مقدمات العقد من النظر والخطبة وما يتعلق بها من أحكام
- تعريف الخطبة:
- النظر إلى المخطوبة.
- وقت النظر إلى المخطوبة.
- من تباح خطبتها.
- الخِطبة على الخِطبة.
- العدول عن الخِطبة وما يترتب عليها.
لما كان الزواج من أخطر العقود لأنه عقد الحياة، فيه من التكاليف
والالتزامات ما ليس في غيره وتترتب عليه آثار عديدة، كثبوت النسب وحرمة المصاهرة
وغير ذلك زادت عناية الشارع به فجعل له مقدمة نظمها وبيَّن أحكامها تسمى بالخطبة
ليكون المتزوج على بينة من الطرف الآخر، ويتحقق لهما بهذا العقد الراحة والسعادة
البيتية.
تعريف الخِطبة: والخِطبة هي أن يتقدم الرجل إلى امرأة معينة تحل له شرعاً أو إلى أهلها ليطلب الزواج بها بعد أن
توجد عنده الرغبة في زواجها، فإذا أجيب إلى طلبه تمت الخطبة
بينهما.
المبحث الأول في النظر إلى المخطوبة:
ولتكون الخطبة محققة غايتها أباح الشارع النظر إلى المخطوبة مع كونها
أجنبية يحرم النظر إليها، بل أمر به ورغب فيه مبيناً الحكمة التي تترتب
عليه.
عن المغيرة بن شعبة أنه خطب امرأة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:
"انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما" متفق عليه.
أي أجدر وأدعى أن يحصل الوفاق والملاءمة بينكما.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ألقى الله عز وجل في قلب امرئ
خطبة امرأة فلا بأس أن ينظر إليها". رواه ابن ماجه وأحمد.
وعن جابر قال: "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا خطب أحدكم
المرأة فقدر أن يرى منها ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل". رواه أبو داود
وأحمد.
فهذه الأحاديث وغيرها تبيح النظر، ولكنها لم تحدد ما ينظر إليه منها ومن هنا جاء اختلاف
الفقهاء في بيانه:
فذهب الجمهور منهم إلى أنه يباح له النظر إلى وجهها وكفيها معللين ذلك، عن جمالها،
وحالتها النفسية التي تنطبع على تقاسيمه، كما ينبئ بأن هذا القدر كاف في التعرف،
لأن الوجه ينبئ الكفان عن حال الجسم من خصوبة أو هزال.
وذهب بعض الحنفية إلى زيادة القدمين.
وذهب الحنابلة إلى زيادة الرقبة.
وكما يباح للخاطب أن ينظر إلى مخطوبته كذلك يباح لها الأخرى النظر إلى
من خطيبها لتوافق على خطبته عن رغبة ورضى.
ولا بأس بأن ينظر إليها قبل الخطبة وبعدها، لأن النظر إليها قبل الخطبة
يدعوه إلى إعلان خطبتها إذا ما صادفت في نفسه قبولاً، والنظر بعدها يؤكد هذه الرغبة
بعد إعلانها.
ويحسن أن يكون مع النظر محادثة كل منهما للآخر ليكشف له مقدار تفكيرها
وعذوبة حديثها بشرط أن يكون مع وجود أحد محارمها كأبيها أو أخيها أو عمها أو خالها
حتى لا يكون ذلك ذريعة إلى مفسدة، ولا بأس من تكرار ذلك بهذا
الشرط.
أما ما وراء ذلك من الخلوة بها والخروج معها ومصاحبتها إلى دور اللهو
والمنتزهات فباق على تحريمه.
المبحث الثاني
إذا كانت الخطبة وسيلة إلى
الزواج فيجب ألا تكون المرأة المراد خطبتها محرماً عليه زواجها، لأن الغاية إذا
كانت حراماً كانت الوسيلة كذلك والاشتغال بها عبث لا فائدة
فيه.
