الفصل الثالث عشر في معرفة أمراض القلوب وصحتها
وكيفية الخلاص من المرض والتحقق بالصحة
تزكية النفس تتألف من شقين: تخلية وتحلية، أو نقول: هي: تخلُّقٌ
وتحقُّقٌ وتطهيرٌ، وعلى هذا فمعرفة زكاة النفس وسيلة من وسائل تزكيتها لأنه بلا
معرفة لا تتم التزكية، فالعلم يسبق العمل عادة، فكثيراً ما تكون الوسائل غايات،
والغايات وسائل، من خلال نوعٍ من النظر، ومن ههنا اخترنا من كلام الغزالي في علامات
أمراض القلوب وصحتها ما سنذكره لك بعد أن عرّفناك على حكمة ذكره
هنا.
قال رحمه الله:
بيان علامات أمراض القلوب وعلامات عودها إلى
الصحة
اعلم أنّ كل عضو من أعضاء
البدن خُلق لفعلٍ خاص به، وإنما مرضه أن يتعذر عليه فعله الذي خُلقَ له حتى لا يصدر
منه أصلا أو يصدر منه مع نوعٍ من الاضطراب. فمرض اليد أن يتعذر عليها البطشُ. ومرض
العين أن يتعذر عليها الإبصار. وكذلك مرض القلب أن يتعذر عليه فعله الخاص به الذي
خُلق لأجله، وهو العلم والحكمة والمعرفة وحب الله تعالى وعبادته والتلذذ بذكره
وإيثاره ذلك على كل شهوة سواه، والاستعانة بجميع الشهوات والأعضاء عليه. قال الله
تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِي} [الذاريات:
56] ففي كل عضو فائدة، وفائدة القلب: الحكمة والمعرفة. وهي خاصية النفس التي
للآدمي، وبها يتميز عن البهائم، فإنه لم يتميز عنها بالقوة على الأكل والوِقاع
والإِبصار أو غيرها، بل بمعرفة الأشياء على ما هي عليه. وأصلُ الأشياء ومُوجِدُها
ومخترعها هو الله عز وجل الذي جعلها أشياء. فلو عرف كل شيء ولم يعرف الله عز وجل
فكأنه لم يعرف شيئاً. وعلامة المعرفة: المحبة، فمن عرف الله تعالى أحبه، وعلامة
المحبة أن لا يؤثر عليه الدنيا ولا غيرها من المحبوبات كما قال الله تعالى:
{قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ
وَأَزْوَاجُكُمْ} إلى قوله تعالى: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ
بِأَمْرِهِ} [ التوبة: 24] فمن عنده شيءٌ أحب إليه من الله فقلبه مريض، كما أنّ
معدة صار الطينُ أحب إليها من الخبز والماء أو سقطت شهوتها عن الخبز والماء فهي
مريضة. فهذه علامات المرض وبهذا يعرف أنّ القلوب كلها مريضة إلا ما شاء
الله.
بيان الطريق الذي يعرف به الإنسان عيوب نفسه
اعلم أنّ الله عز وجل إذا أراد بعبد خيراً بصَّره بعيوبِ نفسه، فمن كانت
بصيرته نافذة لم تخف عليه عيوبه، فإذا عرف العيوب أمكنه العلاج، ولكن أكثر الخلق
جاهلون بعيوب أنفسهم يرى أحدهم القذى في عينِ أخيه ولا يرى الجذع في عين نفسه. فمن
أراد أن يعرف عيوب نفسه فله أربعة طرق:
الأول: أن يجلس بين يدي شيخ بصير بعيوب النفس مطلعٍ على خفايا الآفات
فيعرفه أستاذه وشيخه عيوبَ نفسه ويعرفه طريق علاجه. وهذا قد عز في الزمان
وجوده.
الثاني: أن يطلب صديقاً صدوقاً بصيراً متديناً فينصبه رقيباً على نفسه
ليلاحظ أحواله وأفعاله، فما كره من أخلاقه وأفعاله وعيوبه الباطنة والظاهرة ينبهه
عليه. فهكذا كان يفعل الأكياس والأكابر من أئمة الدين.
كان عمر رضي الله عنه يقول: رحم الله امرءاً أهدى إليَّ عيوبي. وكان
يسأل سلمان عن عيوبه فلما قدم عليه قال له: ما الذي بلغك عني مما تكرهه؟ فاستعفى،
فألحَّ عليه فقال: بلغني أنك جمعت بين إدامين على مائدة، وأن لك حلتين حلة بالنهار
وحلة بالليل، قال: وهل بلغكَ غيرُ هذا؟ قال: لا، قال: أما هذان فقد كُفِيتهما. وكان
يسأل حذيفة ويقول له: أنت صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنافقين، فهل
ترى عليَّ شيئاً من آثار النفاق؟ فهو على جلالة قدره وعلوِّ منصبه هكذا كانتْ تهمته
لنفسه رضي الله عنه!
فكل من كان أوفر عقلاً وأعلى منصباً كان أقلَّ إعجاباً وأعظمَ اتهاماً
لنفسه، إلا أن هذا أيضاً قد عزَّ فقلَّ في الأصدقاء من يترك المداهنة فَيُخْبِرُ
بالعيب.
الطريق الثالث: أن يستفيد معرفة عيوب نفسه من ألسنة أعدائه فإن عين
السخط تبدي المساوي. ولعل انتفاع الإِنسان بعدوٍ مشاحن يذكِّرهُ عيوبه أكثر من
انتفاعه بصديقٍ مداهنٍ يثني عليه ويمدحه ويخفي عنه عيوبه، إلا أن الطبع مجبول على
تكذيب العدوّ وحملِ ما يقولهُ على الحسد، ولكن البصير لا يخلو عن الانتفاع بقول
أعدائه فإن مساويه لا بدّ وأن تنتشر على ألسنتهم.
الطريق الرابع: أن يخالط الناس فكل ما رآه مذموماً فيما بين الخلق
فليطالب نفسه به وينسبها إليه، فإن المؤمن مرآة المؤمن، فيرى من عيوبِ غيره عيوبَ
نفسه ويعلم أن الطباع متقاربة في اتباع الهوى. فما يتصف به واحد من الأقران لا ينفك
القرين الآخر عن أصله أو عن أعظم منه أو عن شيء منه، فليتفقد نفسه ويطهرها من كل ما
يذمه من غيره وناهيك بهذا تأديباً، فلو ترك الناس كلهم ما يكرهونه من غيرهم
لاستغنوا عن المؤدب.
0 التعليقات:
إرسال تعليق