استفزازات قريش ضد المسلمين والكفاح الدامي بعد الهجرة
الكفاح
الدامي
استفزازات
قريش ضد المسلمين
إعلان
عزيمة الصد عن المسجد الحرام
قريش
تهدد المهاجرين
الإذن
بالقتال
الغزوات
والسرايا قبل بدر
الكفاح الدامي
قد أسلفنا ما كان يأتي به كفار مكة من التنكيلات والويلات
ضد المسلمين، وما فعلوا بهم عند الهجرة مما استحقوا لأجلها المصادرة والقتال، إلا
أنهم لم يكونوا ليفيقوا من غيهم، ويمتنعوا عن عدوانهم، بل زادهم غيظاً أن فاتهم
المسلمون ووجدوا مأمناً ومقراً بالمدينة، فكتبوا إلى عبد اللَّه بن أبي بن سلول،
وكان إذ ذاك مشركاً بصفته رئيس الأنصار قبل الهجرة - فمعلوم أنهم كانوا مجتمعين
عليه، وكادوا يجعلونه ملكاً على أنفسهم لولا أن هاجر رسول اللَّه صلى الله عليه
وسلم وآمنوا به - كتبوا إليه وإلى أصحابه المشركين يقولون لهم في كلمات باتة
إنكم آويتم صاحبنا، وإنا نقسم باللَّه لتقاتلنه أو لتخرجنه،
أو لنسيرن إليكم بأجمعنا حتى نقتل مقاتلتكم ونستبيح نساءكم.
وبمجرد بلوغ هذا الكتاب قام عبد اللَّه بن أبي ليمتثل أوامر
إخوانه المشركين من أهل مكة - وقد كان يحقد على النبي صلى الله عليه وسلم ، لما
يراه أنه استلبه ملكه يقول عبد الرحمن بن كعب فلما بلغ ذلك عبد اللَّه بن أبي ومن
كان معه من عبدة الأوثان اجتمعوا لقتال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فلما بلغ
ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لقيهم، فقال: لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ، ما
كانت تكيدكم بأكثر ممّا تريدون أن تكيدوا به أنفسكم، تريدون أن تقاتلوا أبناءكم
وإخوانكم، فلما سمعوا ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم تفرقوا.
امتنع عبد اللَّه بن أبي بن سلول عن إرادة القتال عند ذاك،
لما رأى خوراً أو رشداً في أصحابه، ولكن يبدو أنه كان متواطئاً مع قريش، فكان لا
يجد فرصة إلا وينتهزها لإيقاع الشر بين المسلمين والمشركين، وكان يضم معه اليهود،
ليعينوه على ذلك، ولكن تلك هي حكمة النبي صلى الله عليه وسلم التي كانت تطفى نار
شرهم حيناً بعد حين.
ثم إن سعد بن معاذ انطلق إلى مكة معتمراً فنزل على أمية بن
خلف بمكة، فقال لأمية انظر لي ساعة خلوة لعلي أن أطوف بالبيت، فخرج به قريباً من
لقف النهار، فلقيهما أبو جهل فقال: يا أبا صفوان، من هذا معك؟ فقال: هذا سعد، فقال
له أبو جهل ألا أراك تطوف بمكة آمناً وقد آويتم الصباة، وزعمتم أنك تنصرونهم،
وتعينونهم، أما واللَّه لولا أنك مع أبي صفوان ما رجعت إلى أهلك سالماً، فقال له
سعد ورفع صوته عليه أما واللَّه لئن منعتني هذا لأمنعك ما هو أشد عليك منه، طريقك
على أهل المدينة.
قريش تهدد المهاجرين:
ثم إن قريشاً أرسلت إلى المسلمين تقول لهم لا يغرنكم أنكم
أفلتمونا إلى يثرب، سنأتيكم فنستأصلكم ونبيد خضراءكم في عقر داركم.
ولم يكن هذا كله وعيداً مجرداً فقد تأكد عند رسول اللَّه
صلى الله عليه وسلم من مكائد قريش وإرادتها على الشر ما كان لأجله لا يبيت إلا
ساهراً، أو في حرس من الصحابة فقد روى مسلم في صحيحه عن عائشة رضي اللَّه تعالى
عنها قالت: سهر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مقدمة المدينة ليلة فقال: ليت رجلاً
صالحاًمن أصحابي يحرسني الليلة، قالت: فبينما نحن كذلك سمعنا خشخشة سلاح، فقال: من
هذا؟ قال: سعد بن أبي وقاص، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما جاء بك؟
فقال: وقع في نفسي خوف على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فجئت أحرسه، فدعا له
رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، ثم نام.
