضية، بدأ معركة أخرى في ميدان آخر، الحريصين على قتل هذه الغرسة الزكية
في منبتها، بل معارك متلاصقة مع أعداء اللَّه وعزة المتألبين عليها وعلى المؤمنين
بها قبل أن تنمو وتمد جذورها في التربة، وفروعها في الفضاء، وتظل مساحات أخرى. ولم
يكد يفرغ من معارك الجزيرة العربية حتى كانت الروم تعد لهذه الأمة الجديدة، وتتهيأ
للبطش بها على تخومها الشمالية.
وفي أثناء هذا كله لم تكن المعركة الأولى - معركة الضمير -
قد انتهت. فهي معركة خالدة، الشيطان صاحبها، وهو لا يتوانى لحظة عن مزاولة نشاطه في
أعماق الضمير الإنساني. ومحمد صلى الله عليه وسلم قائم على دعوة اللَّه هناك، وعلى
المعركة الدائبة في ميادينها المتفرقة، في شظف من العيش، والدنيا مقبلة عليه. وفي
جهد وكد، والمؤمنون يستروحون من حوله ظلال الأمن والراحة، وفي نصب دائم لا ينقطع،
وفي صبر جميل على هذا كله، وفي قيام الليل، وفي عبادة لربه وترتيل لقرآنه، وتبتل
إليه كما أمره أن يفعل.
وهكذا عاش في المعركة الدائبة المستمرة أكثر من عشرين
عاماً، لا يلهيه شأن عن شأن في خلال هذا الأمد، حتى نجحت الدعوة الإسلامية على نطاق
واسع تتحير له العقول، فقد دانت لها الجزيرة العربية، وزالت غبرة الجاهلية عن
آفاقها. وصحت العقول العليلة حتى تركت الأصنام بل كسرت، وأخذ الجو يرتج بأصواب
التوحيد، وسمع الأذان للصلوات يشق أجواء الفضاء خلال الصحراء التي أحياها الإيمان
الجديد، وانطلق القراء شمالاً وجنوباً، يتلون آيات الكتاب، ويقيمون أحكام
اللَّه.
وتوحدت الشعوب والقبائل المتناثرة، وخرج الإنسان من عبادة
العباد إلى عبادة اللَّه، فليس هناك قاهر ومقهور، وسادات وعبيد، وحكام ومحكومون،
وظالم ومظلوم، وإنما الناس كلهم عباد اللَّه، إخوان متحابون، متمثلون لأحكامه، أذهب
اللَّه عنهم عيبة الجاهلية ونخوتها وتعاظمها بالآباء، ولم يبق هناك فضل لعربي على
عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى، الناس كلهم بنو آدم،
وآدم من تراب.
وهكذا تحققت - بفضل هذه الدعوة - الوحدة العربية، والوحدة
الإنسانية والعدالة الاجتماعية، والسعادة البشرية في قضاياها ومشاكلها الدنيوية،
وفي مسائلها الأخروية، فتقلب مجرى الأيام، وتغير وجه الأرض، وانعدل خط التاريخ،
وتبدلت العقلية.
إن العالم كانت تسيطر عليه روح الجاهلية - قبل هذه الدعوة -
ويتعفن ضميره، وتأنس روحه، وتختل فيه القيم والمقاييس، ويسوده الظلم والعبودية،
وتجتاحه موجة من الترف الفاجر والحرمان التاعس، وتغشاه غاشية الكفر والضلال
والظلام، على الرغم من الديانات السماوية، التي كانت قد أدركها التحريف، وسرى فيها
الضعف، وفقدت سيطرتها على النفوس، واستحالت طقوساً جامدة لا حياة فيها ولا روح.