من أجل ذلك قرر الفقهاء أنه لا تجوز خطبة امرأة محرمة عليه تحريماً
مؤبداً بسبب النسب أو الرضاع أو المصاهرة، كأخته من النسب أو الرضاع وزوجة الأب أو
الأبن وأم الزوجة أو بنتها وسائر المحرمات على التأبيد.
وقد وضع الفقهاء قاعدة لمن تجوز خطبتها فقالوا: إن من يجوز الزواج بها
في الحال تجوز خطبتها.
فالمعتدة من طلاق رجعي لا تجوز خطبتها بالاتفاق، لأن زوجيتها لا تزال
قائمة، وحق الزواج في مراجعتها قائم، فله مراجعتها في أي وقت قبل انتهاء عدتها رضيت
أم كرهت، فتكون كالزوجة من كل الوجوه فتحرم خطبتها بأي شكل تصريحاً كانت أو
تعريضاً، لما في ذلك من إيذاء لزوجها أو إثارة للنزاع بينه وبين من خطبها، ولا يجوز
ذلك حتى ولو أذن الزوج في تلك الخطبة لأن حق الشارع في المنع قائم فلا يجوز
إهداره.
أما المعتدة من طلاق بائن بينونة صغرى أو كبرى:
فذهب الحنفية: إلى أنه لا تجوز خطبتها، لا تصريحاً ولا تعريضاً لأن
الطلاق البائن إن قطع رباط الزوجية إلا أن بعض آثاره باقية، وهذا كافٍ في منع
خطبتها لئلا يؤدي ذلك إلى إثارة النزاع بين مطلقها وبين من
خطبها.
ومن ناحية أخرى: إن إباحة خطبتها قد يحملها على ارتكاب محظور إذا رغبت في زواج من
خطبها- فتقر بانقضاء عدتها في مدة زاعمة أنها حاضت فيها ثلاث حيضات، وتصدق في ذلك
الأقرار، لأنه أمر لا يعلم إلا من جهتها وليس لأحد سلطان عليها، بخلاف المتوفى عنها
زوجها فان جواز التعريض في حقها لا يؤدي إلى هذا المحظور حيث تعتد بوضع الحمل إن
كانت حاملا أو بأربعة أشهر وعشرة أيام إن لم تكن حاملاً.
وذهب الجمهور -المالكية والشافعية والحنابلة- إلى أنه لا يجوز خطبتها تصريحاً مراعاة
لجانب الزوج المطلق، لأنها معتدة منه، وقد يثور النزاع بينه وبين من خطبها، وجوزوا
خطبتها بطريق التعريض لانقطاع الزوجية بالطلاق البائن وهو كاف في جواز التعريض الذي
لا يثير النزاع بينه وبين مطلقها.
أما المعتدة عن وفاة زوجها فقد اتفقت كلمة الفقهاء فيها على أنه لا تجوز
خطبتها تصريحاً وتجوز خطبتها بطريق التعريض.
يدل لذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ
وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ
وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ
فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * {وَلا
جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ
أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ
لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفًا وَلا
تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا
أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة: 234 -235].
فهذا النص الكريم يبين عدة المتوفى عنها زوجها، والأحكام المتصلة بها،
ورفع الجناح عن التعريض بخطبتها في العدة، ونهى عن المواعدة بالنكاح "ولكن لا
تواعدوهن سراً" وهو الخطبة الصريحة، ثم نهى عن العقد عليها حتى تنتهي عدتها،
والمراد بالنساء هن المتوفى عنهن أزواجهن بدليل سياق الكلام فيقتصر الاستثناء على
موضعه.
والسر في إباحة التعريض: أن الزوجية قد انقطعت بالوفاة، ولا أمل في
عودتهما فليس هنا زوج يتضرر من هذا التعريض، وقد يكون في ذلك عزاء لهذه المرأة التي
فقدت عائلها، فلا ينقطع أملها في الحياة الكريمة في ظل زوج
كريم.
وأما منع التصريح فمراعاة لجانب المرأة من ناحية أخرى، وهو إحدادها على
زوجها، فلو أبيح التصريح لحمل المرأة على التزين وترك الإحداد. على أن الزوج لا
يعدم أن يكون له أقارب يلحقهم الأذى بهذا التصريح.