ولم تكن هذه الحراسة مختصة ببعض الليالي بل كان ذلك أمراً
مستمراً، فقد روي عن عائشة قالت: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يحرس ليلاً
حتى نزل {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ} [المائدة: 67] فأخرج رسول
اللَّه صلى الله عليه وسلم من القبة، فقال: يا أيها الناس انصرفوا عني فقد عصمني
اللَّه عز وجل.
ولم يكن الخطر مقتصراً على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
بل على المسلمين كافة، فقد روى أبي بن كعب، قال: لما قدم رسول اللَّه صلى الله عليه
وسلم وأصحابه المدينة وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة، وكانوا لا يبيتون
إلا بالسلاح ولا يصبحون إلا فيه.
الإذن بالقتال:
في هذه الظروف الخطيرة التي كانت تهدد كيان المسلمين
بالمدينة، والتي كانت تنبىء عن قريش أنهم لا يفيقون عن غيهم ولا يمتنعون عن تمردهم
بحال، أنزل اللَّه تعالى الإذن بالقتال للمسلمين، ولم يفرضه عليهم قال تعال:
{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى
نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39].
وأنزل هذه الآية ضمن آيات أرشدتهم إلى أن هذا الإذن إنما هو
لإزاحة الباطل، وإقامة شعائر اللَّه، قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ
فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ
وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج: 41].
والصحيح الذي لا مندوحة عنه أن هذا الإذن إنما نزل بالمدينة
بعد الهجرة، لا بمكة، ولكن لا يمكن لنا القطع بتحديد ميعاد النزول.
نزل الإذن بالقتال ولكن كان من الحكمة إزاء هذه الظروف -
التي مبعثها الوحيد هو قوة قريش وتمردها - أن يبسط المسلمون سيطرتهم على طريق قريش
التجارية المؤدية من مكة إلى الشام، واختار رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لبسط
هذه السيطرة خطتين
الأولى: عقد معاهدات الحلف أو عدم الاعتداء مع القبائل التي
كانت مجاورة لهذا الطريق، أو كانت تقطن ما بين هذا الطريق وما بين المدينة، وقد
أسلفنا معاهدته صلى الله عليه وسلم مع اليهود وكذلك كان عقد معاهدة الحلف أو عدم
الاعتداء مع جهينة قبل الأخذ في النشاط العسكري، وكانت مساكنهم على ثلاثة مراحل من
المدينة، وقد عقد معاهدات أثناء دورياته العسكرية وسيأتي ذكرها.
الثانية: إرسال البعوث واحدة تلو الأخرى إلى هذا
الطريق.
الغزوات والسرايا قبل
بدر:
ولتنفيذ هاتين الخطتين بدأ في المسلمين النشاط العسكري
فعلاً بعد نزول الإذن بالقتال، وقاموا بحركات عسكرية هي أشبه بالدوريات
الاستطلاعية، وكان المطلوب منها هو الذي أشرنا إليه من الاستكشاف والتعرف على الطرق
المحيطة بالمدينة، والمسالك المؤدية إلى مكة، وعقد المعاهدات مع القبائل التي
مساكنها على هذه الطرق، وإشعار مشركي يثرب ويهودها وأعراب البادية الضاربين حولها
بأن المسلمين أقوياء، وأنهم تخلصوا من ضعفهم القديم، وإنذار قريش عقبى طيشها حتى
تفيق عن غيها الذي لا تزال تتوغل في أعماقه، وعلها تشعر بتفاقم الخطر على اقتصادها
وأسباب معايشها فتجنح إلى السلم، وتمتنع عن إرادة قتال المسلمين في عقر دارهم، وعن
الصد عن سبيل اللَّه، وعن تعذيب المستضعفين من المؤمنين في مكة، حتى يصير المسلمون
أحراراً في إبلاغ رسالة اللَّه في ربوع الجزيرة.