فلما قامت هذه الدعوة بدورها في حياة البشرية، خلصت روح
البشر من الوهم والخرافة، ومن العبودية والرق، ومن الفساد والتعفن، ومن القذارة
والانحلال، وخلصت المجتمع الإنساني من الظلم والطغيان، ومن التفكك والانهيار، ومن
فوارق الطبقات، واستبداد الحكام، واستذلال الكهان. وقامت ببناء العالم على أسس من
العفة والنظافة، والإيجابية والبناء، والحرية والتجدد، ومن المعرفة واليقين، والثقة
والإيمان والعدالة والكرامة، ومن العمل الدائب؛ لتنمية الحياة، وترقية الحياة،
وإعطاء كل ذي حق حقه في الحياة.
وبفضل هذه التطورات شاهدت الجزيرة العربية نهضة مباركة لم
تشاهد مثلها منذ نشأ فوقها العمران، ولم يتألق تاريخها تألقه في هذه الأيام الفريدة
من عمرها.
حجة الوداع
تمت أعمال الدعوة، وإبلاغ الرسالة، وبناء مجتمع جديد على
أساس إثبات الألوهية للَّه، ونفيها عن غيره، وعلى أساس رسالة محمد صلى الله عليه
وسلم ، وكأن هاتفاً خفياً انبعث في قلب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، يشعره أن
مقامه في الدنيا قد أوشك على النهاية، حتى إنه حين بعث معاذاً على اليمن سنة 10هـ
قال له فيما قال: يا معاذ إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك أن تمر بمسجدي
هذا وقبري، فبكى معاذ خشعاً لفراق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم .
وشاء اللَّه أن يرى رسوله صلى الله عليه وسلم ثمار دعوته
التي عانى في سبيلها ألواناً من المتاعب بضعاً وعشرين عاماً، فيجتمع في أطراف مكة
بأفراد قبائل العرب وممثليها، فيأخذوا منه شرائع الدين وأحكامه، ويأخذ منهم الشهادة
على أنه أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة.
أعلن النبي صلى الله عليه وسلم بقصده لهذه الحجة المبرورة
المشهودة، فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول اللَّه صلى الله عليه
وسلم . وفي يوم السبت لأربع بقين من ذي القعدة تهيأ النبي صلى الله عليه وسلم
للرحيل، فترجل وادهن ولبس إزاره ورداءه وقلد بدنه، وانطلق بعد الظهر، حتى بلغ ذا
الحليفة قبل أن يصلي العصر، فصلاها ركعتين، وبات هناك حتى أصبح. فلما أصبح قال
لأصحابه أتاني الليلة آت من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في
حجة.
وقبل أن يصلي الظهر اغتسل لإحرامه، ثم طيبته عائشة بيدها
بذريرة وطيب فيه مسك، في بدنه ورأسه، حتى كان وبيص الطيب يرى في مفارقه ولحيته، ثم
إستدامه ولم يغسله، ثم لبس إزاره ورداءه، ثم صلى الظهر ركعتين، ثم أهل بالحج
والعمرة في مصلاه، وقرن بينهما، ثم خرج، فركب القصواء، فأهل أيضاً ثم أهل لما
استقلت به على البيداء.
ثم واصل سيره حتى قرب من مكة، فبات بذي طوى، ثم دخل مكة بعد
أن صلى الفجر واغتسل من صباح يوم الأحد لأربع ليال خلون من ذي الحجة سنة 10هـ - وقد
قضى في الطريق ثمان ليال، وهي المسافة الوسطى - فلما دخل المسجد الحرام طاف بالبيت،
وسعى بين الصفا والمروة، ولم يحل، لأنه كان قارناً قد ساق معه الهدى، فنزل بأعلى
مكة عند الحجون، وأقام هناك، ولم يعد إلى الطواف غير طواف الحج.
وأمر من لم يكن معه هدي من أصحابه أن يجعلوا إحرامهم عمرة،
فيطوفوا بالبيت وبين الصفا والمروة، ثم يحلوا حلالاً تاماً، فترددوا، فقال: لو
استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت، ولولا أن معي الهدي لأحللت، فحل من لم يكن
معه هدي، وسمعوا وأطاعوا.