أثر تلك الخطبة المحرمة:
عرفنا أن الفقهاء متفقون على تحريم الخطبة في الحالات السابقة لعدم توفر
شرط صحتها. وهو كون المرأة ممن تحل له عندها.
فإذا فرض وأقدم شخص على خطبة واحدة منهن كان مرتكباً أمراً محرماً يعاقب
عليه في الآخرة، ولو عقد عليها في العدة كان العقد باطلا. أما إذا عقد عليها بعد
انتهاء عدتها بناء على الخطبة السابقة كان العقد صحيحاً وتترتب عليه آثاره على
الأصح عند الجمهور.
المبحث الثالث
الخطبة على الخطبة:
قد تكون المرأة متوفراً فيها شرط صحة الخطبة. وهو كونها ممن تحل له في
الحال، غير أنه عرض لها وهو أن غيره سبقه إلى خطبتها، ففي خطبتها اعتداء على الخاطب
الأول.
وهذه الخطبة ورد النهي عنها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن
أخو المؤمن فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه حتى يذر".
رواه مسلم وأحمد.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى
ينكح أو يترك "رواه البخاري.
فهذه الأحاديث تفيد تحريم الخطبة على الخطبة لظاهر النهي والتعبير بلا
يحل، وإذا كان النهي مسلطاً على الخطبة على خطبة الغير منعاً لما يترتب عليها من
إثارة النزاع وهذا يصدق من غير شك على من أجيبت خطبته وقبلت
رغبته.
أما من رفضت خطبته فلا يشملها النهي، ومثلها في ذلك ما إذا أذن الخاطب
الأول للثاني كما صرحت به بعض الأحاديث، لأننا لو منعنا خطبتها لغير الأول لألحقنا
بها الضرر البالغ، وهذا ما لا يقصده الشارع.
ولأن الخطبة في هذه الحالة لا تسمى خطبة على خطبة، لأن المرأة لا تسمى
حينئذ مخطوبة للخاطب الأول.
أما إذا لم يفصل في الخطبة الأولى برأي لا بقبول ولا برفض. وهي حالة
التردد والسكوت فهل تدخل في ذلك ويكون منهياً عنها أو لا؟.
اختلف الفقهاء في ذلك على رأيين:
أولهما: وهو ما ذهب إليه أبو حنيفة ومالك وغيرهما، أن الخطبة في هذه
الحالة ممنوعة، لأن الأحاديث الناهية تتناولها حيث أن الأول يسمى خاطباً والمرأة
مخطوبة له، وهذا السكوت من جانبها وان لم يدل على الرضى بالخاطب فهو لا يدل على
الرفض، لاحتمال وجود أصل الرغبة، والسكوت للتحري عن الخاطب ليتحقق الاطمئنان الكامل
والرغبة التامة، فإباحة الخطبة الثانية في هذه الحالة قد يترتب عليها زوال تلك
الرغبة ورفض خطبة الأول وهو نوع اعتداء عليه والله لا يحب
المعتدين.
وثانيهما: وهو أحد الرأيين عن الشافعية إباحة هذه
الخطبة.
أثر هذه الخطبة في العقد المترتب عليها:
إذا خطب شخص مخطوبة غيره وعقد عليها فهل يكون لهذه الخطبة المنهى عنها
أثر في صحة العقد؟
اختلف الفقهاء في ذلك على قولين:
ذهب الحنفية والشافعية إلى أنها لا تؤثر في العقد قضاءً، على معنى أن القاضي لا يحكم بفسخه
وينفذه، إنما أثرها ديني فقط حيث إنه ارتكب أمراً منهياً عنه فعقابه أخروي، لأن هذه
المخالفة لم تكن في نفس العقد، بل في وسيلته وهي لا تؤثر فيه، لأنها ليست جزءاًمن
العقد ولا مقدمة لازمة فيه، فلو عقد شخص عقد الزواج دون أن يتقدم عليه خطبة كان
عقده جائزاً شرعاً.
وذهب المالكية في الرأي المشهور عنهم إلى التفصيل بين حالتي الدخول وعدمه، فيقولون: إن هذه الخطبة تؤثر
في العقد قبل الدخول لا بعده. بمعنى أن القاضي إذا علم به قبل الدخول فسخه، لأن هذا
العاقد تعدى ما ندبه الشارع إليه، وإذا علم به بعد الدخول فلا فسخ، لأن العقد تأكد
بالدخول فلا يجوز فسخه لما يترتب عليه من إضرار.
المبحث الرابع
العدول عن الخطبة وما يترتب عليه:
أثر العدول عن الخطبة:
إذا عدل أحد الطرفين عن الخطبة أو كلاهما فما الأثر المترتب على ذلك
بالنسبة لما قدمه الخاطب من مهر أو هدايا، ولما لحق أحد الطرفين من أضرار يعرف ذلك
بالتفصيل الآتي:
أما بالنسبة لما قدمه الخاطب من مهر أو هدايا، فلا خلاف بين الفقهاء في
أنه يجب رد ما قدمه من مهر قليلاً كان أو كثيراً، لأن المهر وجب بالعقد، فهو حكم من
أحكامه وأثر من آثاره، وما دام الزواج لم يوجد فلا حق لها في أخذ المهر، بل هو حق
خالص للزوج، فإن كان قائماً أخذه بعينه، وإن هلك أو استهلك أخذ مثله إن مثلياً أو
قيمته إن كان قيمياً.
وأما ما قدمه من هدايا، فالفقهاء متفقون في الجملة على ردها وإن اختلفوا
في التفصيل:
ذهب الشافعية إلى وجوب الرد مطلقاً باقية أو غير باقية، فإن كانت موجودة ردت بعينها،
وإن هلكت أو استهلكت وجب رد مثلها أو قيمتها سواء كان العدول من قبله أو من قبل
المخطوبة أو منهما معاً.
وذهب الحنفية إلى وجوب ردها إن كانت موجودة في يدها من غير زيادة متصلة بها لا يمكن
فصلها، فإن هلكت كعقد فقد أو ساعة تكسرت أو استهلكت كطعام أكل أو ثوب لبس وبلي، أو
زادت زيادة متصلة لا يمكن فصلها كقماش خيط ثوباً، أو خرجت عن ملكها بأن تصرفت فيها
ببيع أو هبة لا يجب ردها في جميع تلك الصور، لأنهم أعطوا الهدية حكم الهبة، والهبة
يمتنع الرجوع فيها بموانع منها الهلاك والاستهلاك والخروج عن الملك والزيادة
المتصلة التي لا يمكن فصلها.
والمالكية في أصل المذهب عندهم لا رجوع بشيء مما أهداه الخاطب ولو كان الرجوع من جهتها، ولكن
الفتوى في المذهب برأي آخر عندهم هو الأوفق كما يقولون يفصلونه على الوجه
الآتي:
إن كان هناك عرف أو شرط بالرد وعدمه يعمل به، وان لم يكن شرط ولا عرف،
فإن كان العدول من الخاطب فلا يجوز له الرجوع في شيء من هداياه، لأنه آلمها بعدوله
عن خطبتها، فلا يجمع عليها مع هذا الإيلام إيلاماً آخر. وإن كان العدول منها وجب
عليها رد ما أخذته بعينه إن كان قائماً أو مثله أو قيمته إن كان هالكاً، لأنه لا
وجه لها في أخذه بعد أن آلمته بفسخ خطبته.
ولأن ما قدمه لها لا يمكن اعتباره هبة مطلقة، بل هو هبة مقيدة فانه لولا
الخطبة الموصلة للزواج ما قدم لها شيئاً، فإذا لم يتحقق الزواج لم يتحقق الغرض الذي
من أجله قدم الهدايا.
والعدل يقضي بأن المتسبب في منع الزواج هو الذي يتحمل نتيجة
عمله.
0 التعليقات:
إرسال تعليق