وفيما يلي أحوال هذه السرايا بإيجاز:
- سرية سيف البحر، في شهر رمضان سنة 1هـ. الموافق مارس سنة 623م. أمّر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على هذه السرية حمزة بن عبد المطلب، وبعثه في ثلاثين رجلاً من المهاجرين يعترض عيراً لقريش جاءت من الشام، وفيها أبو جهل بن هشام في ثلاثمائة رجل، فبلغوا سيف البحر من ناحية العيص. فالتقوا واصطفوا للقتال، فمشى مجدي بن عمرو الجهني - وكان حليفاً للفريقين جميعاً - بين هؤلاء وهؤلاء حتى حجز بينهم فلم يقتتلوا.
وكان
لواء حمزة أول لواء عقده رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وكان أبيض وكان حامله
أبو مرثد كناز بن حصين الغنوي.
- سرية رابغ، في شوال سنة 1 من الهجرة - إبريل سنة 623م بعث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عبيدة بن الحارث بن المطلب في ستين راكباً من المهاجرين فلقي أبا سفيان - وهو في مائتين - على بطن رابغ، وقد ترامى الفريقان بالنبل، ولم يقع قتال.
وفي هذه
السرية انضم رجلان من جيش مكة إلى المسلمين، وهما المقداد بن عمرو البهراني، وعتبة
بن غزوان المازني، وكانا مسلمين، خرجا مع الكفار ليكون ذلك وسيلة للوصول إلى
المسلمين. وكان لواء عبيدة أبيض، وحامله مسطح بن أثاثة بنالمطلب بن عبد
مناف.
- سرية الخرار، في ذي القعدة سنة 1هـ الموافق مايو سنة 623م بعث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص في عشرين راكباً يعترضون عيراً لقريش، وعهد إليه أن لا يجاوز الخرار، فخرجوا مشاة يكمنون بالنهار ويسيرون بالليل حتى بلغوا الخرار صبيحة خميس، فوجدوا العير قد مرت بالأمس.
كان
لواء سعد رضي اللَّه عنه أبيض، وحمله المقداد بن عمرو.
- غزوة الأبواء أو ودان - في صفر سنة 2هـ الموافق أغسطس سنة 623م، خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بنفسه بعد أن استخلف على المدينة سعد بن عبادة في سبعين رجلاً من المهاجرين خاصة يعترض عيراً لقريش حتى بلغ ودان،فلم يلق كيداً.
وفي هذه
الغزوة عقد معاهدة حلف مع عمرو بن مخشي الضمري، وكان سيد بني ضمرة في زمانه، وهاك
نص المعاهدة:
هذا
كتاب من محمد رسول اللَّه لبني ضمرة. فإنهم آمنون على أموالهم وأنفسهم، وإن لهم
النصر على من رامهم إلا أن يحاربوا دين اللَّه، مابل بحر صوفة. وأن النبي إذا دعاهم
لنصره أجابوه.
وهذه
أول غزوة غزاها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وكانت غيبته خمس عشرة ليلة، وكان
اللواء أبيض وحامله حمزة بن عبد المطلب.
- غزوة بواط، في شهر ربيع الأول سنة 2هـ سبتمبر سنة 623م، خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في مائتين من أصحابه يعترض عيراً لقريش فيها أمية بن خلف الجمحي ومائة رجل من قريش، وألفان وخمسمائة بعير، فبلغ بواطاً من ناحية رضوى ولم يلق كيداً.
واستخلف
في هذه الغزوة على المدينة سعد بن معاذ، واللواء كان أبيض، وحامله سعد بن أبي وقاص
رضي اللَّه عنه.
- غزوة سفوان، في شهر بيع الأول سنة 2هـ سبتمبر سنة 623م أغار كرز بن جابر الفهري في قوات خفيفة من المشركين على مراعي المدينة، ونهب بعض المواشي، فخرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في سبعين رجلاً من أصحابه لمطاردته، حتى بلغ وادياً يقال له سفوان من ناحية بدر، لكنه لم يدرك كرزاً وأصحابه، فرجع من دون حرب، وهذه الغزوة تسمى بغزوة بدر الأولى.
واستخلف
في هذه الغزوة على المدينة زيد بن حارثة، وكان اللواء أبيض، وحامله علي بن أبي
طالب.