وفي اليوم الثامن من ذي الحجة - وهو يوم التروية - توجه إلى
منى، فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر - خمس صلوات - ثم مكث قليلاً
حتى طلعت الشمس، فأجاز حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها، حتى
إذا زالت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له، فأتى بطن الوادي، وقد اجتمع حوله مائة ألف
وأربعة وعشرون أو أربعة وأربعون ألفاً من الناس، فقام فيهم خطيباً، وألقى هذه
الخطبة الجامعة:
أيها الناس اسمعوا قولي، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد
عامي هذا بهذا الموقف أبداً.
إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم
هذا، في بلدكم هذا. ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية
موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث - وكان مسترضعاً في بني
سعد فقتلته هذيل - وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع من ربانا ربا عباس بن عبد
المطلب، فإنه موضوع كله.
فاتقوا اللَّه في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة اللَّه،
واستحللتم فروجهن بكلمة اللَّه، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن
فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف.
وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به، كتاب
اللَّه.
أيها الناس، إنه لا نبي بعدي، ولا أمة بعدكم، ألا فاعبدوا
ربكم، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، طيبة بها أنفسكم، وتحجون بيت
ربكم، وأطيعوا أولات أمركم، تدخلوا جنة ربكم.
وأنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد
بلغت وأديت ونصحت.
فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء، وينكتها إلى الناس
اللهم اشهد ثلاث مرات.
وكان الذي يصرخ في الناس بقول رسول اللَّه صلى الله عليه
وسلم - وهو بعرفة - ربيعة بن أمية بن خلف.
وبعد أن فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من إلقاء الخطبة نزل
عليه قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ
عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3] وعندما
سمعها عمر بكى، فقيل له ما يبكيك؟ قال: إنه ليس بعد الكمال إلا النقصان.
وبعد الخطبة أذن بلال ثم أقام، فصلى رسول اللَّه صلى الله
عليه وسلم بالناس الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئاً. ثم ركب حتى أتى
الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه، واستقبل
القبلة، فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس، وذهبت الصفرة قليلاً حتى غاب القرص.
وأردف أسامة، ودفع حتى أتى المزدلفة، فصلى بها المغرب
والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئاً، ثم اضطجع حتى طلع الفجر، فصلى
الفجر حتى تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام،
فاستقبل القبلة، فدعاه، وكبره، وهلله، ووحده، فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً.
فدفع - من المزدلفة إلى منى - قبل أن تطلع الشمس، وأردف
الفضل بن عباس حتى أتى بطن محسر، فحرك قليلاً، ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على
الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة - وهي الجمرة الكبرى نفسها، كانت
عندها شجرة في ذلك الزمان، وتسمى بجمرة العقبة وبالجمرة الأولى - فرماها بسبع
حصيات، يكبر مع كل حصاة منها، مثل حصى الخذف رمى من بطن الوادي، ثم انصرف إلى
المنحر، فنحر ثلاثاً وستين بدنة بيده، ثم أعطى علياً فنحر ما غبر - وهي سبع وثلاثون
بدنة، تمام المائة - وأشركه في هديه ثم أمر من كل بدنة ببضعة، فجعلت في قدر، فطبخت،
فأكلا من لحمها، وشربا من مرقها.
ثم ركب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فأفاض إلى البيت،
فصلى بمكة الظهر فأتى على بني عبد المطلب يسقون على زمزم، فقال: انزعوا بني عبد
المطلب، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم، فناولوه دلواً فشرب
منه.
وخطب االنبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر - عاشر ذي الحجة
- أيضاً حين ارتفع الضحى، وهو على بغلة شهباء؛ وعلي يعبر عنه، والناس بين قائم
وقاعد وأعاد في خطبته هذه بعض ما كان ألقاه أمس، فقد روى الشيخان عن أبي بكر قال:
خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر، قال
إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض، السنة
اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم، ثلاث متواليات، ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب
مضر الذي بين جمادى وشعبان.