- غزوة ذي العشيرة - في جمادى الأولى، وجمادى الآخرة سنة 2هـ الموافق نوفمبر وديسمبر سنة 623م. خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في خمسين ومائة ويقال: في مائتين، من المهاجرين، ولم يكره أحداً على الخروج، وخرجوا على ثلاثين بعيراً يتعقبونها، يعترضون عيراً لقريش، ذاهبة إلى الشام، وقد جاء الخبر بفصولها من مكة فيها أموال لقريش، فبلغ ذا العشيرة، فوجد العير قد فاتته بأيام، وهذه هي العير التي خرج في طلبها حين رجعت من الشام فصارت سبباً لغزوة بدر الكبرى.
وكان
خروجه صلى الله عليه وسلم في أواخر جمادى الأولى، ورجوعه في أوائل جمادى الآخرة على
ما قاله ابن إسحاق، ولعل هذا هو سبب اختلاف أهل السير في تعيين شهر هذه
الغزوة.
وفي هذه
الغزوة عقد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم معاهدة عدم اعتداء مع بني مدلج وحلفائهم
من بني ضمرة.
واستخلف
على المدينة في هذه الغزوة أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي، وكان اللواء في هذه
الغزوة أبيض، وحالمه حمزة بن عبد المطلب رضي اللَّه عنه.
- سرية نخلة - في رجب سنة 2هـ الموافق يناير سنة 624م بعث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عبد اللَّه بن جحش الأسدي إلى نخلة في اثني عشر رجلاً من المهاجرين كل اثنين يعتقبان على بعير.
وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كتب له كتاباً وأمره
أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين، ثم ينظر فيه. فسار عبد اللَّه، ثم قرأ الكتاب بعد
يومين فإذا فيه: "إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف فترصد
بها عير قريش، وتعلم لنا من أخبارهم" فقال: سمعاً وطاعة، وأخبر أصحابه بذلك وأنه لا
يستكرههم، فمن أحب الشهادة فلينهض، ومن كره الموت فليرجع، وأما أنا فناهض، فنهضوا
كلهم، غير أنه لما كان في أثناء الطريق أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيراً
لهما كانا يعتقبانه فتخلفا في طلبه.
وسار عبد اللَّه بن جحش حتى نزل بنخلة، فمرت عير لقريش تحمل
زبيباً وأدما وتجارة، وفيها عمرو بن الحضرمي وعثمان ونوفل. ابنا عبد اللَّه بن
المغيرة والحكم بن كيسان مولى بني المغيرة. فتشاور المسلمون وقالوا: نحن في آخر يوم
من رجب، الشهر الحرام، فإن قاتلناهم انتهكنا الشهر الحرام، وإن تركناهم الليلة
دخلوا الحرم، ثم اجتمعوا على اللقاء فرمى أحدهم عمرو بن الحضرمي فقتله، وأسروا
عثمان والحكم، وأفلت نوفل، ثم قدموا بالعير والأسيرين إلى المدينة، وقد عزلوا من
ذلك الخمس، وهو أول خمس كان في الإسلام وأول قتيل في الإسلام، وأول أسيرين في
الإسلام.
وأنكر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما فعلوه، وقال: ما
أمرتكم بقتال في الشهر الحرام، ووقف التصرف في العير والأسيرين.
ووجد المشركون فيما حدث فرصة لاتهام المسلمين بأنهم قد
أحلوا ما حرم اللَّه، وكثر في ذلك القيل والقال، حتى نزل الوحي حاسماً هذه
الأقاويل، وأن ما عليه المشركون أكبر وأعظم مما ارتكبه المسلمون...
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ
قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ
وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ
وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 217].
فقد صرح الوحي بأن الضجة التي افتعلها المشركون لإثارة
الريبة في سيرة المقاتلين المسلمين لا مساغ لها. فإن الحرمات المقدسة قد انتهكت
كلها في محاربة الإسلام، واضطهاد أهله، ألم يكن المسلمون مقيمين بالبلد الحرام حين
تقرر سلب أموالهم وقتل نبيهم؟ فما الذي أعاد لهذه الحرمات قداستها فجأة، فأصبح
انتهاكها معرة وشناعة؟ لا جرم أن الدعاية التي أخذ ينشرها المشركون دعاية تبتنى على
وقاحة.
وبعد ذلك أطلق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سراح
الأسيرين، وأدى دية المقتول إلى أوليائه.
تلكم السرايا والغزوات قبل بدر، لم يجر في واحدة منها سلب
الأموال وقتل الرجال إلا بعد ما ارتكبه المشركون في قيادة كرز بن جابر الفهري،
فالبداية إنما هي من المشركين مع ما كانوا قد أتوه قبل ذلك من الأفاعيل.