وقال: أي شهر هذا؟ قلنا: اللَّه ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا
أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس ذا الحجة؟ قلنا: بلى، قال: أي بلد هذا؟ قلنا
اللَّه ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليست البلدة؟ قلنا:
بلى. فأي يوم هذا؟ قلنا: اللَّه ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه،
قال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى. قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام
كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا.
وستلقون ربكم، فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي
ضلالاً يضرب بعضكم رقاب بعض.
ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، قال: اللهم اشهد. فليبلغ الشاهد
الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع.
وفي رواية أنه قال في تلك الخطبة ألا لا يجني جان إلا على
نفسه، ألا لا يجني جان على ولده، ولا مولود على والده، ألا إن الشيطان قد يئس أن
يعبد في بلدكم هذا أبداً، ولكن ستكون له طاعة فيما تحتقرون من أعمالكم، فسيرضى
به.
وأقام أيام التشريق بمنى يؤدي المناسك ويعلم الشرائع، ويذكر
اللَّه، ويقيم سنن الهدى من ملة إبراهيم، ويمحو آثار الشرك ومعالمها، وقد خطب في
بعض أيام التشريق أيضاً، فقد روى أبو داود بإسناد حسن عن سراء بنت نبهان قالت:
خطبنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم الرؤوس، فقال: أليس هذا أوسط أيام
التشريق. وكانت خطبته في هذا اليوم مثل خطبته يوم النحر، ووقعت هذه الخطبة عقب نزول
سورة النصر.
وفي يوم النفر الثاني - الثالث عشر من ذي الحجة - نفر النبي
صلى الله عليه وسلم من منى، فنزل بخيف بني كنانة من الأبطح، وأقام هناك بقية يومه
ذلك، وليلته، وصلى هناك الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم رقد رقدة، ثم ركب إلى
البيت، فطاف به طواف الوداع وكان قد أمر به أصحابه أيضاً.
ولما قضى مناسكه حث الركاب إلى المدينة المطهرة، لا ليأخذ
حظاً من الراحة، بل ليستأنف الكفاح والكدح للَّه وفي سبيل اللَّه.
آخر البعوث:
كانت كبرياء دولة الروم قد جعلتها تأبى عليه حق الحياة،
وحملها على أن تقتل من أتباعها من يدخل فيه، كما فعلت بفروة بن عمرو الجذامي الذي
كان والياً على معان من قبل الروم.
ونظراً إلى هذه الجراءة والغطرسة أخذ رسول اللَّه صلى الله
عليه وسلم يجهز جيشاً كبيراً في صفر سنة ه. وأمر عليه أسامة بن زيد بن حارثة، وأمره
أن يوطىء الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين، يبغي بذلك إرهاب الروم وإعادة
الثقة إلى قلوب العرب الضاربين على الحدود، حتى لا يحس أحد أن بطش الكنيسة لا معقب
له، وأن الدخول في الإسلام يجر على أصحابه الحتوف فحسب.
وتكلم الناس في قائد الجيش لحداثة سنه، واستبطأوا في بعثه،
فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إن تطعنوا في إمارته، فقد كنتم تطعنون في
إمارة أبيه من قبل، وأيم اللَّه إن كان لخليقاً للإمارة، وإن كان من أحب الناس إلي،
وإن هذا من أحب الناس إلى بعده.
وانتدب الناس يلتفون حول أسامة، وينتظمون في جيشه، حتى
خرجوا ونزلوا الجرف، على فرسخ من المدينة، إلا أن الأخبار المقلقة عن مرض رسول
اللَّه صلى الله عليه وسلم أكرهتهم على التريث، حتى يعرفوا ما يقضي اللَّه به، وقد
قضى اللَّه أن يكون هذا أول بعث ينفذ في خلافة أبي بكر الصديق.
0 التعليقات:
إرسال تعليق