وبعد وقوع ما وقع في سرية عبد اللَّه بن جحش تحقق خوف
المشركين، وتجسد أمامهم الخطر الحقيقي، ووقعوا فيما كانوا يخشون الوقوع فيه، وعلموا
أن المدينة في غاية من التيقظ والتربص، تترقب كل حركة من حركاتهم التجارية، وأن
المسلمين يستطيعون أن يزحفوا إلى ثلاثمائة ميل تقريباً، ثم يقتلوا ويأسروا رجالهم،
ويأخذوا أموالهم، ويرجعوا سالمين غانمين، وشعر هؤلاء المشركون بأن تجارتهم إلى
الشام أمام خطر دائم، لكنهم بدل أن يفيقوا عن غيهم ويأخذوا طريق الصلاح والموادعة -
كما فعلت جهينة وبنو ضمرة - ازدادوا حقداً وغيظاً، وصمم صناديدهم وكبراؤهم على ما
كانوا يوعدون ويهددون به من قبل من إبادة المسلمين في عقر دارهم، وهذا هو الطيش
الذي جاء بهم إلى بدر.
أما المسلمون فقد فرض اللَّه عليهم القتال بعد وقعة سرية
عبد اللَّه بن جحش في شهر شعبان سنة 2هـ وأنزل في ذلك آيات بينات {وَقَاتِلُوا
فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا
يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ
مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا
تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ
قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انتَهَوْا
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ
وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنْ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى
الظَّالِمِينَ} [البقرة: 190-193].
ثم لم يلبث أن أنزل اللَّه تعالى عليهم آيات من نوع آخر،
يعلم فيها طريقة القتال، ويحثهم عليه، ويبين لهم بعض أحكامه {فَإِذا لَقِيتُمُ
الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا
الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ
أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ
لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ
يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ
الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا
اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 4-7].
ثم ذم اللَّه الذين طفقت أفئدتهم ترجف وتخفق حين سمعوا
الأمر بالقتال: {فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا
الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ
الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ} [محمد: 20].
وإيجاب القتال والحض عليه، والأمر بالاستعداد له هو عين ما
كانت تقتضيه الأحوال، ولو كان هناك قائد يسبر أغوار الظروف لأمر جنده بالاستعداد
لجميع الطوارىء، فكيف بالرب العليم المتعال، فالظروف كانت تقتضي عراكاً دامياً بين
الحق والباطل، وكانت وقعة سرية عبد اللَّه بن جحش ضربة قاسية على غيرة المشركين
وحميتهم آلمتهم وتركتهم يتقلبون على مثل الجمر.
وآيات الأمر بالقتال تدل بفحواها على قرب العراك الدامي،
وأن النصر والغلبة فيه للمسلمين نهائياً، انظر كيف يأمر اللَّه المسلمين بإخراج
المشركين من حيث أخرجوهم، وكيف يعلمهم أحكام الجند المتغلب في الأسارى، والإثخان في
الأرض حتى تضع الحرب أوزارها، هذه كلها إشارة إلى غلبة المسلمين نهائياً. ولكن ترك
كل ذلك مستوراً حتى يأتي كل رجل بما فيه من التحمس في سبيل اللَّه.
وفي هذه الأيام - وفي شعبان سنة 2هـ/ فبراير 624م - أمر
اللَّه تعالى بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام، وأفاد ذلك أن الضعفاء
والمنافقين من اليهود الذين كانوا قد دخلوا في صفوف المسلمين، لإثارة البلبلة
انكشفوا عن المسلمين ورجعوا إلى ما كانوا عليه، وهكذا تطهرت صفوف المسلمين عن كثير
من أهل الغدر والخيانة.
وفي تحويل القبلة إشارة لطيفة إلى بداية دور جديد لا ينتهي
إلا بعد احتلال المسلمين هذه القبلة، أو ليس من العجب أن تكون قبلة قوم بيد
أعدائهم، وإن كانت بأيديهم فلا بد من تخليصها يوماً ما.
وبعد هذه الأوامر والإشارات زاد نشاط المسلمين واشتدت
نزعاتهم إلى الجهاد في سبيل اللَّه ولقاء العدو في معركة فاصلة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق