التسميات

الموسيقى الصامتة

Our sponsors

25‏/12‏/2014

كتاب البيع




   فهرس البيع
تعريف البيع
مشروعية البيع
ركن البيع أو كيفية انعقاده
بيع المعاطاة
صفة الإيجاب والقبول - الكلام في خيار المجلس
شروط البيع
شروط الإيجاب والقبول
مبدأ وحدة الصفقة وتفريقها
شروط صحة البيع
حقوق البيع التابعة للحكم
الثمن والمبيع
معنى التسليم أو القبض وكيفية تحققه
بيع الدين
حكم التأمين مع شركات التأمين في الإسلام
بيع النجس والمتنجس
بيع العربون
بيع الماء
المطلب الثاني- أنواع البيع الفاسد
بيع المجهول
البيع المعلق على شرط والبيع المضاف
بيع العين الغائبة أو غير المرئية
بيع الأعمى وشراؤه
البيع بالثمن المحرّم
البيع نسيئة ثم الشراء نقداً- بيوع الآجال
بيع العنب لعاصر الخمر
البيعتان في بيعة أو الشرطان في بيع واحد
بيع الأتباع والأوصاف مقصوداً
بيع الشيء المملوك قبل قبضه من مالك آخر
اشتراط الأجل في المبيع المعين والثمن المعين
البيع بشرط فاسد
بيع الثمار أو الزروع
حكم البيع الفاسد :
1-خيار الوصف، أو خيار فوات الوصف المرغوب فيه
2- خيار النقد
3- خيار التعيين
4- خيار الغبن
5- خيار كشف الحال
6- خيار الخيانة
7- خيار تفرق الصفقة
8- خيار إجازة عقد الفضولي
9- خيار تعلق حق الغير بالمبيع
10- خيار الكمية للبائع
11- خيار الاستحقاق
12- خيار الشرط
13- خيار العيب
14- خيار الرؤية


   تعريف البيع :
      البيع لغة : مقابلة شيء بشيء، وهو من أسماء الأضداد أي التي تطلق على الشيء وعلى ضده، مثل الشراء كما في قوله تعالى : {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} [يوسف: 20] أي باعوه، ويقال لكل من المتعاقدين : بعائع وبيّع، ومشتر وشار.
      واصطلاحاً : مبادلة مال بمال على وجه مخصوص أو هو مبادلة شيء مرغوب فيه بمثله على وجه مفيد مخصوص أي بإيجاب أو تعاطٍ.
      والمراد بالمال عند الحنفية : ما يميل إليه الطبع ويمكن ادخاره لوقت الحاجة. والمالية تثبت بتمول الناس كافة أو بعضهم. أو هو كل عين ذات قيمة مادية بين الناس. وعليه لا تعتبر المنافع والحقوق المحضة مالاً عند الحنفية. أما جمهور الفقهاء فقد اعتبروها مالاً متقوماً، لأن المقصود من الأعيان منافعها.
      والمقصود من البيع هنا : هو العقد المركب من الإيجاب والقبول.

      مشروعية البيع :
      البيع جائز بأدلة من القرآن والسنة والإجماع.
      أما القرآن : فقوله تعالى : {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] وقوله سبحانه : {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] وقوله عز وجل : {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء : 29].
      وأما السنة فأحاديث، منها : سئل النبي صلى الله عليه وسلم : أي الكسب أطيب ؟ فقال : "عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور" رواه البزار وصححه الحاكم. أي لا غشي فيه ولا خيانة، ومنها حديث : "إنما البيع عن تراض" وقد بعث الرسول صلى الله عليه وسلم والناس يتبايعون فأقرهم عليه، وقال : "التاجر الصدوق الأمين مع النبيين، والصديقين، والشهداء" قال الترمذي : "هذا حديث حسن".
      وأجمع المسلمون على جواز البيع، والحكمة تقتضيه، لأن حاجة الإنسان تتعلق بما في يد صاحبه، وصاحبه لا يبذله بغير عوض، ففي تشريع البيع طريق إلى تحقيق كل واحد غرضه ودفع حاجته، والإنسان مدني بالطبع، لا يستطيع العيش بدون التعاون مع الآخرين.

      ركن البيع أو كيفية انعقاده :
      ركن البيع عند الحنفية : هو الإيجاب والقبول الدالان على التبادل أو ما يقوم مقامهما من التعاطي. فركنه بعبارة أخرى : الفعل الدال على الرضا بتبادل الملكين من قول أو فعل، وهذا قولهم في العقود.
      وللبيع عند الجمهور أركان أربعة : هي البائع والمشتري والصيغة والمعقود عليه وهذا رأيهم في كل العقود.
      والإيجاب عند الحنفية : إثبات الفعل الخاص الدال على الرضا الواقع أولاً من كلام أحد المتعاقدين، سواء وقع من البائع كبعت، أو من المشتري كأن يبتدئ المشتري فيقول : اشتريت بكذا.
      والقبول : ما ذكر ثانياً من كلام أحد المتعاقدين. فالمعتبر إذاً أولية الصدور وثانويته فقط سواء أكان من جهة البائع أم من جهة المشتري.
      وعند الجمهور : الإيجاب : هو ما صدر ممن يكون منه التمليك وإن جاء متأخراً. والقبول: هو ما صدر ممن يصير له الملك وإن صدر أولاً.
      فقالوا : ينعقد البيع بصيغة الماضي مثل : بعت، واشتريت. وبصيغة الحال مع النية مثل : أبيع وأشتري.

      بيع المعاطاة :
      بيع المعاطاة أو بيع المراوضة : هو أن يتفق المتعاقدان على ثمن ومثمن، ويعطيا من غير إيجاب ولا قبول، وقد يوجد لفظ من أحدهما.
      مثل : أن يأخذ المشتري المبيع، ويدفع للبائع الثمن، أو يدفع البائع المبيع، فيدفع له الآخر ثمنه من غير تكلم ولا إشارة، سواء أكان المبيع حقيراً أم نفسياً. وقد اختلف الفقهاء في حكمه.
      فقال الحنفية والمالكية والحنابلة : يصح بيع المعاطاة متى كان هذا معتاداً دالاً على الرضا ومعبراً تماماً عن إرادة كل من المتعاقدين، والبيع يصح بكل ما يدل على الرضا، ولأن الناس يتبايعون في أسواقهم بالمعاطاة في كل عصر، ولم ينقل إنكاره عن أحد، فكان ذلك إجماعاً، فالقرينة كافية هنا في الدلالة على الرضا.
      وقال الشافعية : يشترط أن يقع العقد بالألفاظ الصريحة أو الكنائية، بالإيجاب والقبول، فلا يصح بيع المعاطاة، سواء أكان المبيع نفيساً أم حقيراً، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال : "إنما البيع عن تراض" والرضا أمر خفي، فاعتبر ما يدل عليه من اللفظ، لا سيما عند إثبات العقد حالة التنازع، فلا تقبل شهادة الشهود لدى الحاكم إلا بما سمعوه من اللفظ.

      صفة الإيجاب والقبول - الكلام في خيار المجلس :
      لا يكون كل من الإيجاب والقبول لازماً قبل وجود الآخر فإذا وجد أحدهما لا يلزم قبل وجود الشطر الآخر، ويكون لكل من المتعاقدين حينئذ خيار القبول والرجوع، فإذا تم الإيجاب والقبول، فهل يكون لأحد العاقدين في مجلس العقد خيار الرجوع ؟
      اختلف العلماء فيه.
      فقال الحنفية والمالكية : يلزم العقد بالإيجاب والقبول، لأن البيع عقد معاوضة، يلزم بمجرد تمام لفظ البيع والشراء، ولا يحتاج إلى خيار مجلس، ولقول عمر رضي الله عنه : "البيع صفقة أو خيار".
      وقالوا عن حديث "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" : المراد بالمتبايعين : هما المتساومان والمتشاغلان بأمر البيع، والمراد بالتفرق التفرق بالأقوال : وهو أن يقول الآخر بعد الإيجاب : لا أشتري، أو يرجع الموجب قبل القبول، فالخيار قبل القبول ثابت. ورد بعضهم هذا الحديث لمعارضته لآية {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] وآية {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1} وقال بعضهم : إنه منسوخ.
      بهذا يظهر أن خيار المجلس مقصور عند هؤلاء على ما قبل تمام العقد، فإذا أوجب أحد المتعاقدين، فالآخر بالخيار : إن شاء قبل في المجلس، وإن شاء رد، وهذا هو خيار القبول وخيار الرجوع.
      وقال الشافعية والحنابلة : إذا انعقد البيع بتلاقي الإيجاب والقبول، يقع العقد جائزاً أي غير لازم، ما دام المتعاقدان في المجلس، ويكون لكل من المتبايعين الخيار في فسخ البيع أو إمضائه ما داما مجتمعين لم يتفرقا أو يتخايرا، ويعتبر في التفرق : العرف : وهو أن يتفرقا عن مقامهما الذي تبايعا فيه.
      والمراد به التفرق بالأبدان، وهو التفرق حقيقة. وهو الذي يكون لذكره في الحديث فائدة، لأنه معلوم لكل واحد أن المتعاقدين بالخيار إذا لم يقع بينهما عقد بالقول.
      وهذا هو خيار المجلس الثابت في أنواع البيع، لما روى الشيخان أنه صلى الله عليه وسلم قال: "البيعان بالخيار، ما لم يتفرقا، أو يقول أحدهما للآخر : اختر" أي اختر اللزوم.

      شروط البيع :
      شرائط الانعقاد : وهي ما يشترط تحققه لاعتبار العقد منعقداً شرعاً، وإلا كان باطلاً. وقد اشترط الحنفية لانعقاد البيع أربعة أنواع من الشروط : في العاقد، وفي نفس العقد، وفي مكانه، وفي المعقود عليه.
      أما ما يشترط في العاقد فهو شرطان :
      1-أن يكون العاقد عاقلاً أي مميزاً، فلا ينعقد بيع المجنون والصبي غير العاقل. ولا يشترط البلوغ عند الحنفية، فيصح تصرف الصبي المميز.
      2- أن يكون العاقد متعدداً : فلا ينعقد البيع بواسطة وكيل من الجانبين إلا في الأب ووصيه والقاضي والرسول من الجانبين، بخلاف الوكيل في عقد النكاح، فإنه يصح أن يعقد النكاح وكيل من الجانبين.
      والفرق بين البيع والنكاح : هو أن للبيع حقوقاً متضادة مثل التسليم والتسلم والمطالبة بتسليم المبيع وقبض الثمن والرد بالعيب والخيارات. ويستحيل أن يكون الشخص الواحد في زمان واحد مسلماً ومتسلماً، طالباً ومطالباً، وهذا محال. وبما أن حقوق العقد مقتصرة على العاقد فلا يصير كلام العاقد كلام الشخصين. وأما الوكيل في النكاح فإن حقوق العقد لا ترجع إليه، وإنما ترجع إلى الموكل فكان سفيراً محضاً بمنزلة الرسول.
      وقد استثني الأب فيما يبيع مال نفسه من ابنه الصغير، بمثل قيمته أو بما يتغابن الناس فيه عادة، أو يشتري مال الصغير لنفسه، لأنه حينئذ اقترب من مال اليتيم بالتي هي أحسن، لكمال شفقته ووفرة رعايته بحكم طبيعة الحال. والوصي مثل الأب عند أبي حنيفة إذا تصرف بما فيه نفع ظاهر لليتيم أو بمثل القيمة، لأنه مرضي الأب، والظاهر ما رضي به إلا لوفور شفقته على الصغير.
      والقاضي لا ترجع إليه حقوق العقد، فكان بمنزلة الرسول، والرسول لا تلزمه حقوق العقد، لأنه معبر وسفير، فجاز لكل من القاضي والرسول تولي العقد عن الجانبين.

      وأما ما يشترط في نفس العقد فهو شرط واحد : وهو أن يكون القبول موافقاً للإيجاب.
      وأما ما يشترط في مكان العقد : فهو شرط واحد أيضاً وهو اتحاد مجلس الإيجاب والقبول. ومجلس البيع : هو الاجتماع الواقع لعقد البيع.
      وأما ما يشترط في المعقود عليه أي المبيع فهو أربعة شروط :
      1- أن يكون المبيع موجوداً : فلا ينعقد بيع المعدوم قبل وجوده وماله خطر العدم. من أمثلة الأول : بيع نتاج النتاج أي ولد ولد هذه الناقة مثلاً، وبيع الثمر قبل انعقاد شيء منه على الشجرة. ومن أمثلة الثاني : بيع الحمل، وبيع اللبن في الضرع، فكل من الحمل واللبن متردد بين الوجود وعدم الوجود فهما على خطر العدم.
      ودليله في الجملة : أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها. ويلحق به بيع ياقوتة فإذا هي زجاج، ففي هذا غلط في الجنس فلا ينعقد البيع، لأن المبيع معدوم.
      ويستثنى بيع السلم والاستصناع وبيع الثمر على الشجر بعد ظهور بعضه في رأي بعض الحنفية.
      2- أن يكون المبيع مالاً متقوماً :
      والمال عند الحنفية : ما يميل إليه الطبع ويمكن ادخاره لوقت الحاجة. وبعبارة أخرى : هو كل ما يمكن الإنسان وينتفع به على وجه معتاد. والأصح أنه هو كل عين ذات قيمة مادية بين الناس. والمتقوم : ما يمكن ادخاره مع إباحته شرعاً. وبعبارة أخرى : هو ما كان محرزاً فعلاً ويجوز الانتفاعبه في حال الاختيار، فلا ينعقد بيع ما ليس بمال كالإنسان الحر والميتة والدم، ولا بيع مال غير متقوم كالخمر والخنزير في حق مسلم، ويجوز بيع آلات الملاهي عند أبي حنيفة لإمكان الانتفاع بالأدوات المركبة منها، وعند بقية الأئمة : لا ينعقد بيع هذه الأشيءا، لأنها معدة للفساد.
      3- أن يكون مملوكاً في نفسه : أي محرزاً وهو ما دخل تحت حيازة مالك خاص. فلا ينعقد بيع ما ليس بمملوك لأحد من الناس مثل بيع الكلأ ولو في أرض مملوكة، والماء غير المحرز، والحطب، والحشيش، والصيود التي في البراراي، وتراب الصحراء ومعادنها، وأشعة الشمس والهواء، ولقطات البحر وحيواناتالبر في البراري.
      4- أن يكون مقدور التسليم عند العقد :
      فلا ينعقد بيع معجوز التسليم، وإن كان مملوكاً للبائع، مثل الحيوان الشارد والطير في الهواء، والسمك في البحر بعد أن كان في يده.
     
      شروط الإيجاب والقبول :
      يفهم مما ذكرناه من شرائط الانعقاد أنه يشترط في الإيجاب والقبول ثلاثة شروط :
      1- الأهلية : هي عند الحنفية أن يكون كل من الموجب والقابل عاقلاً مميزاً يدرك ما يقول ويعنيه حقاً، فهو في الحقيقة شرط في العاقد لا في الصيغة، إلا بالنظر لصدورها من العاقدين. والتمييز مقدر بتمام السنوات السبع، فلا ينعقد بيع المجنون والصبي غير المميز، لأن العقد ارتباط بين إرادتي طرفيه.
      والكلام ونحوه كالكتابة والإشارة دليل على هاتين الإرادتين، فكان لابد من أن يكون هذا الدليل صادراً من مميز عاقل.
      والبلوغ والاختيار ليس من شروط الانعقاد عند الحنفية.
     
      بيع الصبي المميز :
      قال الحنفية والمالكية والحنابلة : ينعقد تصرف الصبي المميز بالبيع والشراء فيما أذن له الولي، وإلا كان موقوفاً على أجازة وليه. ودليلهم أن المدار في التصرف على إذن الولي، لا على الصبي، فصح البيع، لأن الصبي حينئذ كالدلال، والعاقد غيره، ولأن دفع المال إلى الصبي بعد رشده متوقف على اختباره بالبيع والشراء، وأنه يغبن أم لا، فكان لابد من القول بصحة تصرفاته وعقوده، ولكن بإذن الولي لتحصيل المصلحة وحفظ أمواله.
      وقال الشافعية : لا ينعقد بيع الصبي لعدم أهليته، وشرط العاقد بائعاً أو مشترياً : أن يكون راشداً : وهو أن يتصف بالبلوغ وصلاح الدين والمال، ودليلهم قوله تعالى : {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5] والتصرف بالبيع والشراء في معنى إعطاء السفهاء المال لاستلزام البيع والشراء لبذل المال، والجامع بينهما نقص العقل المؤدي بكل منهما لإضاعة المال في غير طريقه الشرعي.
     
      بيع المكره وبيع التلجئة :
      بيع المكره :
      قال جمهور الحنفية : إن عقود البيع والشراء والإيجار ونحوها من المكره إكراهاً ملجئاً أو غير ملجئ تكون فاسدة، لأن الإكراه يزيل الرضا الذي هو شرط في صحة هذه العقود، لقوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] وحينئذ يحق للمستكره فسخ ما عقد أو إمضاؤه.
      وقال الشافعية والحنابلة : يشترط أن يكون العاقد مختاراً طائعاً في بيع متاع نفسه، فلا ينعقد بيع المكره في ماله بغير حق، لقوله تعالى : {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} ولقوله عليه الصلاة والسلام : "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه".
      وأما الإكراه بحق فلا يمنع من انعقاد العقد، إقامة لرضا الشرع مقام رضاه، مثل الإجبار على بيع الدار لتوسعة المسجد أو الطريق أو المقبرة، أو على بيع سلعة لوفاء دين أو لنفقة زوجة أو ولد أو الأبوين، أو لأجل وفاء ما عليه من الخراج الحق.
      وقال المالكية : بيع المكره غير لازم، فيكون للعاقد المستكره الخيار بين فسخ العقد أو إمضائه.

      بيع التلجئة : صورة بيع التلجئة أو بيع الأمانة : أن يخاف إنسان اعتداء ظالم على بعض ما يملك، فيتظاهر هو ببيعه لثالث فراراً منه ويتم العقد مستوفياً أركانه وشرائطه. وقد اختلف العلماء في شأنه.
      فقال الحنابلة : إنه عقد باطل غير صحيح، لأن العاقدين ما قصدا البيع، فلم يصح منهما كالهازلين. وعبارة الحنفية : بيع المضطر وشرؤاه فاسد.
      وقال الشافعي : هو بيع صحيح، لأن البيع تم بأركانه وشروطه، وأتي باللفظ مع قصد واختيار خالياً عن مقارنة مفسد، فصح كما لو اتفقا على شرط فاسد، ثم عقد البيع بغير شرط. وأما عدم رضاه بوقوعه فهو كظنه أنه لا يقع، لا أثر له لخطأ ظنه.
     
      2- الشرط الثاني - من شروط صيغة البيع : أن يكون القبول موافقاً للإيجاب : بأن يرد على كل ما أوجبه البائع وبما أوجبه فإذا قال إنسان لآخر : بعتك هذين الثوبين بألف ليرة، فقال المشتري : قبلت في هذا الثوب، وأشار إلى واحد منهما، لا ينعقد البيع. وإذا قال لآخر : بعتك هذه الدار بما فيها من مفروشات بألفي ليرة، فقال المشتري : قبلت شراءها دون ما فيها بألف ليرة مثلاً، لم ينعقد العقد أيضاً، لتفريق الصفقة على البائع، والمشتري لا يملك تفريقها، لأن من عادة التجار ضم الرديء إلى الجيد، ترويجاً للرديء بواسطة الجيد.
      فلو قبل المشتري بأكثر مما طلب، انعقد البيع : لأن القابل بالأكثر قابل بالأقل طبعاً، غير أنه لا يكون ملزماً إلا بالثمن الذي طلبه البائع.
      ولو قبل بأقل مما ذكر البائع، لا ينعقد العقد.
      وكذا لو خالف في وصف الثمن لا في قدره، كأن أوجب البائع البيع بثمن حالّ، فقبل المشتري بثمن مؤجل، أو أوجب بأجل إلى شهر معين فقبل المشتري بأجل أبعد منه، فلا ينعقد البيع في الحالتين، لعدم تطابق القبول مع الإيجاب.

      3- أن يتحد مجلس العقد : بأن يكون الإيجاب والقبول في مجلس واحد، بأن كان الطرفان حاضرين معاً، أو في مجلس علم الطرف الغائب بالإيجاب. ونتائج هذه الشرط ما يلي :
      لو أوجب أحد الطرفين البيع فقام الآخر عن المجلس قبل القبول، أو اشتغل بعمل آخر يوجب اختلاف المجلس، ثم قبل، لا ينعقد البيع. ولكن يشترط الفور في القبول، لأن القابل يحتاج إلى التأمل، ولو اقتصر على الفور لا يمكنه التأمل، واعتبر المجلس الواحد جمعاً للمتفرقات للضرورة.
      وكذلك قال المالكية : لا يضر في البيع الفصل بين الإيجاب والقبول إلا أن يخرج عن البيع لغيره عرفاً.
      وقال الشافعية والحنابلة : يشترط أن يكون القبول بعد الإيجاب بألا يفصل بينهما فاصل كثير : وهو ما أشعر بالإعراض عن القبول. ولا يضر الفصل اليسير لعدم إشعاره بالإعراض عن القبول. ويضر تخلل كلام أجنبي عن العقد ولو يسيراً بين الإيجاب والقبول.
     
      التعاقد حالة المشي أو الركوب : إذا تبايعا وهما يمشيان أو يسيران على دابة واحدة أو دابتين : فإن اتصل الإيجاب والقبول من غير فصل بينهما، انعقد العقد، حتى ولو مشيا خطوة أو خطوتين جاز، فإن كان بين القبول والإيجاب فصل وسكوت، وإن قل، لا ينعقد العقد، لأن المجلس تبدل بالمشي والسير. بخلاف الوكالة فإنها لا تقتصر عليها وتوكيل الرجل زوجته بتطليق نفهسا يقتصر على المجلس.
      ولو تبايعا وهما واقفان، انعقد البيع، لاتحاد المجلس.
      ولو أوجب أحدهما البيع وهما واقفان، فسار الآخر قبل القبول أو سارا جميعاً أو سار البائع قبل القبول، ثم قبل المشتري بعدئذ لا ينعقد، لأنه لما سار أحدهما أو سارا، فقد تبدل المجلس قبل القبول، ويجعل السير دليلاً على الإعراض.

      التعاقد على ظهر سفينة أو طائرة : لو تبايع الطرفان على سفينة أو طائرة أو قطار، انعقد العقد، سواء أكانت هذه الوسائل واقفة أم جارية، بخلاف المشي على الأرض والسير على الدابة، لأن الشخص لا يستطيع إيقاف تلك الوسائل، فاعتبر المجلس فيها مجلساً واحداً، وإن طال، أما الدابة، فإنه يستطيع إيقافها.
     
      التعاقد مع غائب : إذا أوجب أحد المتعاقدين البيع أو الشراء والآخر غائب، فبلغه الإيجاب، فقبل، لا ينعقد البيع، كأن يقول : "بعت هذه البضاعة من فلان الغائب" فبلغه الخبر، فقبل : لا يصح، لأن القاعدة الأصلية في هذا : أن أحد شطري العقد الصادر من أحد العاقدين في البيع يتوقف على الآخر في مجلس العقد "أي يظل قائماً ساري المفعول ضمن المجلس لا بعده" ولا يتوقف على الشطر الآخر من العاقد الآخر فيما وراء المجلس بالاتفاق، إلا إذا كان عنه قابل "أي وكيل" أو كان بالرسالة أو الكتابة.

      التعاقد بواسطة رسول : أما الرسالة : فهي أن يرسل أحد المتعاقدين رسولاً إلى رجل فيقول المتعاقد الآخر : "إني بعت هذا الثوب من فلان الغائب بكذا" فاذهب إليه، وقل له : "إن فلاناً باع ثوبه منك بكذا" فجاء الرسول، وأخبره بما قال، فقال المشتري في مجلس أداء الرسالة : "اشتريت" أو "قبلت" : تم البيع بينهما، لأن الرسول سفير ومعبر عن كلام المرسل، فكأنه حضر بنفسه وخوطب بالإيجاب فقبل، فينعقد العقد.
     
      التعاقد بالمراسلة : أما الكتابة : فهي أن يكتب رجل إلى آخر : "أما بعد، فقد بعت فرسي منك بكذا" فبلغه الكتاب، فقال في مجلسه "أي مجلس بلوغ الكتاب" : "اشتريت أو قبلت". ينعقد البيع لأن خطاب الغائب كتابة يجعله كأنه حضر بنفسه، وخوطب بالإيجاب فقبل في المجلس، فإن تأخر القبول إلى مجلس ثان لم ينعقد البيع.
      وللكاتب أن يرجع عن إيجابه أما شهود بشرط أن يكون قبل قبول الآخر ووصول الرسالة. ويرى جمهور المالكية أنه ليس للموجب الرجوع قبل أن يترك فرصة للقابل يقرر العرف مداها.

      مبدأ وحدة الصفقة وتفريقها :
      اتفق العلماء على ضرورة اتحاد الصفقة من حيث المبدأ، لأن من شرائط انعقاد البيع الشرط المذكور قريباً : وهو أن يكون القبول موافقاً للإيجاب، إلا أن هناك اختلافات جزئية في تحقيق هذا المبدأ أو عدم تحقيقه أي تفريق الصفقة.
      فقال الحنفية : لا بد من معرفة ما يوجب اتحاد الصفقة وتفريقها، وذلك إما بسبب العاقدين أو بسبب المبيع.
      أ- أما بالنسبة للعاقدين : فإن اتحد شخص الموجب سواء أكان بائعاً، أم مشترياً، وتعدد القابل المخاطب، لم يجز للقابلين تفريق الصفقة بأن يقبل أحدهما البيع دون الآخر. وإن انعكس الأمر فتعدد الموجب واتحد القابل، لم يجز للقابل القبول في حصة أحد الموجبين دون الآخر. مثال الحالة الأولى : أن يقول البائع لمشتريين : يعتكما هذه السلعة بألف ليرة، فقال أحدهما : اشتريت، ولم يقبل الآخر، كانت الصفقة متعددة، فلم ينعقد العقد إلا باتفاق جديد. ومثال الحالة الثانية : أن يقول شخص لمالكي سلعة : اشتريت منكما هذه السلعة بألف ليرة مثلاً، فباعه أحدهما دون الآخر، فإن الصفقة تتعدد في هذه الحالة، فلا ينعقد العقد.
      ب- وأما بالنسبة للمبيع : فإن اتحد العاقدان، وقبل أحدهما في بعض المبيع دون بعض، لم يصح العقد، لتفرق الصفة.
      وإن اتحد العاقدان، وتعدد المبيع، فإما أن يكون المبيع مثليين أو مثلياً وقيمياً في كلتا الحالتين لا يجوز للمشتري أن يقبل في أحد المبيعين، ويرفض الآخر، فإن فعل، تعددت الصفقة، وحينئذ لا يتم البيع إلا برضا جديد من البائع بما قبل به المشتري، فيصبح القبول إيجاباً، والرضا قبولاً، ويبطل الإيجاب الأول.
      غير أن هناك فرقاً بين الحالتين : وذلك في قسمة الثمن على أجزاء المبيع وفي وحدة الصفقة وتعددها. فإذا كان المبيع مثليين كقفيزين من أرز أو كمدين من حنطة أو رطلين من حديد، وقبل المشتري في أحدهما، انقسم الثمن بنسبة أجزاء المبيع، فيكون ثمن الجزء الذي تم فيه المبيع في هذا المثال نصف الثمن الأصلي المذكور لجزئي المبيع؛ لأن الثمن في الثليات ينقسم على المبيع باعتبار الأجزاء، فكانت حصة كل جزء من الثمن معلوماً. وتكون الصفقة عندئذ واحدة. ويشبه المثليات (المكيل والموزون) في قسمة الثمن عليه بالأجزاء ما إذا كان المبيع شيئاً واحداً كحيوان واحد.
      وإذا كان المبيع من غير المثليات أي القيميات كثوبين ودابتين، لا ينقسم الثمن على المبيع باعتبار الأجزاء، لعدم تماثل الأجزاء، وإذا لم ينقسم الثمن في هذه الحالة، بقيت حصة كل واحد من جزئي المبيع من الثمن مجهولة، وجهالة الثمن تمنع صحة البيع. فإن أريد تصحيح الصفقة فلا بد من أحد أمرين :
      إما أن يكرر البائع لفظ البيع بأن يقول : بعتك هذين الثوبين، بعتك هذا بألف، وبعتك هذا بألف، أو اشتريت منك هذين المتاعين، اشتريت هذا بمائة، واشتريت هذا بمائة. فيصح العقد، ويصبح هنا صفقتان.
      وإما أن يفرق الثمن على أجزاء المبيع، بأن يقول البائع : بعتك هذين الكتابين، هذا بمئة، وهذا بخمسين، فقبل المشتري في أحدهما، جاز البيع لانعدام تفريق الصفقة الواحدة من المشتري، بل البائع هو الذي فرق الصفقة، حيث سمى لكل واحد من المبيعين ثمناً على حدة، فكانت هذه الحالة صفقات معنى، وإلا لو كان غرض البائع ألا يبيع المبيعين للمشتري إلا جملة واحدة، لم تكن هناك فائدة لتعيين ثمن كل منهما على انفراد.
      وقال أبو حنيفة والمالكية : إذا اشتملت الصفقة على حلال وحرام، كالعقد على سلعة متقومة وخمر، أو خنزير، أو غيرهما، فالصفقة كلها باطلة.
      ولو باع الرجل ملكه وملك غيره في صفقة واحدة، صح البيع فيهما، ويلزم البيع فيما يملكه المالك، ويتوقف اللزوم في ملك الغير على إجازته، وهذا باتفاق الحنفية والمالكية، لأنهم يصححون العقد الموقوف أو عقد الفضولي.
      وقال الشافعية والحنابلة : تفريق الصفقة معناه : أن يبيع ما يجوز بيعه، وما لا يجوز بيعه صفقة واحدة بثمن واحد، وهو ثلاثة أقسام :
      أحدهما- أن يبيع معلوماً ومجهولاً بثمن واحد، لقوله : بعتك هذا الكتاب وكتاباً آخر، وهما ملك له بمئة ليرة مثلاً، لم يصح البيع فيهما؛ لأن المجهول لا يصح بيعه لجهالته، والمعلوم مجهول الثمن، ولا سبيل لمعرفته، لأن معرفته إنما تكون بتقسيط الثمن عليهما، والمجهول لا يمكن تقويمه، فيتعذر التقسيط.
      الثاني- أن يكون المبيعان مما ينقسم الثمن عليهما بالأجزاء، كشيء مشترك بين اثنين، فباعه كله أحدهما بغير إذن شريكه، وكشيئين من المثليات مثل قفيزين من صبرة واحدة باعهما من لا يملك إلا بعضهما، فالأصح أن يصح البيع فيما يملكه بقسطه من الثمن، ويفسد فيما لا يملكه؛ لأن لكل واحد منهما حكماً مستقلاً حالة إفراده بالبيع، فإذا جمع مع غيره ثبت لكل واحد منهما حكمه الخاص به.
      الثالث- أن يكون المبيعان معلومين مما لا ينقسم الثمن عليهما بالأجزاء أي أن تشتمل الصفقة على حلال وحرام كخل وخمر وشاة وخنزير، وميتة وشاة مذكاة، ونحوها من القيميات، فعند الشافعي أن البيع يصح في الحلال ويبطل في الحرام. وفي كيفية توزيع الثمن على هذه الأشياء أوجه ثلاثة عند الشافعية أشهرها أنه يوزع الثمن على المبيعين باعتبار الأجزاء، فيقدر الخمر خلاً، والخنزير شاة، والميتة مذكاة.
      ورجح بعض الحنابلة : وهو أنه يفسد البيع في المبيعين جميعاً.
      فإن كانت الصفقة مشتملة على مال للبائع ومال لغيره لا ينقسم الثمن عليهما بالأجزاء، فالأصح عند الشافعية أيضاً أن البيع يصح فيما يملكه، ويبطل فيما لا يملكه ويوزع الثمن حسب القيمة لكل منهما، وعند الحنابلة : الأصح أنه يبطل البيع في المبيعين جميعاً.
      وقال الحنابلة والشافعية فيما يتعلق بخيار تفرق الصفقة : متى صح البيع في بعض الصفقة : فإن كان المشتري عالماً بالحال كأن يعلم أن المبيع مما ينقسم الثمن عليه بالأجزاء كما ذكرنا، فلا خيار له، لأنه اشترى على بصيرة. وإن لم يعلم بالحال، مثل أن يشتري رجل متاعاً يظنه كله للبائع، فبان أنه لا يملك إلا نصفه، أو متاعين فتبين أنه لا يملك البائع إلا أحدهما، فله الخيار بين الفسخ والإمساك، لأن الصفقة تبعضت عليه. وأما البائع عند إمساك المشتري جزء المبيع، فلا خيار له في الأصح؛ لأنه رضي بزوال ملكه عما يجوز بيعه بقسطة من الثمن.
      فإن تلف أحد المبيعين صفقة واحدة قبل القبض، فيفسخ العقد في التالف بلا خلاف. وأما الباقي فللمشتري الخيار فيه بين إمساكه بحصته من الثمن، وبين الفسخ، لتبعض الصفقة عليه.
     
      آراء العلماء في تصرف الفضولي :
      الفضولي في الأصل : من يشتغل بما لا يعنيه أو يعمل عملاً ليس من شأنه، ومنه سمي فضولياً: من يتصرف في شيء أو يعقد عقداً من العقود، دون أن يكون له ولاية ما على القيام به، كمن يبيع أو يشتري للغير، أو يؤجر أو يستأجر لغيره، دون وكالة أو وصاية أو ولاية له على العقد، وبدون إذن من الغير. وبيع الإنسان ملك غيره دون إذن منه شائع في الحياة العملية كما في بيع الأزواج ملك زوجاتهم أو بيع الأفراد ملك الحكومة أو ملك من تغيب حتى طالت غيبته.
      ويلاحظ أن الفضولي : هو من يتصرف فيما تظهر ملكية غيره له، وإلا كان تصرفه من بيع ما لا يملك، وهو منهي عنه.
      ومحل بحثنا : أن يبيع الرجل مال غيره بشرط : إن رضي به صاحب المال أمضي البيع، وإن لم يرض فسخ، أو يشتري الرجل للرجل بغير إذنه على أنه إن رضي المشتري، صح الشراء وإلا لم يصح، فالفضولي : هو المتصرف للغير بغير إذنه. وقد اختلف الفقهاء في حكم تصرف الفضولي.
      فأما الحنفية : فقد فرقوا بين البيع والشراء، ففي حالة البيع ينعقد تصرف الفضولي صحيحاً موقوفاً، سواء أضاف الفضولي العقد إلى نفسه أم إلى المالك، لأنه لا يمكن نفاذ العقد على العاقد.
      وفي حالة الشراء : إن أضاف الفضولي الشراء لنفسه، مع أنه يريد في نيته الشراء لغيره، كان الشراء له هو نفسه إن صح أن ينفذ عليه، لأن الأصل أن يكون تصرف الإنسان لنفسه لا لغيره.
      وأما إن أضاف الشراء لغيره أو لم يجد عقد الشراء نفاذاً على الفضولي بأن كان صبياً أو محجوراً عن التصرف، انعقد الشراء صحيحاً موقوفاً على إجازة الغير، أو من اشترى له، فإن أجازه نفذ عليه، واعتبر الفضولي وكيلاً ترجع إليه حقوق العقد.
      وفي الجملة : إن تصرفات الفضولي جائزة موقوفة على إجازة صاحب الشأن عند الحنفية، وتصرفات الفضولي مثل بيع المسلم والمغصوب وبيع الوكيل هي من الحالات المستثناة من بيع ما ليس مملوكاً للإنسان.
      وقال المالكية : تعتبر تصرفات الفضولي وعقوده بصفة عامة في حالة البيع وحالة الشراء منعقدة موقوفة على إجازة صاحب الشأن. فإن أجازها جازت ونفذت وإلا بطلت، لأن الإجازة اللاحقة كالإذن أو الوكالة السابقة.
      استدل الحنفية والمالكية بآيات البيع التي وردت عامة لم يستثن منها كون العاقد فضولياً، مثل قوله تعالى : {وأحلَّ اللهُ البَيْعَ} وقوله سبحانه : {يا أيُّها الَّذينَ آمَنُوا لا تَأْكُلوا أمْوالكُمْ بَينَكُمْ بِالباطِلِ، إلا أنْ تكونَ تِجارَة عَن تَراضٍ مِنكُم} وقوله : {فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10].
      والفضولي كامل الأهلية، فإعمال عقده أولى من إهماله، وربما كان في العقد مصلحة للمالك، وليس فيه أي ضرر بأحد، لأن المالك له ألا يجيز العقد، إن لم يجد فيه فائدته. وقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يرويه البخاري وغيره : أعطى عروة البارقي ديناراً ليشتري له به شاة فاشترى له به شاتين، فباع إحداهما بدينار، وجاءه بدينار وشاة، فقال : "بارك الله لك في صفة يمينك". وروى الترمذي وأبو داود عن حكيم بن حزام : أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه ديناراً ليشتري به شاة يضحيها، فاشترى شاتين بالدينار، وباع إحداهما بدينار جاء به هو والشاة للرسول صلى الله عليه وسلم، فأثنى عليه، ودعا له بالبركة قائلاً : "بارك الله لك في صفقتك" فالنبي عليه السلام لم يأمر في الحالتين في الشاة الثانية لا بالشراء ولا بالبيع.
      وقال الحنابلة : لا يصح تصرف فضولي مطلقاً أي ببيع أو شراء أو غيرهما، ولو أجيز تصرفه بعد وقوعه إلا إن اشترى الفضولي في ذمته، ونوى الشراء لشخص لم يسمه، فيصح، أو اشترى بنقد حاضر ونوى لشخص لم يسمه، فيصح، ثم إن أجاز الشراء من اشتري له، وملكه من حين الشراء، وإن لم يجزه وقع الشراء للمشتري ولزمه حكمه. وقال ابن رجب : تصرف الفضولي جائز موقوف على الإجازة إذا دعت الحاجة إلى التصرف في مال الغير أو حقه، وتعذر استئذانه إما للجهل بعينه أو لغيبته ومشقة انتظاره.
      وقال الشافعية : يشترط في المبيع أن يكون مملوكاً لمن له العقد، فبيع الفضولي باطل من أساسه لا ينعقد أصلاً فلا تلحقه إجازة صاحب الشأن، ودليلهم ما رواه أبو داود والترمذي - وقال: إنه حسن - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لا بيع إلا فيما تملك". وصح أيضاً النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان أي ما ليس مملوكاً للبائع، وذلك للغرر الناشئ عن عدم القدرة على التسليم وقت العقد، وما يترتب عليه من النزاع. وقالوا عن حديث عروة البارقي أو حكيم بن حزام : إنه محمول على أنه كان وكيلاً مطلقاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويدل عليه أنه باع الشاة وسلمها، فهي وكالة خالف فيها الوكيل إلى خير فينفذ تصرفه. وأما شراء الفضولي في رأي هؤلاء فيعتبر شراء لنفسه، ويلزمه هو وحده ولا ينتقل الملك عنه إلى غيره إلا بعقد جديد كما هو رأي الحنيفة.

      شروط إجازة تصرف الفضولي :
      اشترط الحنفية لإجازة عقد الفضولي شروطاً :
      1- أن يكون للعقد مجيز حالة العقد : أي من كان يستطيع إصدار العقد بنفسه، لأن ماله مجيز متصور منه الإذن بإتمام العقد للحال، وبعد صدور التصرف. وأما ما لا مجيز له فلا يتصور منه الإذن للحال، والإذن في المستقبل قد يحدث وقد لا يحدث.
      2- أن تكون الإجازة حين وجود البائع، والمشتري، والمالك، والمبيع، فلو حصلت الإجازة بعد هلاك أحد هؤلاء، بطل العقد ولم تفد الإجازة شيئاً، لأن الإجازة تصرف في العقد، فلا بد من قيام العاقدين والمعقود عليه.
      3- ألا يمكن تنفيذ العقد على الفضولي عند رفض صاحب الشأن قبل بيع ملك الغير أو اجارته، سواء أضاف العقد لنفسه أو لصاحب المال، ومثل شراء شيء لغيره أو استئجار شيء لغيره، وأضاف العقد لذلك، ففي هذه الحالات يكون العقد مرقوناً. أما إن أمكن تنفيذ العقد على الفضولي عند عدم اجازته فينفذ على الفضولي كشراء شيء أو استئجاره مضيفاً لنفسه فليزمه هو.

      فسخ عقد الفضولي :
      فسخ العقد الصادر من الفضولي كبيع مثلاً : قد يكون من صاحب الشأن المالك للمبيع كما هو واضح، وقد يكون من الفضولي البائع قبل إجازة المالك، حتى يدفع عن نفسه الحقوق التي تلزمه لو أجاز المالك، وقد يكون من المشتري ليدفع عن نفسه ما قد يلحقه من ضرر بشرائه من غير صاحب الشأن.
      أما في عقد الزواج : فليس للفضولي فسخه، لأنه عقد ترجع فيها الحقوق إلى الأصيل صاحب الشأن.

      هل للفضولي الواحد أن يعقد العقد عن الطرفين ؟
      إذا باع الفضولي دار إنسان مثلاً وهما غائبان، وقبل عن المشتري، أو زوج إنساناً من امرأة وقبل عنهما، فلا ينعقد العقد، لأن تعدد العاقد شرط في انعقاد العقد، كما سبق بيانه، فلا يتوقف الإيجاب على قبول غائب عن المجلس في سائر العقود من نكاح وبيع وغيرهما، بل يبطل الإيجاب ولا تلحقه الإجازة اتفاقاً.
     
      شروط صحة البيع :
      شروط الصحة قسمان : عامة وخاصة.
     
      فالشروط العامة : هي التي يجب أن تتحقق في كل أنواع البيع لتعتبر صحيحة شرعاً. وهي إجمالاً أن يخلو عقد البيع من العيوب الستة، وهي : الجهالة، والإكراه، والتوقيت، والغرر، والضرر، والشروط المفسدة.
     
      الأول - الجهالة : يراد بها الجهالة الفاحشة أو التي تفضي إلى نزاع يتعذر حله وهو النزاع الذي تتساوى فيه حجة الطرفين بالاستناد إلى الجهالة، كما لو باع إنسان شاة من قطيع. وهذه الجهالة أربعة أنواع :
      1- جهالة المبيع جنساً أو نوعاً أو قدراً بالنسبة إلى المشتري.
      2- جهالة الثمن كذلك : فلا يصح بيع الشيء بثمن مثله، أو بما سيستقر عليه السعر.
      3- جهالة الآجال، كما في الثمن المؤجل، أو في خيار الشرط، فيجب أن تكون المدة معلومة وإلا فسد العقد. ويلاحظ أن الذي يجوز تأجيله لأجل معلوم في عقد البيع هو الثمن أو المبيع إذا كان كل منهما ديناً ثابتاً في الذمة، فإن كان الثمن أو المبيع عيناً، فلا يجوز تأجيله باتفاق العلماء، فلو باع شخص سلعة معينة على أن يسلمها بعد شهر، أو اشترى شخص آخر بثمن عين على أن يدفع الثمن بعد شهر، فالبيع فاسد، ولو كان الأجل معلوماً، لأن الأجل شرع ترفيها ليتمكن العاقد من الحصول على العوض أثناءه، وهذا أمر يليق بالديون لأنها ليست معينة في البيع، ولا يليق بالأعيان المعينة لأن المبيع العين معين حاضر، فيكون تأخير تسليمه ملحقاً ضرراً من غير فائدة أو تحصيلاً لحاصل.
      4- الجهالة في وسائل التوثيق، كما لو اشترط البائع تقديم كفيل أو رهن بالثمن المؤجل، فيجب أن يكونا معينين وإلا فسد العقد.
     
      الثاني - الإكراه : هو حمل المستكره على أمر يفعله وهو نوعان :
      1- إكراه ملجئ أو تام : وهو الذي يجد المستكره نفسه مضطراً به لفعل الأمر المكره عليه، وذلك كالتهديد بالقتل أو الضرب الذي يخشى منه ضياع عضو.
      2- إكراه غير ملجئ أو ناقص : كالتهديد بالحبس أو الضرب أو إيقاع الظلم به كمنع ترقيته في وظيفته أو إنزاله درجة.
      والإكراه بنوعيه يؤثر في البيع، فيجعله فاسداً عند جمهور الحنفية وموقوفاً عند البعض. فيملك المشتري المبيع بالقبض إذا اعتبر فاسداً، ولا يملكه مطلقاً بالقبض إذا اعتبر موقوفاً، والأرجح اعتبار عقد المكره موقوفاً، لأنه باتفاق الحنفية إذا أجازه المستكره بعد زوال الإِكراه يجوز ويلزم في حقه، وهذا هو حكم العقد الموقوف لا الفاسد.
     
      الثالث- التوقيت : هو أن يوقت البيع بمدة كما لو قال : بعتك هذا الثوب شهراً أو سنة، فيكون البيع فاسداً، لأن ملكية العين لا تقبل التأقيت.

      الرابع- الغرر : المراد به غرر الوصف، كما لو باع بقرة على أنها تحلب كذا رطلاً، لأنه موهوم التحقق فقد ينقص.
      أما لو باعها على أنها حلوب دون تحديد مقدار، فإنه شرط صحيح. وأما غرر الوجود فهو مبطل للبيع لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر : وهو ما كان المبيع فيه محتملاً للوجود والعدم، كبيع نتاج النتاج، وبيع الحمل الموجود.
     
      الخامس - الضرر : يراد به ما إذا كان تسليم المبيع لا يمكن إلا بإدخال ضرر على البائع، فيما سوى المبيع من ماله، كما لو باع جذعاً معيناً في سقف مبني، أو ذراعاً من ثوب يضره التبعيض، فإن التنفيذ يقضي بهدم ما حول الجذع وتعطيل الثوب.
      وبما أن الفساد هنا لصيانة حق شخصي، لا لحق الشرع، قرر الفقهاء أن البائع لو نفذ الضرر على نفسه، لأن قلع الجذع أو قطع الثوب وسلمه إلى المشتري، انقلب البيع صحيحاً.
     
      السادس- الشرط المفسد : هو كل شرط فيه نفع لأحد المتبايعين، إذا لم يكن قد ورد به الشرع، أو جرى به العرف، أو يقتضيه العقد، أو يلائم مقتضاه، مثل أن يبيع سيارة على أن يستخدمها شهراً بعد البيع، أو داراً على أن يظل مقيماً بها مدة معينة، أو أن يشترط المشتري على البائع في صلب العقد أن يقرضه مبلغاً من المال.
      والشرط الفاسد إذا وجد في عقد من عقود المعاوضات المالية كالبيع والإجارة والقسمة مثلاً أفسده، ولكنه يكون لغواً في العقود الأخرى، مثل التبرعات والتوثيقات والزواج، وتكون هذه العقود حينئذ صحيحة.
      وقد علق الأستاذ مصطفى الزرقاء على ذلك، فقال : وبما أن عرف الناس مصحح للشروط في نظر الفقهاء، فكل شرط فاسد في الأصل ينقلب صحيحاً ملزماً إذا تعارفه الناس، وشاع بينهم اشتراطه. وعندئذ نستطيع القول : بأن الشرط الفاسد قد زال فقهياً من معاملات الناس بمفعول الزمن، وأصبحت الشروط في هذا العصر كلها صحيحة بمقتضى قواعد الاجتهاد الحنفي نفسه.

      وأما الشروط الخاصة : فهي التي تخص بعض أنواع البيع دون بعض وهي كما يأتي :
      1- القبض في بيع المنقولات : أي أنه إذا باع شخص شيئاً من المنقولات التي كان قد اشتراها، فيشترط لصحة بيعه : أن يكون قد قبضها من بائعها الأول، لأن المنقول يكثر هلاكه، فيكون في بيعه ثانية قبل قبضه غرر، أما إذا كان عقاراً فيجوز بيعه قبل القبض عند أبي حنيفة.
      2- معرفة الثمن الأول إذا كان البيع مرابحة أو تولية أو وضيعة أو إشراكاً. وسنذكر تفسيرها.
      3- التقابض في البدلين قبل الافتراق إذا كان البيع صرفاً.
      4- توافر شروط السلم التي سيأتي ذكرها إذا كان البيع سلماً.
      5- المماثلة في البدلين إذا كان المال ربوياً والخلو عن شبهة الربا.
      6- القبض في الديون الثابتة في الذمة، كالمسلم فيه، ورأس مال السلم، وبيع شيء بدين على غير البائع، فلا يصح بيعها من غير من عليه الدين إلا بعد قبضها. مثاله : لا يصح لرب السلم أي (المشتري) أن يبيع المال المسلم فيه قبل قبضه من المسلم إليه (البائع)، ولا يصح للدائن أن يشتري بدينه شيئاً من غير المدين قبل قبضه.

      حقوق البيع التابعة للحكم : هي كل تابع للمبيع من الحقوق التي لا بد له منه ولا يقصد إلا لأجله كالطريق والشرب للأرض، وهي التي تسمى بالمرافق والقاعدة فيها أو الأصل : أن كل ما كان من الدار متصلاً بها يدخل في بيعها تبعاً بلا ذكر، ومالا فلا يدخل بلا ذكر إلا ما جرى العرف أن البائع لا يمنعه عن المشتري، فيدخل المفتاح استحساناً للعرف بعدم منعه بخلاف القفل ومفتاحه والسلَّم غير المتصل بالبناء، وأما الدرج (السلم) في بنايات الطبقات فتدخل عرفاً، وتفصيل ذلك ما يأتي :
      أ- من اشترى بيتاً فوقه آخر لا يدخل فيه العلو، لأن الشيء لا يستتبع مثله.
      ب- يدخل في المبيع ما هو من حقوقه أو مرافقه الخاصة التابعة له كطريق ومطبخ ومتوضأ ونحوها، لأنها توابع له. فيدخل في بيع الدار الطريق الداخلي فيها أو النافذ إلى سكة أو طريق عام، والكنيف (وهو المستراح أو بيت الماء) وبئر الماء، والأشجار التي في صحنها، والحديقة التابعة لها والبستان الذي هو أصغر منها، وإن لم يصرح بذلك. أما الحديقة أو البستان الخارج عن الدار وكان مثل الدار أو أكبر، فلا يدخل في البيع. ويدخل الباب الأصلي للدار، والباب الخارجي المجاور للشارع وهو المسمى بالباب الأعظم، لأنه من مرافقها.
      ولا تدخل الظلة في بيع الدار لبنائها على الطريق، فتأخذ حكمه ولا يدخل الطريق والمسيل والشرب غير الخاص بالدار إلا بالتصريح بها، لأنها خارج الحدود، كأن يشتريها بكل حق هو لها أو بمرافقها أو بكل قليل وكثير. وذلك بخلاف الإجارة والرهن والوقف، تدخل فيها كل هذه المرافق بلا حاجة لذكرها لأنها تعقد للانتفاع بها لا غير. هذا رأي الحنفية القديم، والمعول عليه في ذلك هو العرف السائد في كل إقليم وعصر.
      والإقرار بالدار والصلح عليها والوصية بها والهبة والنكاح والخلع على مال كالبيع في دخول الطريق ونحوه.

      الثمن والمبيع :
      تعريف المبيع والثمن :
      المبيع والثمن عند جمهور الحنفية من الأسماء المتباينة الواقعة على معانٍ مختلفة. فالمبيع في الغالب : ما يتعين بالتعيين، والثمن في الغالب : ما لا يتعين بالتعيين.
      وهذا الأصل العام الغالب يحتمل تغيره في الحالتين بعارض من العوارض، فيصير ما لا يحتمل التعيين مبيعاً كالمسلم فيه، وما يحتمل التعيين ثمناً كرأس مال السلم، إذا كان عيناً من الأعيان. وعلى هذا فاعتبار الثمن ديناً في الذمة هو الأغلب، وذلك عندما يكون الثمن نقوداً أو أموالاً أخرى مثلية ملتزمة بلا تعيين بالذات كالقمح والزيت ونحوهما من كل مكيل أو موزون أو ذَرْعي أو عددي متقارب.
      ويمكن أيضاً أن يكون الثمن أعياناً قيمية كالحيوان والثياب ونحوهما، كما لو بيعت كمية من السكر إلى أجل بشيء من القيميات، فالسكر مبيع والعين القيمية ثمن، ويكون البيع سلماً، لأنه بيع مؤجل بمعجل.
      وقال الشافعي : المبيع والثمن من الأسماء المترادفة الواقعة على مسمى واحد، وإنما يتميز أحدهما عن الأخر في الأحكام بحرم الباء.
     
      تعيين المبيع :
      التعيين : هو التمييز عما سوى الشيء في الوجود الخارجي، ويتعين المبيع إذا كان معيناً في العقد، سواء أكان حاضراً في مجلس البيع، أم غائباً عنه. فإذا كان المبيع غير معين في العقد، فإنه لا يتعين إلا بالتسليم.
     
      الفرق بين الثمن والقيمة والدين :
      الثمن : لا يتحقق إلا في عقد، فهو ما يتراضى عليه المتبايعان، سواء أكان أكثر من القيمة أم أقل أم مساوياً.
      وقيمة الشيء : هي ما يساويه بين الناس.
      والثمن : هو ما تراضى عليه المتبايعان مقابلاً للمبيع.
      أما الدين : فهو كل ما ثبت في الذمة من الأموال القابلة للثبوت فيها بأي سبب من أسباب الالتزام، كالإتلاف والغصب والكفالة والقرض والبيع، ونحوها.
     
      التمييز بين الثمن والمبيع :
      القاعدة المقررة في الأصل : أن كل ما أمكن أن يكون مبيعاً أمكن أن يكون ثمناً ولا عكس، وأن الثمن كما بينا في تعريفه ربما لا يكون متعلقاً بالذمة، بل قد يتعين أحياناً، فيكون من الأعيان القيمية كالحيوان والثياب ونحوها، كما يتعين المبيع.
      لهذا كان واجباً أن نميز بين الثمن والمبيع لما يترتب على التفرقة من أحكام، والتمييز يكون من أموال المعاوضات : وهي النقود والأعيان القيمية والمثليات.
      1- فالنقود عامة من ذهب أو فضة أو فلوس رائجة إذا كانت عوضاً في المبيع، تعتبر هي الثمن. ومقابلها أي السلعة هو المبيع مطلقاً سواء دخل عليها حرف الباء، أو دخل على مقابلها، مثل : بعتك هذا بدينار، أو بعتك ديناراً بهذا.
      وقد قرر جمهور الحنفية أن النقود المسكوكة من ذهب أو فضة أو فلوس معدنية لا تتعين في عقود المعاوضات بالتعيين في حق الاستحقاق لذات العملة النقدية، فلو قال : بعتك هذا الثوب بهذه الدراهم أوبهذه الدنانير، فللمشتري أن يمسك المشار إليه ويبدله بمثله، ولا يحق للبائع أن يطلب ذات المشار إليه، لأن الثمن النقدي محله في الذمة، وما يثبت في الذمة لا ينحصر ببعض أفراده الخارجية، فلا فائدة في استحقاق عينها في المعاوضات، لأن المثل يقوم مقامها في كل عوض، وإنما يتعين فقط بالنسبة لضمان الجنس والنوع والصفة والقدر، حتى إنه يجب على المشتري رد مثل المشار إليه في الأوصاف المذكورة، فلو كان الواجب عليه ألف درهم جيدة، فيجب عليه رد ألف درهم بتلك الصفة، لأن في تعيين الجنس والقدر والصفة فائدة، وعلى هذا فلو هلك المشار إليه لا يبطل العقد.
      وقال الشافعي : تتعين النقود بالتعيين، ويستحق البائع على المشتري ذات الدراهم المشار إليها، كما في سائر الأعيان، لأنه قد يكون للشخص غرض فيها، والثمن المعين كالمبيع في تعلق الحق بالعين.
      فلو هلك المشار إليه قبل القبض يبطل العقد، كما لو هلك سائر الأعيان.
      فإن لم يكن الثمن من المسكوكات، فإنه بالاتفاق كسائر السلع يقبل التعيين.
      2- إن الأعيان القيمية أي "التي ليست من ذوات الأمثال" إذا قوبلت بالمثليات المعينة تعتبر هي المبيع، والمثلي هو الثمن مطلقاً، دون نظر إلى اقتران حرف الباء، لأن المثلي أليق بالثمنية من حيث قابليته للثبوت في الذمم كالنقود.
      من أمثلة القيميات : الثياب والدور والعقارات والعدديات المتفاوتة "أي التي تفاوتت آحادها" كالغنم وسائر الدواب والبطيخ إذا بيع بالعدد لا بالوزن.
      وأما إذا قوبلت الأعيان القيمية بالأموال غير المعينة أي "الملتزمة في الذمم" فالعبرة في الثمنية لمقارنة حرف الباء، فما دخل عليه حرف الباء كان ثمناً، والآخر مبيعاً. فلو قال : بعتك هذا المتاع بقنطار من السكر، فالسكر : هو الثمن. ولو قال بعتك قنطاراً من السكر بهذا المتاع، كان السكر مبيعاً، والمتاع ثمناً، ويكون العقد بيع سلم.
      3- المثليات إذا كان في مقابلتها النقود فهي مبيعة، كما ذكرنا أولاً، وإن كان في مقابلتها أمثالها مثل بيع قمح بزيت، فما كان منها معيناً يكون مبيعاً، وكل ما كان منها موصوفاً في الذمة يكون ثمناً.
      وإن كان كل واحد منهما موصوفاً في الذمة فما صحبه حرف الباء يكون ثمناً، والآخر يكون مبيعاً.
      - والمثليات : إما مكيلات وهي التي تباع بالكيل كالقمح والشعير، وكبعض السوائل التي تباع اليوم باللتر كالبترول والبنزين.
      - أو موزونات : وهي التي تباع بالوزن كالسمن والزيت والسكر.
      - أو ذَرْعيات : وهي التي تباع بالذراع كالقطع الكبرى من المنسوجات الصوفية أو القطنية أو الحريرية، وكالأراضي.
      - أو عدديات متقاربة : وهي التي لا تتفاوت آحادها إلا تفاوتاً بسيطاً كالبيض والجوز، وكالمصنوعات المتماثلة من صنع المعامل كالكؤوس وصحون الخزف والبلّور ونحوها.
      4- إذا بيعت القيميات ببعضها يعتبر كل من العوضين مبيعاً من وجه، وثمناً من وجه آخر.
     
      أحكام المبيع والثمن أو نتائج التمييز بينهما :
      يترتب على التمييز بين المبيع والثمن نتائج نوجز ذكر ست منها، ونفصل الكلام في ثلاثة أخرى.
      1- يشترط لانعقاد البيع أن يكون المبيع مالاً متقوماً ولا يشترط ذلك في الثمن.
      2- يشترط لنفاذ البيع أن يكون المبيع موجوداً في ملك البائع ولا يشترط ذلك في الثمن.
      3- لا يجوز تأجيل الثمن في بيع السلم، ويجب تأجيل المبيع.
      4- مؤونة تسليم الثمن أي "كلفته" على المشتري، ومؤونة تسليم المبيع على البائع.
      5- البيع مع عدم تسمية الثمن فاسد، أما مع عدم تسمية المبيع نحو : بعتك بعشرة دنانير، فباطل غير منعقد.
      6- هلاك المبيع بعد التقايض يمنع إقالة البيع، ولا يمنع ذلك هلاك الثمن.
      7- هلاك المبيع قبل التسليم مبطل للبيع، ولا يبطله هلاك الثمن.
      8- لا يجوز تصرف المشتري في المبيع المنقول قبل قبضه، ويصح تصرف البائع في الثمن قبل قبضه.
      9- على المشتري تسليم الثمن أولاً ليحق له استلام المبيع، ما لم يرض البائع ونفصل الكلام في الثلاثة الأخيرة.

      حكم هلاك المبيع، وهلاك الثمن وكساده :
      هلاك المبيع :
      المبيع إما أن يهلك كله أو بعضه قبل القبض أو بعده.
     
      آ- إذا هلك المبيع كله قبل القبض :
      1- فإذا هلك بآفة سماوية أو بفعل المبيع نفسه، أو بفعل البائع، فينفسخ عقد البيع.
      2- إذا هلك بفعل المشتري، فلا ينفسخ البيع وعليه الثمن.
      3- إذا هلك بفعل أجنبي، لا ينفسخ البيع، ويكون المشتري بالخيار : إن شاء فسخ البيع، وإن شاء أمضاه ودفع الثمن، وطالب الأجنبي بالضمان.
     
      ب- إذا هلك المبيع كله بعد القبض :
      1- إن كان بآفة سماوية أو بفعل المشتري أو بفعل المبيع أو بفعل أجنبي فلا ينفسخ البيع، ويكون هلاكه على ضمان المشتري، لأن المبيع خرج عن ضمان البائع بقبض المشتري، فتقرر الثمن عليه، ويرجع بالضمان على الأجنبي حال كون الأعتداء منه.
      2- إذا هلك بفعل البائع فينظر في حالتين :
      أولاً- إذا كان المشتري قد قبضه بإذن البائع أو بدون إذنه، لكنه قد نقد الثمن، أو كان الثمن مؤجلاً، فيكون هلاكه من قبل البائع، كهلاكه من قبل الأجنبي، فعليه ضمانه.
      ثانياً- أما إذا كان المشتري قد قبض المبيع بدون إذن البائع، والثمن حالّ غير منقود "أي غير معطى إلى البائع" فيتوجب فسخ البيع، ويكون البائع باعتدائه مسترداً للمبيع، وعليه ضمانه.
      وقال المالكية : الضمان ينتقل إلى المشتري بنفس العقد في كل بيع إلا في خمسة مواضع :
      الأول- بيع الغائب على الصفة.
      الثاني- ما بيع على الخيار.
      الثالث- ما بيع من الثمار قبل كمال طيبها.
      الرابع- ما فيه حق توفية من كيل أو وزن أو عدّ.
      الخامس- البيع الفاسد، فالضمان في هذه الخمسة من البائع حتى يقبضه المشتري.
      وقال الشافعية : كل مبيع من ضمان البائع حتى يقبضه المشتري.
      وقال الحنابلة : إذا كان المبيع مكيلاً أو موزوناً أو معدوداً فتلف قبل قبضه، فهو من مال البائع، وما عداه فلا يحتاج فيه إلى قبض، وإن تلف فهو من مال المشتري.

      ج- إذا هلك بعض المبيع قبل القبض ينظر عند الحنفية :
      1- فإن كان بآفة سماوية ففيه تفصيل : إن كان النقصان نقصان قدر بأن كان مكيلاً أو موزوناً أو معدوداً، فهلك بعضه : ينفسخ العقد بقدر الهالك، وتسقط حصته من الثمن، ثم يكون المشتري بالخيار في الباقي لتفرق الصفقة عليه : إن شاء أخذه بحصته، وإن شاء فسخ البيع.
      وإن كان النقصان نقصان وصف "وهو كل ما يدخل في البيع من غير تسمية كالشجر والبناء في الأرض والجودة في المكيل والموزون" فلا ينفسخ البيع أصلاً، ولا يسقط عن المشتري شيء من الثمن، لأن الأوصاف لا حصة لها من الثمن، ويكون المشتري بالخيار : إن شاء أخذه بجميع الثمن، وإن شاء تركه لتعيب المبيع.
      2- وإن كان الهلاك بفعل المبيع نفسه كحيوان جرح نفسه، فلا ينفسخ البيع، ولا يسقط شيء من الثمن، والمشتري بالخيار : إن شاء أخذ الباقي بجميع الثمن، وإن شاء فسخ العقد.
      3- وإن كان الهلاك بفعل البائع فيبطل البيع بقدره، ويسقط عن المشتري حصة الهالك من الثمن، سواء أكان النقصان نقصان قدر، أم نقصان وصف، لأن الأوصاف لها حصة من الثمن عند ورود الجناية عليها، والمشتري بالخيار في الباقي بحصته من الثمن.
      4- وإن كان الهلاك بفعل المشتري فلا يبطل البيع، ولا يسقط عنه شيء من الثمن، لأنه صار قابضاً لكل المبيع بإتلاف بعضه.
     
      د- إذا هلك بعض المبيع بعد القبض :
      1- فإن كان الهلاك بآفة سماوية أو بفعل المشتري أو المبيع نفسه أو بفعل أجنبي، فالهلاك على المشتري.
      2- وإن كان بفعل البائع ينظر :
      إذا كان القبض بإذنه، أو كان الثمن منقوداً أو مؤجلاً، فحكمه كالأجنبي. وإن كان القبض بغير إذنه، والثمن حال غير منقود، ينفسخ البيع في قدر الشيء التالف، ويسقط عن المشتري حصته.

      هلاك الثمن عند الحنفية :
      إذا هلك الثمن في مجلس العقد قبل القبض :
      فإن كان عيناً مثلياً : لا ينفسخ العقد، لأنه يمكن تسليم مثله بخلاف المبيع لأنه عين، وللناس أغراض في الأعيان.

      كساد الثمن عند الحنفية : إذا اشترى شخص بفلوس رائجة، ثم كسدت قبل القبض بضرب فلوس جديدة، انفسخ العقد عند أبي حنيفة، وعلى المشتري رد المبيع إن كان قائماً، وقيمته أو مثله إن كان هالكاً؛ لأن الفلوس بالكساد خرجت عن كونها ثمناً، ولا بيع بلا ثمن، فينفسخ البيع ضرورة، فهو قد اعتبر الكساد كالهلاك.
      وقال بعض الحنفية : لا ينفسخ البيع، ولكن يخير البائع : إن شاء فسخ البيع، وإن شاء أخذ قيمة الفلوس؛ لأن الفلوس ثابتة في الذمة، وما يثبت في الذمة لا يحتمل الهلاك، فلا يكون الكساد هلاكاً، بل يكون عيباً فيها، فيوجب الخيار للبائع، كما إذا كان الثمن رطباً، فانقطع قبل القبض، فهما اعتبرا الكساد كالعيب.
      واتفقوا على أنه لو لم تكسد الفلوس، ولكنها رخصت قيمتها، أو غلت، لا ينفسخ البيع؛ لأن الرخص أو الغلاء لا يوجب بطلان الثمنية.

      التصرف في المبيع وفي الثمن قبل القبض
      التصرف في المبيع :
      قال الحنفية : لا يجوز التصرف في المبيع المنقول قبل القبض بلا خلاف، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع ما لم يقبض والنهي يوجب فساد المنهي عنه، ولأنه بيع فيه غرر لتعرضه إلى الانفساخ بهلاك المعقود عليه، فيبطل البيع الأول، وينفسخ الثاني، وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن بيع فيه غرر.
      وأما العقار : فيجوز التصرف فيه عند أبي حنيفة ولا غرر في العقار، إذ لا يتوهم هلاك العقار، ويندر هلاكه في الغالب، فلا يكون في بيعه غرر.
      وقال الشافعي : لا يجوز بيع العقار قبل القبض لعموم النهي عن البيع قبل القبض، ولعدم وجود القدرة على التسليم، ولتحقق الغرر.

      التصرف في الثمن قبل القبض :
      يجوز التصرف في الأثمان قبل القبض، لأنها ديون، وكذلك يجوز التصرف في سائر الديون كالمهر والأجرة وضمان المتلفات وغيرها قبل القبض، بدليل ما روي عن سيدنا عمر أنه قال : "يا رسول الله : إنا نبيع الإبل بالبقيع، ونأخذ مكان الدراهم الدنانير، ومكان الدنانير الدراهم، فقال عليه السلام : لا بأس إذا كان بسعر يومهما، وافترقتما وليس بينكما شيء" رواه أبو داود والترمذي. فهذا يدل على جواز استبدال ثمن المبيع. وأما المراد من حيث "النهي عما لا يقبض" فهو بالنسبة للعين، لا بالنسبة للدين؛ لأن المبيع شيء يحتمل القبض، والدين لا يحتمل القبض حقيقة، لأنه مال حكمي في الذمة، فيكون قبضة بقبض بدله.
      وقد استثنوا من جواز التصرف في الثمن قبل القبض عقدي الصرف والسلم. أما الصرف : فلأن كلاً من بدلي الصرف مبيع من وجه وثمن من وجه، فباعتبار كونه مبيعاً لا يجوز التصرف فيه.
      وأما السلم : فالمسلم فيه لا يجوز التصرف فيه لأن مبيع، ورأس المال "أي الثمن" ألحق بالمبيع العين في حرمة الاستبدال شرعاً.

      تسليم المبيع والثمن :
      إن تسليم المبيع إلى المشتري هو من التزامات البائع الناشئة من عقد البيع، كما أن تسليم الثمن إلى البائع هو من التزامات المشتري الناشئة من البيع أيضاً؛ لأن تسليم البدلين واجب على العاقدين، لتحقق الملك لكا منهما في البدلين.
      فمن الذي يجب عليه التسليم أولاً، وهل للبائع حق حبس المبيع حتى يستوفي جميع الثمن، وكيف يتم التسليم أو القبض ؟

      أما من يجب عليه التسليم أولاً : فيختلف بحسب نوع البدلين :
      فإذا كان بيع عين بعين، فإنه يجب على العاقدين التسليم معاً، تحقيقاً للمساواة في المعاوضة المقتضية للمساواة عادة المطلوبة بين العاقدين، إذ ليس أحدهما بالتقديم أولى من الآخر.
      وكذلك إن تبايعا ديناً بدين، كما في عقد الصرف.
      وأما إن كان بيع عين بدين فيراعى فيه الترتيب عند الحنفية : فيجب على المشتري تسليم الثمن "أي الدين" أولاً إذا طالبه البائع حتى يتعين، ولقوله عليه السلام : "الدين مقضي" فلو تأخر تسليم الثمن عن تسليم المبيع لم يكن هذا الدين مقضياً. ثم يجب على البائع تسليم المبيع، إذا طالبه المشتري، حتى يتحقق التساوي بينهما. واستثنوا من ذلك أمرين أولهما -المسلم فيه، لأنه دين مؤجل، والثاني -الثمن المؤجل فلو كان الثمن مؤجلاً، يجب تسليم المبيع للحال، لأن البائع أسقط حق نفسه في التأجيل.
      وقال المالكية كالحنفية : يجب على المشتري تسليم الثمن، وعلى البائع تسليم المبيع (المثمون)، فإن قال أحدهما : لا أسلم بيدي حتى أقبض ما عاوضت عليه، أجبر المشتري على تسليم الثمن، ثم أخذ المبيع من البائع. وقال مالك : للبائع أن يتمسك بالمبيع حتى يقبض الثمن. ودليل المالكية والحنفية : أن للبائع حبس المبيع على تسليم الثمن، ومن استحق ذلك لم يكن عليه التسليم قبل الاستيفاء كالمرتهن.
      وقال الشافعية والحنابلة : إن اختلف في التسليم، وكان الثمن في الذمة، فقال البائع : لا أسلم المبيع حتى أقبض ثمنه، وقال المشتري في الثمن مثله، أجبر البائع على تسليم المبيع، ثم أجبر المشتري على تسليم الثمن؛ لأن حق المشتري في عين المبيع، وحق البائع في الذمة، فيقدم ما يتعلق بالعين، فمن سلم أجبر صاحبه على التسليم؛ لأن كلاً منهما ثبت له إيفاء واستيفاء، ولا سبيل إلى تكليف الإيفاء. لكن قيد الشافعية هذا الحكم بما إذا لم يخف البائع فوت الثمن، وتنازع البائع والمشتري في مجرد الابتداء، فإن خاف البائع فوت الثمن فله حق حبس المبيع حتى يقبض الثمن. وكذا للمشتري حق حبس الثمن إن خاف فوت المبيع.

      حق حبس المبيع :
      يترتب على ما سبق من التزام المشتري بدفع الثمن أولاً : أنه يثبت للبائع حق حبس المبيع عن المشتري إلى أن يستوفي ما وجب تعجيله، سواء أكان كل الثمن أم بعضه.
      وشرط ثبوت حق الحبس شيئان :
      1- أن يكون أحد البدلين عيناً والآخر ديناً، مثل بيع سلعة بدراهم، أو دنانير، فإن كانا عينين أو دينيد فلا يثبت حق الحبس، بل يسلمان معاً.
      2- أن يكون الثمن حالاً، فإن كان مؤجلاً، فلا يثبت حق الحبس، لأنه سقط بالتأجيل.
      وعلى هذا : فلو أجل الثمن إلا درهما، كان للبائع حبس كل المبيع، لأن حق الحبس مما لا يتجزأ، وكذا لو استوفى جميع الثمن إلا درهماً، أو أبرأ المشتري عن جميع الثمن إلا درهماً.
      وقال الإمام مالك : للبائع أن يتمسك بالمبيع حتى يقبض الثمن.
      وقال الحنابلة : ليس للبائع حبس المبيع على قبض الثمن؛ لأن التسليم من مقتضيات العقد، فإن اختلف العاقدان في التسليم، فقال البائع : لا أسلم المبيع حتى أقبض الثمن، وقال المشتري : لا أسلم الثمن حتى أقبض المبيع، والثمن في الذمة، أجبر البائع على تسليم المبيع، ثم أجبر المشتري على تسليم الثمن.
      وقال الشافعية : للبائع حبس المبيع حتى يقبض الثمن إن خاف فوته، وكذا للمشتري حبس الثمن إن خاف فوت المبيع.

      ما يسقط حق الحبس وما لا يسقطه :
      لو قدم المشتري رهناً أو كفيلاً بالثمن لا يسقط حق الحبس، لأن الرهن والكفالة لا يسقطان الثمن عن ذمة المشتري، ولا حق المطالبة به، فيبقى حق الحبس لاستيفاء الثمن، وكل ما في الأمر أن الرهن والكفالة وثيقة بالثمن.
      وأما الحوالة بالثمن فتسقط حق الحبس عند أبي يوسف سواء أحال البائع رجلاً على المشتري بالثمن وقبل، أم أحال المشتري البائع على رجل؛ لأن البائع حينئذ في حكم المستوفى، لأن حق الحبس مرتبط ببقاء الدين في ذمة المشتري، وذمته برئت من دين المحيل بالحوالة فيبطل حق الحبس، ولذا ينقطع حقه في مطالبة المشتري بالثمن، وينحصر حق المطالبة بالشخص المحال عليه.
      وقال الحنفية : إن كانت الحوالة من المشتري لا تبطل حق الحبس، وللبائع أن يحبس المبيع حتى يستوفي من المحال عليه. وإن كانت من البائع : فإن كانت الحوالة مطلقة لا تبطل حق الحبس أيضاً، وإن كانت مقيدة بأن أحال غريماً له على المشتري ليقبض الدين الذي له عليه، تبطل الحوالة حق الحبس، دليله : أن حق البائع بمطالبة المشتري بأداء الثمن لم يبطل بحوالة المشتري، أو بحوالته المطلقة، فلم يبطل حق الحبس، وأما في الحوالة المقيدة فيبطل حق المطالبة من البائع للمشتري بهذه الحوالة، فيسقط حق الحبس.
      ولو أعار البائع المبيع للمشتري أو أودعه عنده، سقط حق الحبس، حتى لا يملك استرداده في ظاهر الرواية، لأن الإِعارة والإِيداع أمانة في يد المشتري، وهو لا يصلح نائباً عن البائع في وضع يده لأنه أصل في ملك الشيء، فكان أصلاً في وضع اليد، فإذا ثبتت يد المشتري على المبيع، كانت يده يد ملك، ويد الملك لازمة، فلا يملك أحد إبطالها بالاسترداد.
      ولو أودع المشتري المبيع عند البائع أو أعاره منه أو آجره، لم يسقط حق الحبس، لأن هذه التصرفات لم تصح من المشتري، لأن يد الحبس بطريق الأصالة ثابتة للبائع، فلا يصح أن يصير نائباً عن غيره.
      ولو قبض المشتري المبيع بإذن البائع، سقط حق الحبس، حتى لا يملك البائع الاسترداد، لأنه أبطل حقه بالإذن بالقبض.
      ولو قبض المشتري المبيع بغير إذن البائع بعد وفاء الثمن، سقط حق الحبس، فليس له استرداده، لأنه استوفى حقه بايفاء الثمن، فيكون قبضاً بحق.
      أما لو قبض المشتري المبيع بغير إذن البائع قبل وفاء الثمن، فلا يسقط حق الحبس، وللبائع استرداده، لأن له حق الحبس، حتى يستوفي الثمن، وحق الإنسان لا يجوز إبطاله عليه من غير رضاه.
     
      معنى التسليم أو القبض وكيفية تحققه :
      التسليم أو القبض معناه عند الحنفية : هو التخلية أو التخلي، وهو أن يخلي البائع بين المبيع وبين المشتري، برفع الحائل بينهما، على وجه يتمكن المشتري من التصرف فيه، فيجعل البائع مسلماً للمبيع، والمشتري قابضاً له.
      وكذلك تسليم الثمن من المشتري إلى البائع.
      والقبض يتم بطرق :
      1- التخلية : وهي أن يتمكن المشتري من المبيع بلا مانع "أي أن يكون مفرزاً" ولا حائل "أي في حضرة البائع" مع الإذن له بالقبض، فلو اشترى انسان حنطة في بيت، ودفع البائع المفتاح إليه، وقال : خليت بينك وبينها "أي أذنت" فهو قبض. وإن دفع المفتاح إليه، ولم يقل شيئاً لا يكون قبضاً، وتسليم الدار أو الأرض يتم بأن يقف المشتري في داخلها أو قريباً منها بحيث يرى جانب الأرض أو يقدر على إغلاق باب الدار فوراً، فإن كان بعيداً عنها بغير هذه الحالة، لم يكن قبضاً. وعلى هذا فإن القبض عند الحنفية يكون بالتخلية، سواء أكان المبيع عقاراً أم منقولاً إلا المكيل والموزون فإن قبضه يكون باستيفاء قدره أي بكيله أو وزنه.
      وقال المالكية والشافعية : قبض العقار كالأرض والبناء ونحوهما يكون بالتخلية بين المبيع وبين المشتري وتمكينه من التصرف فيه بتسليم المفاتيح إن وجدت. وقبض المنقول كالأمتعة والأنعام والدواب بحسب العرف الجاري بين الناس.
      وقال الحنابلة : قبض كل شيء بحسبه، فإن كان مكيلاً أو موزوناً فقبضه بكيله ووزنه أي أنه يجب الرجوع في القبض إلى العرف.
     
      2- الإتلاف : فلو أتلف المشتري المبيع في يد البائع صار قابضاً للمبيع، وتقرر عليه الثمن، لأن التخلية تمكين من التصرف في المبيع والإتلاف تصرف فيه حقيقة.
      والتعييب مثل الإتلاف : وهو أن يحدث المشتري في المبيع عيباً، كأن يقطع يده أو يشج رأسه، أو أن ينقص منه شيئاً.
      وكذا لو أمر المشتري البائع بالإتلاف ففعل، أو أمره بطحن الحنطة فطحن، لأن فعل البائع بأمر المشتري بمنزلة فعل المشتري بنفسه.
     
      3- ايداع المبيع عند المشتري أو إعارته منه : لو أودع البائع المبيع عند المشتري أو أعاره منه، يصير المشتري بذلك قابضاً، لأن الايداع والإعارة للمالك لا يصح، كما أسلفنا قريباً.
      وكذا لو أودع المشتري المبيع عند أجنبي أو أعاره، وطلب من البائع تسليمه إليه، يصير قابضاً، لأن الإعارة والايداع عند آخر عمل صحيح، فقد أثبت يد النيابة لغيره، ويد أمينة كيده، فصار قابضاً.
      أما لو أودع المشتري من البائع أو أعاره له أو آجره، لم يكن ذلك قبضاً، لأن هذه التصرفات لم تصح من المشتري، لأن يد الحبس بطريق الأصالة ثابتة للبائع، فلا يتصور إثبات يد النيابة له.
      4- القبض السابق : كل ما سبق فيما إذا كان المبيع في يد البائع، فإن كان في يد المشتري بقبض سابق، ثم باعه المالك له، فهل يعتبر قابضاً بمجرد الشراء أو لا بد من تجديد القبض ليتم التسليم ؟ فيه تفصيل :
      لقد قسم الفقهاء القبض من حيث قوة أثره وضعفه إلى قسمين : قبض الضمان وقبض الأمانة.
     
      فقبض الضمان : هو ما كان فيه القابض مسؤولاً عن المقبوض تجاه الغير، فيضمنه، إذا هلك عنده، ولو بآفة سماوية، كالمغصوب في يد الغاصب، والمبيع في يد المشتري.
     
      وقبض الأمانة : هو ما كان فيه القابض غير مسؤول عن المقبوض إلا بالتعدي، أو التقصير في الحفظ كالوديعة أو العارية أو المأجور أو مال الشركة في يد الوديع، أو المستعير، أو المستأجر، أو الشريك.
      وقد اعتبروا قبض الضمان أقوى من قبض الأمانة بسبب الضمان المترتب.
      والمبدأ العام : أن القبض السابق ينوب عن القبض اللازم في البيع إذا كانا متجانسين في الضمان وعدمه، أو كان السابق أقوى بخلاف ما إذا كان أضعف. فقبض الضمان ينوب عن قبض الأمانة وعن قبض الضمان، وأما قبض الأمانة فلا ينوب إلا عن قبض الأمانة فقط، ولا ينوب عن قبض الضمان، لأن الأدنى لا يغني عن الأعلى.

      فالبيع الصحيح : هو ما كان مشروعاً بأصله ووصفه ولم يتعلق به حق الغير، ولا خيار فيه، وحكمه : أنه يثبت أثره في الحال. فالبيع الصحيح يثبت أثره وهو تبادل الملكية في العوضين، فيثبت ملك المبيع للمشتري، وملك الثمن للبائع فور انتهاء الايجاب والقبول إذا لم يكن في البيع خيار.

      والبيع الباطل : هو ما اختل ركنه أو محله، أو هو مالا يكون مشروعاً بأصله ولا بوصفه، أي أن يكون العاقد ليس أهلاً للعقد، أو أن يكون محل العقد ليس قابلاً له. وحكمه : أنه لا يعتبر منعقداً فعلاً، وإن وجدت صورته في الخارج فلا يفيد الملك أصلاً، مثل عقد الطفل أو المجنون أو بيع ما ليس بمال كالميتة، أو ما ليس بمتقوم كالخمر والخنزير.
      وإذا كان البيع الباطل لا يفيد الملك بالقبض، فلو هلك المبيع في يد المشتري فيطبق عليه حكم هلاك الأمانات، لأن العقد غير معتبر فبقي القبض بإذن المالك. قيل : وهو قول أبي حنيفة. وعند البعض : يكون مضموناً لأنه لا يكون أدنى حالاً من المقبوض على سوم الشراء. قيل : وهو قول الصاحبين. وأما الثمن المقبوض ببيع باطل فالصحيح أنه مضمون كالمقبوض ببيع فاسد.

      والبيع الفاسد : هو ما كان مشروعاً بأصله دون وصفه أي أن يصدر من أهل له في محل قابل للبيع، ولكن عرض له أمر أو وصف غير مشروع. مثل بيع المجهول جهالة تؤدي للنزاع كبيع دار من الدور أو سيارة من السيارات المملوكة لشخص، دون تعيين، وكإِبرام صفقتين في صفقة كبيع دار على أن يبيعه سيارته مثلاً. وحكمه : أنه يثبت فيه الملك بالقبض بإِذن المالك صراحة أو دلالة، كأن يقبضه في مجلس العقد أمام البائع دون أن يعترض عليه، خلافاً لجمهور الفقهاء الذين يقررون أنه لا يفيد الملك أصلاً كالبيع الباطل.

      المطلب الأول- أنواع البيع الباطل :
      نذكر من أنواع البيع الباطل ما يأتي :
     
      1- بيع المعدوم :
      اتفق أئمة المذاهب على أنه لا ينعقد بيع المعدوم وماله خطر العدم، كبيع نتاج النتاج بأن قال: بعت ولد ولد هذه الناقة، وبيع الحمل الموجود لأنه على خطر الوجود، وبيع الثمر والزرع قبل ظهوره لأن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن بيع حبل الحبلة" متفق عليه أي نتاج النتاج. ونهى أيضاً عن بيع المضامين والملاقيح (والمضامين : ما في أصلاب الذكور، والملاقيح : ما في بطون الإِناث) ونهى كذلك عن بيع الثمر قبل بدو صلاحه، كما سيأتي.
      ومن الملحق بالمعدوم : بيع لؤلؤ في صدف، وبيع اللبن في الضرع وبيع الصوف على ظهر الغنم، ومثله بيع الكتاب قبل طبعه، فإن بيع ذلك لا يجوز عند جمهور الفقهاء، لأن محل العقد غير موجود بالتأكيد، ولما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تباع ثمرة حتى تطعم، ولا يباع صوف على ظهر ولا لبن في ضرع" رواه الطبراني ولأن بيع اللبن في الضرع مجهول الصفة والمقدار. وجهالة مقداره، لأنه قد يرى امتلاء الضرع من السمن، فيظن أنه من اللبن. وجهالة الصفة : لأنه قد يكون اللبن صافياً، وقد يكون كدراً فأشبه الحمل، لأنه بيع عين لم تخلق، فلم يجز كبيع ما تحمل الناقة، والعادة في ذلك تختلف. وفيه علة أخرى وهي : أنه معجوز التسليم، لأن اللبن لا يجتمع في الضرع دفعة واحدة، بل شيئاً فشيئاً، فيختلط المبيع بغيره على وجه يتعذر التمييز بينهما.     
وأما لبن الظئر (أي المرضع) فيجوز للحضانة، للحاجة.
      وأما بطلان بيع الصوف على ظهر الغنم، فلأنه يقع الاختلاف في موضع القطع من الحيوان، فيقع الإِضرار به فكان مشتملاً على الغرر، وفيه علة أخرى وهي : أنه معجوز التسليم، لأن الصوف ينمو ساعة فساعة، فيختلط الموجود عند العقد بالحادث بعده على وجه لا يمكن التمييز بينهما.
      وخالف الإِمام مالك في الحالتين، فقال : يجوز بيع اللبن في الضرع في الغنم السائمة التي لا يختلف لبنها، لا في الشاة الواحدة، أياماً معلومة، إذا عرف قدر حلابها، لسقي الصبي، كلبن الظئر، لتسامح غالب الناس به أياماً معلومة غالباً، بل رأينا من يسامح بلبن بقرته الشهر وأكثر بطريق الإِباحة أو الهبة. وقال أيضاً : يصح بيع الصوف على ظهر الغنم، لأنه مشاهد يمكن تسليمه.
      وهناك رواية عند الحنابلة تقرر مثل هذا الحكم وهو أنه يجوز بيع الصوف على ظهر الغنم، بشرط جزّه في الحال، لأنه معلوم يمكن تسليمه.

      رأي بعض الحنابلة في بيع المعدوم : أجاز بعض الحنابلة بيع المعدوم عند العقد إذا كان محقق الوجود في المستقبل بحسب العادة، لأنه لم يثبت النهي عن بيع المعدوم لا في الكتاب ولا في السنة ولا في كلام الصحابة، وإنما ورد في السنة النهي عن بيع الغرر، وهو ما لا يقدر على تسليمه، سواء أكان موجوداً أم معدوماً كبيع الفرس النافر والجمل الشارد، فليست العلة في المنع لا العدم لا الوجود.
      بل إن الشرع صحح بيع المعدوم في بعض المواضع، فإنه أجاز بيع الثمر بعد بدء صلاحه، والحب بعد اشتداده، ومعلوم أن العقد إنما ورد على الموجود والمعدوم الذي لم يخلق بعد. وعلى هذا فبيع المعدوم إذا كان مجهول الوجود في المستقبل باطل للغرر لا للعدم، فالأصل إذاً هو الغرر.
     
      2- بيع معجوز التسليم :
      يرى جمهور الحنفية أنه لا ينعقد بيع معجوز التسليم عند العقد، ولو كان مملوكاً، كالطير الذي طار من يد صاحبه، أو العبد الآبق (الفارّ) واللقطة، ويكون البيع باطلاً، حتى لو ظهر الآبق ونحوه يحتاج إلى تجديد الايجاب والقبول، إلا إذا تراضيا حينئذ، فيكون بيعاً مبتدءاً بالتعاطي.

      ولو قدر على التسليم في المجلس لا يعود جائزاً، لأنه وقع باطلاً وقال بعض الحنفية أنه يعود جائزاً.
      فإن كان الطائر يذهب ويعود كالحمام الأهلي، ففي ظاهر الرواية : لا يجوز أيضاً بيعه لعدم القدرة على التسليم في الحال، وقال بعض الحنفية : إن كان الطائر داجناً يعود إلى بيته ويقدر على أخذه بلا تكلف جاز بيعه، وإلا فلا.
      وكذا يبطل العقد إذا جعل معجوز التسليم ثمناً، لأن الثمن إذا كان عيناً، فهو مبيع في حق صاحبه.
      وقال المالكية : لا ينعقد بيع البعير الشارد والبقرة المتوحشة والمغصوب إلا أن يبيعه من غاصبه.
      وقال الشافعية والحنابلة : لا يجوز (أي لا ينعقد) بيع مالا يقدر على تسليمه كالطير في الهواء أو السمك في الماء والجمل الشارد، والفرس العائر (أي الهائم على وجهه) والمال المغصوب في يد الغاصب، ومثله بيع الدار أو الأرض تحت يد العدو لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر رواه مسلم، وهذا غرر. وعن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا تشتروا السمك في الماء فإنه غرر" رواه أحمد، فقد علل النهي عن بيع السمك بأنه غرر، فدل على أن الغرر : ما لا يقدر على تسليمه. والمراد بالماء الذي لا يجوز بيع السمك فيه هو الماء غير المحصور كماء البحر والنهر، فإن كان الماء محصوراً كماء البركة فقال الحنفية والشافعية والحنابلة في الجملة : يجوز بيع السمك فيه إذا كان يمكن أخذه بدون اصطياد وحيلة. ولكن للمشتري خيار الرؤية عند الحنفية. ومنع المالكية بيع السمك في الغدير أو البركة.

      والخلاصة : أن المذاهب الأربعة متفقة على بطلان بيع ما لا يقدر على تسليمه، مع الخلاف في بعض القيود أحياناً 
بيع الدين :
      الدين : كثمن مبيع، وبدل قرض، ومهر بعد دخول بالمرأة أو قبل الدخول بها، وأجرة مقابل منفعة، وأرش جناية، وغرامة متلف، وعوض خلع، ومسلم فيه. وبيع الدين : إما أن يكون لمن في ذمته الدين، أو لغير من عليه الدين. وفي كل من الحالين إما أن يباع الدين نقداً في الحال، أو نسيئه مؤجلاً.

      وبيع الدين نسيئة : هو ما يعرف ببيع الكالئ أي الدين بالدين وهو بيع ممنوع شرعاً لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ، وقد قيل : أجمع الناس على أنه لا يجوز بيع دين بدين، وذلك سواء أكان البيع للمدين، أم لغير المدين.
      مثال الأول وهو بيع الدين للمدين : أن يقول شخص لآخر اشتريت منك مداً من الحنطة بدينار على أن يتم تسليم العوضين بعد شهر مثلاً. أو أن يشتري شخص شيئاً إلى أجل، فإذا حل الأجل، لم يجد البائع ما يقضي به دينه، فيقول للمشتري : بعني هذا الشيء إلى أجل آخر بزيادة شيء فيبيعه ولا يجري بينهما تقابض. فيكون هذا رباً حراماً تطبيقاً لقاعدة : "زدني في الأجل، وأزيدك في القدر".
      ومثال بيع الدين لغير المدين : أن يقول رجل لغيره : بعتك العشرين مداً من القمح التي لي عند فلان بكذا تدفعها لي بعد شهر.
     
      وبيع الدين نقداً في الحال :
      أولاً- بيع الدين للمدين : أجاز أئمة المذاهب الأربعة بيع الدين لمن عليه الدين أو هبته له، لأن المانع من صحة بيع الدين بالدين هو العجز عن التسليم، ولا حاجة إلى التسليم ههنا، فما في ذمة المدين مسلم له. ومثاله : أن يبيع الدائن للمدين ديناً له في ذمته بدين آخر من غير جنسه، فيسقط الدين المبيع، ويجب عوضه.
     
      ثانياً- بيع الدين لغير المدين : قال الحنفية بما أنه لا يجوز بيع معجوز التسليم، فلا ينعقد بيع الدين من غير من عليه الدين، لأن الدين غير مقدور التسليم إلا للمدين نفسه في حق البائع، لأن الدين عبارة عن مال حكمي في الذمة، أو عبارة عن فعل تمليك المال وتسليمه، وكل ذلك غير مقدور التسليم من البائع. ولو شرط التسليم على المدين لا يصح البيع أيضاً، لأن البائع شرط التسليم على غيره، فيكون شرطاً فاسداً، فيفسد البيع.
      وقال الشافعية : يجوز بيع الدين المستقر للمدين ولغير المدين قبل القبض، لأن الظاهر القدرة على التسليم من غير منع ولا جحود، ومثال الدين المستقر : قيمة المتلفات، والمال الموجود عند المقترض.
      وأما إن كان الدين غير مستقر : فإن كان مسلماً فيه في عقد السلم، فلا يجوز التصرف فيه قبل قبضه، لعموم النهي عن بيع مالم يقبض، ولأن الملك في المسلم فيه غير مستقر، لأنه ربما تعذر تسليمه لفقدانه، فانفسخ البيع فيه.
      وإن كان الدين ثمناً ففي قول للشافعي : يجوز التصرف فيه قبل قبضه لخبر ابن عمر في هذا الشأن عن الرسول صلى الله عليه وسلم : "لا بأس مالم تتفرقا، وبينكما شيء" رواه الترمذي ولأنه لا يخشى انفساخ العقد فيه بالهلاك، فصار ذلك مثل المبيع بعد القبض.
      وقال الحنابلة : يصح في الصحيح من المذهب بيع الدين المستقر للمدين كبدل قرض ومهر بعد الدخول. ولا يصح بيع الدين لغير المدين، كما لا تصح هبة الدين لغير من هو في ذمته، لأن الهبة تقتضي وجود معين، وهو منتفٍ هنا. كما لا يصح بيع الدين غير المستقر كأجرة عقار قبل مضي مدة الإِيجار، ومهر قبل دخول بالمرأة، ومسلم فيه قبل القبض.
      وقال المالكية : يجوز بيع الدين لغير المدين بشروط ثمانية تبعده عن الغرر والربا وأي محظور آخر كبيع الشيء قبل قبضه، وتتلخص هذه الشروط هنا في شرطين هما :
      1- ألا يؤدي البيع إلى محظور شرعي كالربا والغرر ونحوهما : فلا بد من أن يكون الدين مما يجوز بيعه قبل قبضه، كأن يكون من قرض ونحوه ويكون الدين المبيع غير طعام، وأن يباع بثمن مقبوض أي معجل لئلا يكون ديناً بدين، وأن يكون الثمن من غير جنس الدين المبيع أو من جنسه مع التساوي بينهما حذراً من الوقوع في الربا، وألا يكون الثمن ذهباً إذا كان الدين فضة، حتى لا يؤدي ذلك إلى بيع النقد بالنقد نسيئة من غير مناجزة، فهذه أربعة شروط في شرط.
      2- أن يغلب على الظن الحصول على الدين بأن يكون المدين حاضراً في بلد العقد، ليعلم حاله من عسر أو يسر، وأن يكون المدين مقراً بالدين، حتى لا ينكره بعدئذ، فلا يجوز بيع حق متنازع فيه وأن يكون أهلاً للالتزام بالدين بألا يكون قاصراً ولا محجوراً عليه مثلاً ليكون الدين مقدور التسليم، وألا يكون بين المشتري وبين المدين عداوة حتى لا يتضرر المشتري أو حتى لا يكون في البيع إعنات للمدين بتمكين خصمه منه.
      فهذه أربعة شروط أخرى في شرط. ويظهر لنا أن مذهب المالكية هو الراجح بين المذاهب.
      خصم الكمبيالة : ذكر الحنفية أن بيع أوراق الكمبيالة المتعارف في زماننا إلى غير الغريم (المدين) أو لمن عليه أموال أميرية بأنقص من الحق غير صحيح.
     
      3- بيع الغرر :
      الغرر في اللغة : الخطر، والتغرير : التعريض للهلاك، وأصل الغرر لغة : هو ماله ظاهر محبوب، وباطن مكروه. ولذلك سميت الدنيا متاعالغرور.

      الغرر في اصطلاح الفقهاء : بيع الغرر : هو البيع الذي يتضمن خطراً يلحق أحد المتعاقدين، فيؤدي إلى ضياع ماله. أو هو بيع الأشياء الاحتمالية غير المحققة الوجود أو الحدود، لما فيه من مغامرة وتغرير يجعله أشبه بالقمار. والغرر الذي يبطل البيع : هو غرر الوجود : وهو كل ما كان المبيع محتملاً للوجود والعدم. وأما غرر الوصف فمفسد للبيع.
      إذاً : الغرر هو الخطر بمعنى أن وجوده غير متحقق، فقد يوجد وقد لا يوجد. وبيع الغرر : بيع ما لا يعلم وجوده وعدمه، أو لا تعلم قلته وكثرته، أو لا يقدر على تسليمه.
     
      حكم بيع الغرر : قد اتفق الفقهاء على عدم صحة بيع الغرر، مثل بيع اللبن في الضرع، والصوف على الظهر، واللؤلؤ في الصدف، والحمل في البطن، والسمك في الماء، والطير في الهواء قبل صيدهما، وبيع مال الغير على أن يشتريه فيسلمه، أي بيع ما سيملكه قبل ملكه له، لأن البائع باع ما ليس بمملوك له في الحال، سواء أكان السمك في البحر، أو في النهر، أو في حظيرة لا يؤخذ منها إلا باصطياد، وسواء أكان الغرر في المبيع أو في الثمن.
      ومن البيوع غير الصحيحة بسبب الغرر : بيع المضامين والملاقيح، وبيع الملامسة والمنابذة والحصاة، وبيع ضربة القانص (بأن يقول البائع : بعتك ما يخرج من إلقاء هذه الشبكة مرة بكذا) وضربة الغائص (بأن يقول : أغوص غوصة، فما أخرجته من اللآلئ، فهو لك بكذا) فالمبيع في الأنواع الخمسة الأخيرة مجهول الذات أو المقدار، وقد ثبت النهي عنها، وهي من بيوع الجاهلية.
      ومنها بيع المزابنة : وهو بيع الرطب أو العنب على النخل أو الكرمة بتمر مقطوع، أو زبيب مثل كيله خرصاً أي بتقديره حَزْراً أو تخميناً. وبيع المحاقلة : أي بيع الحنطة في سنبلها بحنطة مثل كيلها خرصاً، لأن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن المزابنة والمحاقلة" متفق عليه لما في ذلك من الربا لجهالة مقدار المبيع، إذ أنه كما هو معلوم يشترط التماثل حقيقة في الأموال الربوية. لكن للحاجة رخص الشافعية والحنابلة، وفي الراجح عند المالكية بيع العرايا : وهو عند الشافعية بيع الرطب على النخل خرصاً بتمر في الأرض كيلاً، أو بيع العنب على الشجر خرصاً بزبيب في الأرض كيلاً، فيما دون خمسة أوسق بشرط التقابض في المجلس عند الفقهاء ما عدا المالكية، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمر بالتمر، ورخص في العرايا متفق عليه. وأما الحنفية فقد أجازوا بيع العرايا للضرورة فقط.
      ويلاحظ أن هذه البيوع غير الصحيحة بسبب الغرر، منها الباطل، ومنها الفاسد في اصطلاح الحنفية، فالفاسد منها فقط : هو بيع ضربة القانص والغائص والمزابنة والمحاقلة والملامسة والمنابذة وبيع الحصاة، وبيع ثوب من أثواب ونحوها مما فيه جهالة. وأما ماعداها فهو باطل. فبيع الملاقيح والمضامين وحبل الحبلة باطل، لنهيه صلى الله عليه وسلم عنه، ولما فيه من الغرر، كما بينا في بحث بيع المعدوم.
      والدليل على عدم صحة بيع الغرر في الجملة : هو أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر. وعن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لا تشتروا السمك في الماء، فإنه غرر"، ولأنه غير مقدور على تسليمه، وفيه جهالة فاحشة بمحل العقد أو بمقدار المبيع، ولأنه غير مملوك للبائع محل العقد.
     
      الغرر اليسير : الغرر والجهالة ثلاثة أقسام : كثير ممتنع إجماعاً كالطير في الهواء. وقليل جائز إجماعاً كأساس الدار وقطن الجبة. ومتوسط اختلف فيه : هل يلحق بالأول أو الثاني، فلارتفاعه عن القليل ألحق بالكثير، ولانحطاطه عن الكثير، ألحق بالقليل. وقد أجاز الحنفية بيع ما يشتمل على غرر يسير، كالأشياء التي تختفي في قشرها كالجوز واللوز والفستق والباقلاء الأخضر، والأرز والسمسم في قشرها الأعلى، والحنطة في سنبلها، والبطيخ والرمان على أن يكون للمشتري خيار الرؤية كما سيأتي بيانه في بحث هذا الخيار.
      أما المالكية والحنابلة فقد أجازوا مطلقاً كل ما فيه غرر يسير، أو التي تدعو إليه الضرورة، كهذه الأشياء التي ذكرناها.
      وأما الشافعية : فإنهم أجازوا بيع هذه الأشياء في قشرها الأسفل. أما بيعها بقشرها الأعلى فاختلفوا فيه على رأيين مشهورين في المذهب.
      يرجح جواز بيع هذه الأشياء مطلقاً كما رأى المالكية والحنابة لتعارف الناس هذه البيوع، فإذا وجد فيها عيب أمكن فسخ العقد بمقتضى خيار العيب.

      حكم التأمين مع شركات التأمين في الإسلام :
      التأمين حديث النشأة، فقد طهر بمعناه الحقيقي في القرن الرابع عشر الميلادي في إيطاليا في صورة التأمين البحري. والتأمين (أو السوكرة) نوعان : تأمين تعاوني وتأمين بقسط ثابت.
     
      أما التأمين التعاوني : فهو أن يتفق عدة أشخاص على أن يدفع كل منهم اشتراكاً معيناً، لتعويض الأضرار التي قد تصيب أحدهم إذا تحقق خطر معين. وهو قليل التطبيق في الحياة العملية.
     
      وأما التأمين بقسط ثابت : فهو أن يلتزم المؤمَّن له بدفع قسط محدد إلى المؤمِّن : وهو شركة التأمين المكونة من أفراد مساهمين، يتعهد (أي المؤمن) بمقتضاه دفع أداء معين عند تحقق خطر معين. وهو النوع السائد الآن. ويدفع العوض إما إلى مستفيد معين أوإلى شخص المؤمن أو إلى ورثته، فهو عقد معاوضة ملزم للطرفين.
      والفرق بين النوعين : أن الذي يتولى التأمين التعاوني ليس هيئة مستقلة عن المؤمن لهم، ولا يسعى أعضاؤه إلى تحقيق ربح، وإنما يسعون إلى تخفيف الخسائر التي تلحق بعض الأعضاء. أما التأمين بقسط ثابت فيتولاه المؤمن (أي الشركة المساهمة) الذي يهدف إلى تحقيق ربح، على حساب المشتركين المؤمن لهم. وكون المؤمن له قد لا يأخذ شيئاً في بعض الأحيان لا يخرج التأمين من عقود المعاوضات، لأن من طبيعة العقد الاحتمالي ألا يحصل فيه أحد العاقدين على العوض أحياناً.
     
      التأمين التعاوني : لا شك في جواز التأمين التعاوني في الإسلام، لأنه يدخل في عقود التبرعات، ومن قبيل التعاون على البر، لأن كل مشترك يدفع اشتراكه بطيب نفس لتخفيف آثار المخاطر وترميم الأضرار التي تصيب أحد المشتركين، أياً كان نوع الضرر، سواء في التأمين على الحياة، أو الحوادث الجسمانية، أو على الأشياء (بسبب الحريق أو السرقة أو موت الحيوان) أو ضد المسؤولية من حوادث السير، أو حوادث العمل، ويجوز أيضاً للمؤمن له التأمين الإلزامي كالتأمين المفروض على السيارات ضد الغير، وتجوز التأمينات الأجتماعية ضد العجز والشيخوخة والمرض والتقاعد.
     
      التأمين بقسط ثابت- فتوى ابن عابدين : أفتى ابن عابدين بحرمة التأمين البحري، لضمان ما قد يهلك من البضائع المستوردة بطريق النقل البحري، بالمراكب، فلا يحل للتاجر أخذ بدل الهالك من مال المؤمن لأسباب ثلاثة :
      1- إن هذا العقد التزام مالا يلزم، لعدم وجود سبب شرعي من أسباب الضمان الأربعة وهي العدوان من قتل وهدم وإحراق ونحوها، وتسبب الإتلاف كحفر بئر بدون ترخيص في الطريق العام، ووضع اليد غير المؤتمنة كالغصب والسرقة وبقاء المبيع في يد البائع، والكفالة. وليس المؤمن متعدياً، ولا متسبباً في الإتلاف، ولا واضع يد على المؤمن عليه، ويس في التأمين مكفول معين.
      2- ليس التأمين من قبيل تضمين الوديع إذا أخذ أجراً على الوديعة إذا هلكت، لأن المال ليس في يد المؤمن، بل في يد صاحب المركب، ولو كان صاحب المركب هو المؤمن، فإنه يكون أجيراً مشتركاً، لا وديعاً، وكل من الوديع والأجير المشترك لا يضمن ما لا يمكن الاحتراز عنه، كالموت والغرق والحرق الغالب.
      3- ليس التأمين من قبيل تضمين التغرير : لأن الغارّ لا بد من أن يكون عالماً بالخطر، وأن يكون المغرور جاهلاً به غير عالم. والمؤمن (شركة التأمين أو الضمان) لا يقصد تغرير التجار (المؤمن لهم)، ولا يعلم بحصول الخطر - الغرق مثلاً، هل يكون أم لا، أي لا يعلم : هل تغرق المركب أم لا؟
      أما في حال العلم بالخطر من المؤمن والتاجر كالخطر من اللصوص وقطاع الطرق، فيجوز الضمان، ولكن ليس التأمين منطبقاً عليها. فلو قال شخص لآخر : أسلك هذا الطريق، فإن كان مخوفاً وأخذ مالك، فأنا ضامن : ضمن.
      وأضاف ابن عابدين : أنه إن جرى عقد التأمين الفاسد في بلاد الحرب بين المؤمن وشريك حربي غير مسلم للمؤمن له، أو بين التاجر المؤمن له الموجود في دار الحرب وبين المؤمن، وأخذ بدل الهالك، وأرسله في الحالة الأولى إلى التاجر المسلم، أو قبض التاجر البدل في بلادنا في الحالة الثانية، فالظاهر أنه يحل للتاجر أخذه، لأن العقد الفاسد جرى بين حربيين في بلاد الحرب، وقد وصل إلى التاجر ما لهم برضاه، فلا مانع من أخذه. أما إن كان العقد في بلادنا، والقبض في بلاد الحرب، فلا يحل أخذ البدل، ولو برضا الحربي، لانبنائه على العقد الفاسد الصادر في بلاد الإسلام.
      ولا يصح اعتبار التأمين من قبيل شركة المضاربة التي هي مال من طرف وعمل من طرف آخر، لسببين :
      أولهما- أن الأقساط التي يدفعها المؤمن له تدخل في ملك شركة التأمين (المؤمن)، وهي مطلقة اليد في أن تتصرف بها كيفما تشاء. ويخسرها المؤمن له إن لم يقع الحادث.
      ثانيهما- أن شرط صحة المضاربة أن يكون الربح بين صاحب المال والقائم بالعمل شائعاً بالنسبة كالربع أو الثلث، وفي التأمين يشترط للمشترك المؤمن له قدر معين في الربح 3% أو 4% فتكون هذه المضاربة غير صحيحة. ولو تجاوز العاقد هذا السبب، يظل السبب الأول، كما أنه في حال موت المؤمن له قد لا يذهب المبلغ المؤمن عليه للورثة مطلقاً وإنما للمستفيد، بخلاف حال موت رب المال في المضاربة.
      ولا يصح اعتبار التأمين من قبيل الضمان أو الكفالة، لأنه ليس واحداً من أسباب الضمان الأربعة المشروعة المتقدمة، كما أنه في كثير من صور عقد التأمين لا يوجد فيه ما يمكن أن يعتبر مكفولاً، وإن وجد المكفول كما في التأمين من حوادث السيارات، فهو مجهول.
      والحقيقة أن عقد التأمين من عقود الغرر - العقود الاحتمالية المترددة بين وجود المعقود عليه وعدمه، وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر. ويقاس عليه عقود المعاوضات المالية، فيؤثر الغرر فيها كما يؤثر في عقد البيع.
      وعقد التأمين مع الشركات من عقود المعاوضات المالية، فيؤثر فيه الغرر، كما يؤثر في سائر عقود المعاوضات المالية. وقد وضعه رجال القانون تحت عنوان "عقود الغرر"، لأن التأمين لا يكون إلا من حادث مستقبل غير محقق الوقوع، أو غير معروف وقوعه، فالغرر عنصر لازم لعقد التأمين.
      والغرر في التأمين كثير، لا يسير، ولا متوسط، لأن من أركان التأمين : "الخطر" والخطر هو حادث محتمل لا يتوقف على إرادة العاقدين.
      والحاجة التي من أجلها يجوز العقد المشتمل على الغرر ولو كان كثيراً : (وهي أن يصل المرء إلى حالة بحيث لو لم يتناول الممنوع يكون في جهد ومشقة، ولكنه لا يهلك) يشترط فيها أن تكون عامة، أو خاصة، وأن تكون متعينة.
      والحاجة العامة : هي ما يكون الاحتياج فيها شاملاً لجميع الناس. والحاجة الخاصة : هي ما يكون الاحتياج فيها خاصاً بطائفة من الناس كأهل بلد، أو حرفة.
      ومعنى كون الحاجة متعينة : أن تسد جميع الطرق المشروعة للوصول للغرض، سوى ذلك العقد الذي فيه الغرر.
      ولو سلمنا بوجود حاجة عامة للتأمين في الوقت الحاضر، فإن الحاجة إليه غير متعينة، إذ يمكن تحقيق الهدف منه بطريق التأمين التعاوني القائم على التبرع، وإلغاء الوسيط المستغل لحاجة الناس الذي يسعى إلى الربح، وهو شركة الضمان. فيكون التأمين عقد معاوضة مشتملاً على غرر كثير من غير حاجة، فيمنع في الإسلام.
      وبناء عليه لا يحل للتاجر وغيره من المستأمنين أخذ بدل الهالك من مال السوكرة، لأنه مال لا يلزم من التزم به، ولأن اشتراط الضمان على الأمين باطل.

      4- بيع النجس والمتنجس :
      قال الحنفية : لا ينعقد بيع الخمر والخنزير والميتة والدم، لأنها ليست بمال أصلاً. ويكره بيع العَذِرة، ولا بأس ببيع السرقين أو السرجين : وهو (الزبل) وبيع البعر، لأنه منتفع به، لأنه يلقى في الأرض لاستكثار الريع، فكان مالاً، والمال محل للبيع بخلاف العذرة، لأنه لا ينتفع بها إلا مخلوطة ويجوز بيع المخلوط كالزيت الذي خالطته النجاسة.
      ويصح عندهم بيع كل ذي ناب من السباع، كالكلب والفهد والأسد والنمر والذئب والهر ونحوها، لأن الكلب ونحوه مال، بدليل أنه منتفع به حقيقة، مباح الانتفاع به شرعاً على الإطلاق كالحراسة والاصطياد، فكان مالاً. ويصح بيع الحشرات والهوام كالحيات والعقارب إذا كان ينتفع به.
      ويصح بيع المتنجس والانتفاع به في غير الأكل كالدبغ والدهان والاستضاءة به في غير المسجد، ما عدا دهن الميتة، فإنه لا يحل الانتفاع به.
      والضابط عندهم : أن كل ما فيه منفعة تحل شرعاً، فإن بيعه يجوز، لأن الأعيان خلقت لمنفعة الإنسان بدليل قوله تعالى : {خلق لكم ما في الأرض جميعاً}.
      وقال المالكية : لا ينعقد بيع الخمر والخنزير والميتة لحديث جابر، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله ورسوله حرما بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، فقيل : يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة، فإنه يطلى بها السفن، وتدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس ؟ فقال : لا، هو حرام، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قاتل الله اليهود إن الله تعالى لما حرم عليهم شحومها جملوه - أذابوه - ثم باعوه فأكلوا ثمنه" رواه البخاري ومسلم وقال في الخمر : "إن الذي حرم شربها حرم بيعها" رواه مسلم.
      ولا ينعقد بيع الكلب مع كونه طاهراً، سواء أكان كلب صيد أم حراسة، لأنه نهي عن بيعه، ففي الحديث : "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن".
      ولا ينعقد بيع المتنجس الذي لا يمكن تطهيره، كزيت وعسل وسمن وقعت فيه نجاسة. أما المتنجس الذي يمكن تطهيره، كثوب، فإنه يجوز بيعه.
      ولا ينعقد أيضاً بيع ما نجاسته أصلية كزبل ما لا يؤكل لحمه، وكعذرة وعظم ميتة، وجلدها، ويصح بيع روث البقر وبعر الغنم والإبل ونحوها للحاجة إليها لتسميد الأرض وغيره من ضروب الانتفاع.
      وقال الشافعية والحنابلة : لا يجوز بيع الخنزير والميتة والدم والخمر، وما أشبه ذلك من النجاسات، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : "إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والصنام" ولأنه يجب اجتناب النجس وعدم الاقتراب، والبيع وسيلة إلى الاقتراب.
      ولا يجوز بيع الكلب ولو كان معلماً للنهي الوارد فيه في الحديث السابق : "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب ..".
      ولا يصح بيع ما لا منفعة فيه كالحشرات وسباع البهائم التي لا تصلح للاصطياد، كالأسد والذئب، والطيور التي لا تؤكل، ولا تصطاد، كالرخمة والحدأة والغراب، لأن ما لا منفعة فيه لا قيمة له، فأخذ العوض عنه من أكل المال بالباطل، وبذل العوض فيه من السفه.
      ولا يجوز بيع المتنجس الذي لا يمكن تطهيره من النجاسة كالخل والدبس، ولكن يصح بيع المتنجس الذي يمكن تطهيره كالثوب ونحوه.
      ولا يجوز بيع السرجين ونحوه من النجاسات، إلا أن الحنابلة أجازوا بيع السرجين الطاهر كروث الحمام وكل ما يؤكل لحمه.
      والخلاصة : أن فقهاء الحنفية يجيزون بيع النجاسات للانتفاع بها إلا ما ورد النهي عن بيعه منها، لأن جواز البيع يتبع الانتفاع، فكل ما كان منتفعاً به جاز بيعه عندهم. وأما فقهاء المالكية والشافعية والمشهور عند الحنابلة : فلا يجيزون بيع النجاسات، لأن جواز البيع يتبع الطهارة، فكل ماكانطاهراً أي مالاً يباح الانتفاع به شرعاً يجوز بيعه عندهم.
     
      5- بيع العربون :
      في العربون ست لغات أفصحها فتح العين والراء، وضمن العين وإسكان الراء. وعربان بالضم والإِسكان، وهو أعجمي معرب، وأصله في اللغة : التسليف والتقديم.
      وبيع العربون : هو أن يشتري الرجل شيئاً، فيدفع إلى البائع من ثمن المبيع درهماً، أو غيره مثلاً، على أنه إن نفذ البيع بينهما احتسب المدفوع من الثمن، وإن لم ينفذ، يجعل هبة من المشتري للبائع. فهو بيع يثبت فيه الخيار للمشتري : إن أمضى البيع كان العربون جزءاً من الثمن، وإن رد البيع فقد العربون، ومدة الخيار غير محددة بزمن، وأما البائع فإن البيع لازم له.
      وقال بعض الحنابلة : لا بد أن تقيد فترة الانتظار بزمن محدد وإلا فإلى متى ينتظر البائع ؟
      وقد اختلف فيه العلماء، فقال الجمهور : إنه بيع ممنوع غير صحيح، فاسد عند الحنفية، باطل عند غيرهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع العربان ولأنه من باب الغرر والمخاطرة وأكل المال بغير عوض، ولأن فيه شرطين فاسدين : أحدهما - شرط الهبة، والثاني - شرط الرد على تقدير ألا يرضى، ولأنه شرط للبائع شيئاً بغير عوض، فلم يصح، كما لو شرطه لأجنبي، ولأنه بمنزلة الخيار المجهول، فإنه اشترط أن يكون له رد المبيع من غير ذكر مدة، فلم يصح، كما لو قال : ولي الخيار متى شئت رددت السلعة ومعها درهماً. وهذا هو مقتضى القياس.
      وقال أحمد بن حنبل : لا بأس به ودليله ما أخرجه عبد الرازق في مصنفه من حديث زيد بن أسلم أنه "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العربان في البيع فأحله" وما روي فيه عن نافع بن عبد الحارث : "أنه اشترى لعمر دار السجن من صفوان بن أمية بأربعة آلاف درهم، فإن رضي عمر، كان البيع نافذاً، وإن لم يرض فلصفوان أربعمئة درهم". وضعف أحمد الحديث المروي في بيع العربان، وقد أصبحت طريقة البيع بالعربون في عصرنا الحاضر أساساً للارتباط في التعامل التجاري الذي يتضمن التعهد بتعويض ضرر الغير عن التعطل والانتظار.
     
      6- بيع الماء :
      عرفنا سابقاً أنه يشترط في المعقود عليه كونه مالاً محرزاً أي مملوكاً لواحد من الناس، فلا ينعقد بيع شيء غير محرز كالماء والهواء والتراب، فما هو المقصود بالماء، وما هي مذاهب العلماء في تملكه وبيعه ؟
      قال الحنفية : المياه أربعة أنواع :
      الأول- ماء البحار : وهو مشاع لجميع الناس، ولكل إنسان حق الانتفاع به على أي وجه شاء كالانتفاع بالشمس والقمر والهواء، فله أن ينتفع به لحوائجه الخاصة ولسقاية أراضيه أي أن له ما يسمى بحق الشفة وحق الشرب أو سقي الأراضي الزراعية والأشجار.
      الثاني- ماء الأودية العظام، مثل أنهار دجلة والفرات والنيل وبردى والعاصي وسيحون وجيحون ونحوها من الأنهار العامة. وللناس فيها حق الشفة مطلقاً، وحق سقي الأراضي إن لم يضر السقي بمصلحة الجماعة، فإن أضربهم فلا يجوز السقي، لأن دفع الضرر العام واجب، ويجوز أيضاً تركيب المطاحن المائية على هذه الأنهار إن لم يكن هناك ضرر عام.
      الثالث- الماء المملوك لجماعة مخصوصة كأهل قرية تختص بنهر صغير أو عين ماء أو بئر. ومنه الماء المأخوذ من الأنهار العامة الذي يجري في المقاسم أي المجاري المملوكة بشق الجداول ونحوها. ويثبت فيه لكل إنسان حق الشفة فقط للضرورة المقتضية إباحته لاحتياج الناس إليه، ولعدم إمكان استصحاب الماء إلى كل مكان.
      الرابع- الماء المحرز في الأواني، وهو مملوك لمن أحرزه، ولا حق فيه لأحد غير صاحبه، ولا يجوز الانتفاع به إلا بإذن مالكه.
      وبهذا يظهر أن الماء بالنسبة للتملك والبيع إما مباح، أو غير مباح، والمباح حق للجميع لقوله صلى الله عليه وسلم : "المسلمون شركاء في ثلاث : الماء، والكلأ، والنار" والمقصود بالمباح : ما يشمل النوعين الأولين، وهو ما لا يختص به أحد من الناس. وغير المباح أو المملوك : هو ما يدخل تحت الملكية سواء أكانت لفرد أم لجماعة، ويشمل النوعين الآخرين.
      وهذا هو المعنى المقصود أيضاً عند المالكية والشافعية والحنابلة وقد يسمى هذان النوعان : الماء الخاص والماء العام. فالأول : هو الماء الممتلك في الأرض المملوكة كالبئر والعين. والثاني : هو غير المتملك في أرض غير مملوكة كالأنهار والعيون.
     
      حكم بيع الماء : اتفق العلماء على أنه يستحب بذلك الماء بغير ثمن حتى ولو كان مملوكاً ولا يجبر المالك على بذل الماء، إلا في حال الضرورة بأن يكون قوم اشتد بهم العطش، فخافوا الموت، فيجب عليه سقيهم، فإن منعهم، فلهم أن يقاتلوه عليه.
      ولكن الحنفية فصلوا فيما يباح به القتال فقالوا : يجوز للمضطر أن يقاتل بالسلاح مالك الماء في الحوض أو البئر أو النهر الذي في ملكه لأنه قصد اتلافه بمنع حقه وهو الشفة، والماء في البئر مباح غير مملوك. أما إن كان الماء محرزاً في الأواني، فيقاتل المضطر بغير السلاح، ويضمن له ما أخذ كما في حال أخذ الطعام عند المخمصة، لأن حل الأخذ للاضطرار لا ينافي الضمان. هذا ااذا كان الماء فاضلاً عن حاجة مالكه بأن كان يكفي لدفع الرمق لكل منهما، وإلا وجب تركه لمالكه.
      أما بيع الماء فللعماء فيه رأيان مشهوران : رأي الجمهور، ورأي الظاهرية.
      أولاً- قال الفقهاء : يجوز بيع غير المباح للناس جميعاً كماء البئر والعين والمحرز في الأواني ونحوها، ولصاحبه أن ينتفع به لنفسه، ويمنع غيره من الانتفاع. فله أن يمنع صاحب الحق في الشفة من الدخول في ملكه إذا كان يجد ماء بقربه، فإن لم يجد، يقال لصاحب البئر ونحوه : إما أن تخرج الماء إليه، أو تتركه ليأخذ الماء.

      المطلب الثاني- أنواع البيع الفاسد :
      البيع الفاسد في اصطلاح الحنفية كما قدمنا : ما كان مشروعاً بأصله لا بوصفه ويفيد الملك بالقبض. وعند غير الحنفية : البيع إما صحيح أو باطل، وغير الصحيح لا يفيد الملك أصلاً.
      وسنذكر هنا نموذجاً من أنواع البيوع الفاسدة عند الحنفية، مع الإشارة إلى حكمها عند غيرهم.
     
      1- بيع المجهول :
      قال الحنفية : إذا كان المبيع أو الثمن مجهولاً جهالة فاحشة وهي التي تفضي إلى المنازعة، فسد البيع، لأن هذه الجهالة مانعة من التسليم والتسلم، فلا يحصل مقصود البيع.
      فإن كان مجهولاً جهالة يسيرة وهي التي لا تؤدي إلى المنازعة، لا يفسد البيع، لأن هذه الجهالة لا تمنع من التسليم والتسلم، فيحصل مقصود البيع.
      والعرف هو المحكم في بيان نوع الجهالة : يسيرة أو فاحشة. فإذا لم يبين مثلاً جنس الحيوان أو لم يبين "ماركة" المذياع أو آلة التصوير، يعتبر المبيع مجهولاً جهالة فاحشة تمنع من صحة العقد على بيعه، إذ تؤدي حتماً إلى نزاع شديد بين المتعاقدين.

      2- البيع المعلق على شرط والبيع المضاف :
      البيع المعلق على شرط أو العقد المعلق عموماً : هو ما علق وجوده على وجود أمر آخر ممكن الحصول بإحدى أدوات التعليق نحو إن وإذا ومتى ونحوها. مثاله : أن يقول شخص لآخر : بعتك داري هذه بكذا إن باع لي فلان داره، أو إن جاء والدي من السفر مثلاً.
      والبيع المضاف أو العقد المضاف عموماً : هو ما أضيف فيه الإيجاب إلى زمن مستقبل، كأن يقول شخص لغيره : بعتك هذه السيارة بكذا من أول الشهر القادم.
      والفرق بين هذين النوعين عند الحنفية : أن العقد المعلق لا يعد موجوداً ولا ينعقد سبباً في الحال، وإنما هو معلق على وجود الشرط، والشرط قد يوجد وقد لا يوجد.
      وأما العقد المضاف فهو عقد تام يترتب عليه حكمه وآثاره إلا أن هذه الآثار يتأخر سريانها إلى الوقت الذي عينه العاقدان لها.

      حكمها : اتفق الفقهاء على عدم صحة البيع المعلق أو المضاف، لكن يسمى ذلك فاسداً في اصطلاح الحنفية، وعند غيرهم هو باطل.

      3- بيع العين الغائبة أو غير المرئية :
      العين الغائبة : هي العين المملوكة للبائع الموجودة في الواقع، ولكنها غير مرئية.
      قال الحنفية : يجوز بيع العين الغائبة من غير رؤية ولا وصف، فإذا رآها المشتري كان له الخيار : فإن شاء أنفذ البيع، وإن شاء رده. وكذلك المبيع على الصفة يثبت فيه خيار الرؤية، وإن جاء على الصفة التي عينها البائع كأن يشتري فرساً مجللاً "مغطى" أو متاعاً في صندوق أو مقدار من الحنطة في هذا البيت.
      واستدلوا أيضاً بحديث "من اشترى شيئاً لم يره، فهو بالخيار إذا رآه" رواه الدارقطني
      وقال المالكية : يجوز بيع الغائب على الصفة إذا كانت غيبته مما يؤمن أن تتغير فيه صفته قبل القبض. فإذا جاء على الصفة المذكورة كان البيع لازماً، إذ أن هذا من الغرر اليسير، والصفة تنوب عن المعاينة بسبب غيبة المبيع، أو المشقة التي تحصل في إظهاره، وما قد يلحقه من الفساد بتكرار الظهور والنشر مثلاً، وإن خالف الصفة المتفق عليها فللمشتري الخيار. وكذلك أجاز المالكية في المشهور عندهم بيع الغائب بلا وصف لنوعه وجنسه بشرطين : أن يذكر الخيار للمشتري إذا رأى المبيع، وألا يدفع المشتري الثمن للبائع. ويسمى هذا البيع عند المالكية : البيع على البَرْنامِج أو البرامج.
      وقال الشافعية في الأظهر عندهم : لا يصح مطلقاً بيع الغائب وهو ما لم يره المتعاقدان، أو أحدهما، وإن كان المبيع حاضراً، لما فيه من الغرر، وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر، وفي بيع ما لا يعرف جنسه أو نوعه غرر كبير، وكذا ما عرف جنسه أو نوعه، مثل بعتك فرسي العربي، لا يصح بيعه في المذهب الجديد لوجود الغرر فيه بسبب الجهل بصفة المبيع، كما لا يصح السلم مع جهالة صفة المسلم فيه، وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر.
      وقال الحنابلة في أظهر الروايتين عندهم : إن الغائب الذي لم يوصف ولم تتقدم رؤيته لا يصح بيعه، فإن صححناه بحسب الرواية الأخرى، فيثبت الخيار للبائع والمشتري عند الرؤية. ودليل الرواية الأولى أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر.
      أما إذا وصف المبيع للمشتري فذكر له من صفاته ما يكفي في صحة السلم، صح بيعه في ظاهر المذهب، وعن أحمد : لا يصح حتى يراه، لأن الصفة لا تحصل بها معرفة المبيع، فلم يصح البيع بها كالذي لا يصح السلم فيه.
      استدلوا على ظاهر المذهب : بأنه بيع بالصفة فصح كالسلم، ولا يقال بأنه لا تحصل به معرفة المبيع، فإن تلك المعرفة تحصل بالصفات الظاهرة التي يختلف بها الثمن ظاهراً، وهذا يكفي بدليل أنه يكفي في السلم.
      والخلاصة : أن الحنفية والمالكية، والحنابلة في الأظهر، يجيزون بيع العين الغائبة على الصفة. أما بيعها بغير رؤية ولا وصف فقد أجازه الحنفية والمالكية على الراجح عندهم.

      بيع ما يكمن في الأرض أو بيع ما في رؤيته مشقة أو ضرر : قد تكون مع رؤية المبيع مشقة أو ضرر مثل بيع الأطعمة المحفوظة ونحوها من الأدوية والسوائل والغازات التي لا تفتح إلا عند الاستعمال، ومثله بيع المغيب في الأرض كالجزر واللفت والبطاطا، فإن الحنفية أجازوه كإجازة بيع العين الغائبة، كما أجازه المالكية، لأن المبيع معلوم بالعادة، والغرر فيه يسير، وأبطله الشافعية والحنابلة إذ لا يمكن وصفه، فيتحقق فيه الغرر والجهالة المنهي عنهما.

      4- بيع الأعمى وشراؤه :
      هذا النوع مفرع على شرط رؤية المبيع على الخلاف السابق في بيع الغائب.
      فقال الحنفية والمالكية والحنابلة : يصح بيع الأعمى وشراؤه وإجارته ورهنه وهبته، ويثبت له الخيار بما يفيد معرفته بالمبيع كالجس والشم والذوق فيما يعرف بذلك، وكالوصف في الثمار على رؤوس الأشجار والدور والعقارات. ودليلهم حديث : "إنما البيع عن تراض" رواه ابن ماجه والبيهقي وقد رضي الأعمى بالبيع، وأنه يمكنه الاطلاع على المقصود ومعرفته، فأشبه بيع البصير، ولأن إشارة الأخرس تقوم مقام نطقه، فكذلك شم الأعمى وذوقه.
      إلا أن الحنفية كما هو معلوم لا يثبتون خيار الرؤية للبائع سواء أكان بصيراً أم أعمى.
      وقال الشافعية : لا يصح بيع الأعمى وشراؤه إلا إذا كان قد رأى شيئاً قبل العمى مما لا يتغير كالحديد ونحوه، ودليلهم قصور الأعمى عن إدراك الجيد والرديء، فيكون محل العقد بالنسبة له مجهولاً.

      5- البيع بالثمن المحرّم :
      إذا كان البيع بثمن محرم كالخمر والخنزر : يكون فاسداً عند الحنفية لوجود حقيقة البيع : وهي مبادلة المال بالمال، فإن الخمر والخنزير مال متقوم عند بعض الكفار، وهما وإن كانا مالين عند الحنفية، إلا أنهما ليسا بمتقومين شرعاً، والقاعدة المقررة في هذا الشأن : أن أحد العوضين إذا لم يكن مالاً في دين سماوي، فالبيع باطل سواء أكان مبيعاً أم ثمناً، فبيع الميتة والدم والإنسان الحر باطل، وكذا البيع به وهو الصحيح عند الحنفية، لأن المسمى ثمناً ليس بمال أصلاً، وكون الثمن مالاً في الجملة شرط من شروط الانعقاد.
      وإن كان العوض في بعض الأديان مالاً دون بعض : فإن أمكن اعتباره ثمناً، فالبيع فاسد، فبيع الثوب بالخمر أو الخمر بالثوب فاسد، وإن تعين كونه مبيعاً، فالبيع باطل، فبيع الخمر بالدراهم أو الدراهم بالخمر باطل.
      وعلى هذا : إذا كان الثمن محرَّماً : ينعقد البيع بالقيمة ومن الواضح أن هذا البيع عند غير الحنفية يقع باطلاً.

      6- البيع نسيئة ثم الشراء نقداً- بيوع الآجال :
      إذا اتخذ العقد وسيلة لتحقيق غرض غير مباح شرعاً، فهل ينعقد العقد لوجود أركانه من الايجاب والقبول أو يعتبر غير صحيح لسببه غير المشروع ؟ وذلك مثل أن يبيع الشخص مالاً إلى آخر بثمن مؤجل، ثم يشتريه منه بثمن عاجل كأن يبيع مائة قنطار من القطن بخمسة آلاف ليرة لا تقبض إلا بعد سنة، ثم يشتريها البائع من المشتري بأربعة آلاف يدفعها إليه فوراً، فقد حصل ههنا عقدا بيع: كلاهما ظاهره الصحة لاشتماله على أركان العقد وشروطه. فمثل هذه البيوع تسمى عند المالكية "بيوع الآجال" لاشتمالها دائماً على الأجل، وقد تسمى هذه البيوع عند بعض العلماء "بيوع العينة" وهي في الحقيقة نوع من بيوع الآجال التي يقصد منها التحيل على الربا، والوصول إلى ما هو ممنوع شرعاً، ومع ذلك اختلف العلماء في حكم بيع الأجل، علماً بأن المالكية فرقوا بين النوعين، فقالوا : بيوع الآجال : هي بيع المشتري ما اشتراه لبائعه أو لوكيله، لأجل. وبيع العينة : أن يقول شخص لآخر : اشتر سلعة بعشرة نقداً، وأنا آخذها منك باثني عشر لأجل.
      فقال الشافعية : يصح هذا العقد لتوافر ركنه وهو الإيجاب والقبول، ويترك أمر النية لله وحده يعاقب صاحبها عليها.
      وقال المالكية والحنابلة : العقد باطل متى قام الدليل على وجود قصد آثم سداً للذريعة. وتطبيقات هذا الخلاف تظهر في زواج المحلل وبيع العينة وبيع العنب لعاصر الخمر.
      وأما أبو حنيفة فيحكم في الظاهر بصحة زواج المحلِّل، وبيع العنب لعاصره خمراً، ما لم يصرح في العقد بشرط يخل به، ويجعل بيع العينة فاسداً إن خلا من توسط شخص ثالث.

      بيع العينة :
      هو بيع يراد منه أن يكون حيلة للقرض بالربا، بأن يبيع رجل شيئاً بثمن نسيئة أو لم يقبض، ثم يشتريه في الحال، وسمي بالعينة لأن مشتري السلعة إلى أجل يأخذ بدلها عيناً أي نقداً حاضراً، وعكسها مثلها. مثاله : أن يبيعه الرجل سلعة بثمن إلى أجل معلوم، ثم يشتريها بثمن آخر إلى أجل آخر، أو نقداً بثمن أقل، وفي نهاية الأجل الذي حدد في العقد الأول يدفع الثمن الأول كله، فيكون الفرق بين الثمنين فائدة أو ربا لصاحب المتاع الذي يبيع بيعاً صورياً، مثل أن يبيع شخص لآخر ثوباً باثنتي عشرة ليرة مؤجلاً دفعها إلى شهر مثلاً، ثم يبيع المشتري هذا الثوب نفسه -قبل أو بعد تسلمه- إلى بائعه الأول بعشر ليرات تدفع حالاً إلى المشتري، وفي نهاية الأجل المحدد لدفع الثمن في العقد الأول يدفع المشتري كامل الثمن وهو "12" ليرة فيكون الفرق بين الثمنين فائدة أو ربا لصاحب الثوب الذي بيع بيعاً صورياً، والعملية كلها للتحايل على الإقراض بالربا عنطريق البيع والشراء.
      وقد يوسط المتعاقدان بينهما شخصاً ثالثاً يشتري العين بثمن حال من مريد الاقتراض، بعد أن اشتراها هذا من مالكها المقرض، ثم يبيعها للمالك الأول بالثمن الذي اشترى به، فيكون الفرق ربا له.
      اختلف العلماء في الحكم على العقد الثاني، مع أن قصد التعامل بالربا واضح من البائع والمشتري.
      فقال أبو حنيفة : هو عقد فاسد إن خلا من توسط شخص ثالث بين المالك المقرض والمشتري المقترض، كما مثلنا، إلا أنه يلاحظ أن أبا حنيفة خالف أصله السابق الذكر الذي يقتضي القول بصحة هذا العقد وذلك استحساناً بنص الحديث الذي سيأتي في قصة زيد بن أرقم، ولأن الثمن إذا لم يستوف لم يتم البيع الأول، فيصير البيع الثاني مبنياً عليه، فليس للبائع الأول أن يشتري شيئاً ممن لم يتملكه بعد، فيكون البيع الثاني فاسداً.
      وقال الشافعي : هذا العقد صحيح مع الكراهة لتوافر ركنه وهو الإيجاب والقبول الصحيحان، ولا عبرة في إبطال العقد بالنية التي لا نعرفها لعدم وجود ما يدل عليها أي أو القصد الآثم مرجعه إلى الله، والحكم على ظاهر العقد شيء آخر. لذا فإنه يحمل العقد على عدم التهمة.
      وقال المالكية والحنابلة : إن هذا العقد يقع باطلاً سداً للذرائع.
      والخلاصة : أن جمهور الفقهاء غير الشافعية : قالوا بفساد هذا البيع وعدم صحته، لأنه ذريعة إلى الربا، وبه يتوصل إلى إباحة ما نهى الله عنه، فلا يصح.

      7- بيع العنب لعاصر الخمر:
      قال أبو حنيفة والشافعي : يصح في الظاهر مع الكراهة بيع العنب لعاصر الخمر، وبيع السلاح لمن يقاتل به المسلمين، لعد تحققنا أنه يتمكن من اتخاذه خمراً أو يقاتل بالسلاح المسلمين، ويؤاخذ الإنسان على مقاصده. أما الوسائل فقد يحال بين الإنسان وبينها، والمحرم في البيع هو الاعتقاد الفاسد، دون العقد نفسه، فلم يمنع صحة العقد، كما لو دلس العيب أي أن الحكم على العقد بظاهره شيء، والدافع إليه شيء آخر.
      وقال المالكية والحنابلة : بيع العصير ممن يتخذه خمراً باطل، وكذا بيع السلاح لأهل الحرب أو لأهل الفتنة، أو لقطاع الطرق، سداً للذرائع، لأن ما يتوصل به إلى الحرام فهو حرام، ولو بالقصد، ولقوله تعالى : {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] وهذا نهي يقتضي التحريم، وإذا ثبت التحريم فالبيع باطل.
     
      8- البيعتان في بيعة أو الشرطان في بيع واحد :
      لقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعتين وعن شرطين في بيع، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يَضْمن، ولا بيع ما ليس عندك" رواه أحمد والترمذي.
      واختلف في تفسير البيعتين في بيعة : فقال الشافعي : "أنه تأويلان : أحدهما - أن يقول : بعتك بألفين نسيئة، وبألف نقداً، فأيهما شئت أخذت به، على أن البيع قد لزم في أحدهما وهذا بيع فاسد "أي باطل" لأنه إبهام وتعليق. والثاني - أن يقول : "بعتك منزي على أن تبيعني فرسك".
      وحكمة منع صورة الصفقة الأولى هو اشتمالها على غرر بسبب الجهل بمقدار الثمن، فإن المشتري لا يدري وقت تمام العقد هل الثمن عشرة مثلاً أو خمسة عشر.
      ومن الحكمة في تحريم العقد الثاني منع استغلال حاجات الآخرين، وذلك في حالة كون المشتري مضطراً إلى شراء شيء، فيكون اشتراط البائع عليه في شراء شيء منه من قبيل الاستغلال مما يؤدي إلى فوات حقيقة الرضا في هذا العقد، ثم إن فيه غرراً أيضاً لا يدري البائع هل يتم البيع الثاني أو لا.
      واختلف في تفسير الشرطين في بيع : فقيل : هو أن يقول : بعت هذا نقداً بكذا، وبكذا نسيئة. وقيل : هو أن يشترط البائع على المشتري ألا يبيع السلعة ولا يهبها. وقيل : هو أن يقول : "بعتك هذه السلعة بكذا على أن تبيعني السلعة الفلانية بكذا".
      وبهذا يظهر أن البيعتين في بيعة والشرطين في بيع واحد بمعنى واحد. وقد اختلف العلماء في حكمه.
      فقال الحنفية : البيع فاسد، لأن الثمن مجهول، لما فيه من تعليق وإبهام دون أن يستقر الثمن على شيء : هل حالاً أو مؤجلاً. فلو رفع الإِبهام وقبل على إحدى الصورتين، صح العقد.
      وقال الشافعية والحنابلة : إن هذا العقد باطل، لأنه من بيوع الغرر بسبب الجهالة، لأنه لم يجزم البائع ببيع واحد، فأشبه ما لو قال : بعتك هذا أو هذا، ولأن الثمن مجهول، فلم يصح كالبيع بالرقم المجهول، ولأن أحد العوضين غير معين ولا معلوم، فلم يصح كما لو قال : بعتك أحد منازلي.
      وقال مالك : يصح هذا البيع، ويكون من باب الخيار، فيذهب العقد على إحدى الحالتين، وهو محمول على أنه جرى بينهما بعدئذ ما يجري في العقد، فكأن المشتري قال : أنا آخذهبالنسيئة بكذا، فقال : خذه، أو قد رضيت، ونحو ذلك فيكون عقداً كافياً.

      9- بيع الأتباع والأوصاف مقصوداً :
      إذا كان الشيء تبعاً لغيره، فبيع مستقلاً عنه كبيع الألية من الشاة الحية والذراع والرأس ونحوهما، وكبيع ذراع من ثوب، فقال الحنفية : إن بيع اللحم في الشاة الحية، أو الشحم الذي فيها، أو أليتها، أو أكارعها، أو رأسها : كل هذا باطل لا ينعقد، لأنه بيع لمعدوم، لأن اللحم لا يصير لحماً إلا بالذبح والسلخ.
      ومثله بيع ياقوتة فإذا هي زجاج، أو بيع قطعة جوخ، فإذا هي قطن، لا ينعقد البيع لأن المبيع معدوم.
      وأما بيع ذراع من ثوب : فإن كان يضره التبعيض، كالثوب المهيأ للبس، نحو القميص : كان العقد فاسداً، لأن المبيع تبع لغيره، ولا يمكن تسليمه إلا بضرر لم يوجبه العقد يلحق بالبائع، وهو قطع الثوب.
      وكذا بيع جذع من سقف أو آجر من حائط يكون العقد فاسداً. فإن قطع البائع الذراع من الثوب أو قلع الجذع قبل أن يفسخ المشتري العقد، وسلمه إلى المشتري : يعود العقد صحيحاً، لزوال المفسد قبل نقض البيع، فلو فعل ذلك بعد الفسخ : لا يجوز.
     
      10- بيع الشيء المملوك قبل قبضه من مالك آخر :
      قال الحنفية : لا يجوز التصرف في المبيع المنقول قبل القبض، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع مالم يقبض والنهي يوجب فساد المنهي عنه، ولأنه بيع فيه غرر الانفساخُ بهلاك المعقود عليه، أي أنه يحتمل الهلاك فلا يدري المشتري هل يبقى المبيع أو يهلك قبل القبض، فيبطل البيع الأول وينفسخ الثاني، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع فيه غرر رواه مسلم.
      وأما العقار، كالأراضي والدور، فيجوز بيعه قبل القبض عند أبي حنيفة. والخلاصة : أن العلة عند الحنفية في عدم جواز بيع الشيء قبل قبضه هي الغرر.
      وقال المالكية : لا يجوز بيع الطعام قبل القبض ربوياً كان أو غير ربوي، لحديث ابن عباس وابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يقبضه" متفق عليه وأما ما سوى ذلك أو بيع الطعام جزافاً فيجوز بيعه قبل قبضه لغلبة تغير الطعام، بخلاف ما سواه.
      والعلة في منع بيع الطعام قبل قبضه عند المالكية : هي أنه قد يتخذ البيع ذريعة للتوصل إلى ربا النسيئة، فهو شبيه ببيع الطعام بالطعام نساء، فيحرم سداً للذرائع.
      وقال الحنابلة : لا يجوز بيع الطعام قبل قبضه إذا كان مكيلاً أو موزوناً أو معدوداً (أي المقدرات)، لسهولة قبض المكيل والموزون والمعدود عادة، فلا يتعذر عليه القبض، واشتراط الكيل أو الوزن أو العدد، لأن المكيل والموزون والمعدود لا يخرج من ضمان البائع إلى ضمان المشتري إلا بالكيل أو الوزن أو العدد، وقد نهى الرسول عليه السلام عن بيع ما لم يضمن، فالعلة في منع هذا البيع عند الحنابلة هي الغرر كالحنفية.
      وأما ما عدا المكيل والموزون والمعدود أي غير المقدرات، فيصح بيعه قبل قبضه.
      وقال الشافعي : لا يجوز بيع مالم يستقر ملكه عليه مطلقاً قبل قبضه، عقاراً كان أو منقولاً، لعموم النهي عن بيع مالم يقبض، روى أحمد عن حكيم بن حزام رضي الله عنه، قال : قلت : "يا رسول الله، إني أشتري بيوعاً، فما يحل لي منها وما يحرم عليه ؟ قال : إذا اشتريت شيئاً فلا تبعه حتى تقبضه" وقال صلى الله عليه وسلم : "لا يحل سلف وبيع، ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك" وهذا من باب بيع مالم يضمن.
      واستدلوا من طريق المعقول : وهو أنه بيع باطل لعدم القدرة على تسليم المبيع، ولأن ملكه عليه غير مستقر، لأنه ربما هلك، فانفسخ العقد، وفيه غرر من غير حاجة، فلم يجز. فالعلة في منع البيع عند الشافعية هي الغرر كالحنفية.

      11- اشتراط الأجل في المبيع المعين والثمن المعين : إذا اشترط الأجل لتسليم المبيع المعين أو الثمن المعين، كان البيع فاسداً عند الحنفية، لأن الأصل وجوب التسليم حال العقد، بسبب أن البيع عقد معاوضة : تمليك بتمليك وتسليم بتسليم، والتأجيل ينفي وجوب التسليم للحال، فكان مغيراً مقتضى العقد، فيوجب فساد العقد.
      ولكن يجوز التأجيل في المبيع المؤجل وهو السلم، بل لا يجوز بدون الأجل عند الحنفية، وكذا يجوز التأجيل في الثمن الثابت ديناً في الذمة إن كان الأجل معلوماً، لأن التأجيل يلائم الديون، ولا يلائم الأعيان لمساس حاجة الناس إليه في الديون، لا في الأعيان، وذلك لتمكين صاحب الأجل من اكتساب الثمن في المدة المعينة، ولا حاجة لهذا في الأعيان.

      12- البيع بشرط فاسد :
      لإِيضاحه نبين أنواع الشروط في البيوع :
     
      الشروط في المبايعات ثلاثة أنواع :
      شرط صحيح، وشرط فاسد، وشرط لغو باطل.
     
      آ- الشرط الصحيح : أي "المعتبر الملزم للمتعاقدين" أربعة أقسام :
      1- ما يقتضيه العقد : كأن يشتري شخص شيئاً بشرط أن يسلم البائع المبيع، أو يسلم المشتري الثمن، أو بشرط أن يملك المبيع أو الثمن، أو بشرط أن يحبس البائع المبيع حتى أداء جميع الثمن، فهذه شروط تبين مقتضى العقد، لأن ثبوت الملك، والتسليم والتسلم، وحبس المبيع من مقتضى المعاوضات.
      2- ما ورد الشرع بجوازه : كشرط الأجل والخيار لأحد المتعاقدين، فقد أثبت الشرع في وقائع عن النبي عليه الصلاة والسلام جواز التأجيل لمدة معلومة لحاجة الناس إليه، لما فيه من المصلحة، كما ثبت في الشرع جواز خيار الشرط في إمضاء البيع أو رده خلال مدة معلومة.
      3- ما يلائم مقتضى العقد، كالبيع بثمن مؤجل على شرط أن يقدم المشتري كفيلاً أو رهناً معينين بالثمن، فإن الكفالة والرهن : استيثاق بالثمن، فيلائم البيع ويؤيد التسليم.

      ب- الشرط الفاسد : أو بتعبير أوضح : المفسد : وهو ما خرج عن الأقسام الأربعة السابقة أي لا يقتضيه العقد ولا يلائمه ولا ورد به الشرع ولا يتعارفه الناس، وإنما فيه منفعة لأحد المتعاقدين، كأن اشترى حنطة على أن يطحنها البائع، أو قماشاً على أن يخيطه البائع قميصاً، أو اشترى حنطة على أن يتركها في دار البائع شهراً، أو يبيع شخص داراً على أن يسكنها البائع شهراً، ثم يسلمها إليه، أو أرضاً على أن يزرعها سنة أو دابة على أن يركبها شهراً، أو على أن يقرضه المشتري قرضاً، أو على أن يهب له هبة ونحوها.
      فالبيع في هذا كله فاسد، لأن زيادة منفعة مشروطة في العقد تكون ربا، لأنها زيادة لا يقابلها عوض في عقد البيع، وهو تفسير الربا.
      والبيع الذي فيه الربا فاسد، أو فيه شبهة الربا، وأنها مفسدة للبيع كحقيقة الربا.

      جـ- الشرط اللغو أو الباطل :
      وهو ما كان فيه ضرر لأحد العاقدين، كأن يبيع شيئاً بشرط ألا يبيعه المشتري أو لا يهبه، فالبيع جائز والشرط باطل على الصحيح عند الحنفية، لأن هذا شرط لا منفعة فيه لأحد، فلا يوجب الفساد، لأن فساد البيع في مثل هذه الشروط لتضمنها الربا، بزيادة منفعة مشروطة في العقد لا يقابلها عوض، ولم توجد المنفعة في هذا الشرط، لأنه لا منفعة فيه لأحد إلا أنه شرط فاسد في نفسه، لكنه لا يؤثر في العقد، فيكون العقد جائزاً، والشرط باطلاً. ويلاحظ أن الحنفية اتفقوا على أنه لو ألحق المتعاقدان بالعقد الصحيح شرطاً صحيحاً كالخيار الصحيح في البيع البات ونحوه يلتحق به.
      وعند الحنفية : لا يلتحق به ولا يفسد العقد ويلغو الشرطن لأن إلحاق الشرط الفاسد بالعقد يغير العقد من الصحة إلى الفساد، فلا يصح فبقي العقد صحيحاً، كما كان، لأن العقد كلام لابقاء له، والالتحاق بالمعدوم لا يجوز، فكان ينبغي ألا يصح الإلحاق أصلاً، إلا أن إلحاق الشرط الصحيح بأصل العقد ثبت شرعاً للحاجة إليه، حتى صح قرانه بالعقد، فيصح إلحاقه به.

      حكم البيع وشرط عند غير الحنفية :
      أما تفصيل مذهب الشافعية فهو ما يأتي : إذا شرط في البيع شرط فإِن كان شرطاً يقتضيه العقد كتسليم المبيع والرد بالعيب ونحوهما، صح العقد، لأن الشرط المذكور مبين لما يقتضيه العقد. وكذلك يكون العقد صحيحاً إن شرط شرط لا يقتضيه العقد، ولكن فيه مصلحة لأحد العاقدين كالخيار والأجل والرهن والضمان أو الكفالة، لأن الشرع ورد بجوزاه، ولأن الحاجة تدعو إليه.
      فإِن شرط ما سواه من الشروط التي تنافي مقتضى البيع كأن اشترط البائع على المشتري ألا يبيع المبيع، أو لا يهبه، أو أن يبيعه شيئاً أو يقرضه مبلغاً من المال أو اشترط أن يسكن الدار مدة، أو اشترط المشتري على البائع أن يخيط له الثوب الذي اشتراه منه، أو يحصد له الزرع الذي اشتراه منه، أو يحذو له قطعة الجلد التي اشتراها، ففي كل هذه الحالات يكون البيع باطلاً، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع وشرط.
     
      وقال الحنابلة : يبطل البيع إذا كان فيه شرطان، ولا يبطله شرط واحد لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا بيع ما ليس عندك" رواه أبو داود والترمذي والمراد بالشرطين : ما ليسا من مصلحة العقد، كأن اشترى ثوباً واشترط على البائع خياطته وقصارته، أو طعاماً واشترط طحنه وحمله، فإِن اشترط أحد هذه الأشياء، فالبيع جائز.

      والشروط عند الحنابلة أربعة أقسام :
      أحدها- ما هو من مقتضى العقد كاشتراط التسليم، وخيار المجلس، والتقابض في الحال فهذا وجوده كعدمه، لا يفيد حكماً معيناً، ولا يؤثر في العقد.
      الثاني- ما تتعلق به مصلحة لأحد العاقدين أو لكيلهما، كالأجل والخيار والرهن والضمين أي الكفيل، والشهادة على البيع، أو اشتراط صفة مقصودة في المبيع، فهذا شرط جائز يلزم الوفاء به. قال ابن قدامة : ولا نعلم في صحة هذين القسمين خلافاً.
      الثالث- ما ليس من مقتضى العقد، ولا من مصلحته، ولا ينافي مقتضاه، وهو نوعان :
      1- اشتراط منفعة للبائع في المبيع، فإن كان شرطاً واحداً فلا بأس به كاشتراط المشتري على البائع أن يخيط له الثوب المشترى، أو اشتراط حمل حزمة الحطب إلى موضع معلوم، أو سكنى الدار مدة شهر مثلاً، أو حملانه على الدابة إلى محل معين. والدليل على الجواز حديث جابر، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من جابر بعيراً، واشترط حُملانه عليه إلى أهله في المدينة. رواه أحمد.
      2- أن يشترط عقد في عقد، نحو أن يبيعه شيئاً بشرط أن يبيعه شيئاً آخر، أو يشتري منه، أو يؤجره، أو يزوجه، أو يسلفه، أو يصرف له الثمن أو غيره، فهذا شرط فاسد يفسد به البيع، للنهي عن بيعتين في بيعة.
      الرابع- اشتراط ما ينافي مقتضى البيع، مثل أن يشترط ألا يبيع المبيع أو ألا يهبه، أو يشترط عليه أن يبيعه أو يقفه، ففي هذا روايتان عن أحمد، أصحهما أن البيع صحيح، والشرط باطل.

      وقال المالكية : في المذهب تفصيل :
      فإن كان الشرط يقتضي منع المشتري من تصرف خاص أو عام، فيبطل الشرط والبيع، مثل أن يشترط عليه ألا يبيع المبيع أو لا يهبه، فلا يجوز لأنه من الثُنْيا وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الثُنْيا في البيع إلا أن تعلم، فإِن أسقط هذا الشرط عن المشتري، جاز البيع.
      وإن اشترط البائع منفعة لنفسه كركوب الدابة، أو سكنى الدار مدة معلومة يسيرة كشهر وقيل : سنة، جاز البيع والشرط، عملاً بحديث جابر الآنف الذكر.
      وإن اشترط البائع شرطاً يعود بخلل في الثمن، فيجوز البيع ويبطل الشرط مثل أن يشترط "إن لم يأته بالثمن إلى ثلاثة أيام، فلا بيع بينهما". فإن قال البائع للمشتري : "متى جئتك بالثمن رددت إلي المبيع" وهو المعروف ببيع الوفاء عند الحنفية، لم يجز البيع.
     
      13- بيع الثمار أو الزروع :
      هذه الحالة تعرض كثيراً في الحياة العملية التجارية، لهذا نفصل الكلام فيها :
      أجمع العلماء على أن بيع الثمار قبل أن تخلق لا ينعقد، لأنه من باب النهي عن بيع مالم يخلق ومن باب بيع السنين والمعاومة.
      وقد روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه "نهى عن بيع السنين وعن بيع المعاومة" وهو بيع الشجر أعواماً، لأنه بيع المعدوم، وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر، والغرر كما عرفنا : هو ما انطوى عنه أمره، وخفي عليه عاقبته، ونوع الغرر : هو أن المبيع مجهول الوجود قد يظهر وقد لا يظهر، ومجهول المقدار إن وجد.
      وأما بيع الثمار بعد القطع أو الصرام، فلا خلاف في جوازه.
      وأما بيع الثمار على الشجر أو بيع الزرع في الأرض بعد أن يخلق، فاختلف فيه العلماء : فقال الحنفية : إما أن يكون البيع قبل بدو الصلاح أو بعد بدو الصلاح بشرط القطع، أو مطلقاً أو بشرط الترك.
أولاً- فإن كان البيع قبل بدو صلاح الزرع أو الثمر، فهناك حالات :
      1- إن كان بشرط القطع جاز، ويجب القطع للحال، إلا بإذن البائع.
      2- وإن كان البيع مطلقاً عن الشرط : جاز أيضاً عند الحنفية خلافاً للشافعي ومالك وأحمد، لأن الترك ليس بمشروط نصاً، إذ العقد مطلق عن الشرط أصلاً، فلا يجوز تقييده بشرط الترك من غير دليل، خصوصاً إذا كان في التقييد فساد العقد. وجواز بيعه على الصحيح عند الحنفية لأنه مال منتفع به ولو علفاً للدواب، وإن لم يكن منتفعاً به في الحال عند الإنسان.
      3- وإن كان بشرط الترك فالعقد فاسد باتفاق علماء الحنفية، لأنه شرط لا يقتضيه العقد، وفيه منفعة لأحد العاقدين : وهو المشتري ولا يلائم العقد، ولا جرى به التعامل بين الناس، ومثل هذا الشرط مفسد للبيع كما لو اشترى حنطة بشرط أن يتركها في دار البائع شهراً، ولأنه لا يتمكن من الترك إلا بإعارة الشجر والأرض، وهما ملك البائع، فصار بشرط الترك شارطاً الإعارة، فكان شرطه صفقة في صفقة، وهذا منهي عنه كما عرفنا. ثم إنه مشتمل على الغرر إذ لا يدري المشتري هل يبقى الثمر أم تصيبه آفة فيهلك، فعلة فساد البيع إذاً ثلاثة أمور : فيه غرر، وشرط فاسد، وصفقة في صفقة.

      ثانياً- وأما إن كان البيع بعد بدو الصلاح :
      1- فإِن باع بشرط القطع جاز.
      2- وكذا إن باع مطلقاً عن الشرط يجوز أيضاً كما قدمنا.
      3- وإن باع بشرط الترك، فإِن لم يتناه عِظمه، فالبيع فاسد بلا خلاف، كما بينا في الحالة الثالثة السابقة.
      وإن تناهى عظمه فالبيع فاسد عند أبي حنيفة، لأن شرط الترك فيه منفعة للمشتري، والعقد لا يقتضيه، ولا يلائمه، كما إذا اشترى حنطة على أن يتركها في دار البائع شهراً. وفي قول في المذهب : يجوز استحساناً لتعارف الناس وتعاطيهم بذلك. والجواز ليس لتعامل الناس شرط الترك في المبيع، وإنما التعامل بالمسامحة بالترك من غير شرط في عقد البيع. وبه يفتى.

      حكم ترك الثمار بعد بدو الصلاح حالة الشراء مطلقاً :
      لو اشترى الشخص مطلقاً عن شرط، فترك الثمار حتى نضجت، ففيه تفصيل :
      آ- إن كان قد تناهى عظمه، ولم يبق إلا النضج : لم يتصدق المشتري بشيء سواء ترك بإذن البائع أو بغير إذنه، لأنه لا يزداد بعد التناهي، وإنما يتغير إلى حال النضج. وأما الزرع فالنماء فيه يكون للمشتري طيباً، حتى وإن تركه بغير إذن البائع لأنه نماء ملك المشتري، لأن الساق ملكه، حتى يكون التبين له بخلاف الشجرة.
      ب- وإن لم يتناه عظمه ينظر : إن كان الترك بإذن البائع، جاز وطاب له الفضل. وإن كان بغير إذنه تصدق بما زاد على ما كان عند العقد، لأن الزيادة حصلت بسبب محظور، فأوجب خبثاً فيها، فكان سبيلها التصدُّق.

      حكم الثمرة المتجددة في مدة الترك غير المشروطة : إذا أخرجت الشجرة في مدة الترك ثمرة أخرى، فهي للبائع سواء أكان الترك بإذنه أم بغير إذنه، لأنه نماء ملك البائع، فيكون له، ولو حللها له البائع جاز.
      وإن اختلط الحادث بعد العقد بالموجود عنده، بحيث لا يمكن التمييز بينهما ينظر :
      إن كان ذلك قبل أن يخلي البائع بين المشتري والثمار، بطل البيع، كما قرر الكاساني في البدائع، لأن المبيع صار معجوز التسليم بالاختلاط، للجهالة وتعذر التمييز.
      وإن كان بعد التخلية لم يبطل البيع، لأن التخلية قبض، ويتم البيع، والثمرة تكون بينهما، لاختلاط ملك أحدهما بالآخر اختلاطاً لا يمكن التمييز بينهما، فكان الكل مشتركاً بينهما، والقول في مقدار الزيادة قول المشتري، لأنه صاحب يد لوجود التخلية. هذا هو مذهب الحنفية في بيع الثمار أو الزروع.
     
      وقال المالكية والشافعية والحنابلة : إن بدا صلاح الثمر بيعه مطلقاً أو بشرط القطع أو بشرط الترك على الشجر.
      أما قبل بدو الصلاح فإن كان البيع بشرط الترك أو البقاء فلا يصح إجماعاً، لأن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، نهى البائع والمبتاع" والنهي يقتضي فساد المنهي عنه، قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على القول بجملة هذا الحديث، وذلك لأن له خطر المعدوم.
      وإن كان البيع بشرط القطع في الحال فيصح بالإجماع أيضاً.   
      وأما إذا كان البيع قبل بدو الصلاح مطلقاً دون اشتراط تبقية ولا قطع، فالبيع باطل.
      والخلاصة لا خلاف في عدم جواز بيع الثمار قبل أن تظهر، ولا في عدم جوازه بعد الظهور قبل بدو الصلاح بشرط الترك، ولا في جوازه قبل بدو الصلاح بشرط القطع فيما ينتفع به، ولا في الجواز بعد بدو الصلاح، والخلاف إنما هو في بيعها قبل بدو الصلاح.
      ورجح بعض الحنفية جواز بيع الثمار مطلقاً قبل بدو الصلاح أو بعده إذا جرى العرف بترك ذلك، لأن الشرط الفاسد إذا جرى به العرف صار صحيحاً ويصح العقد معه استحساناً.
  حكم البيع الفاسد :
      سنذكر حكم البيع الفاسد وما يلحق به من الكلام في التصرف بالمبيع، وفسخ المشتري شراء فاسداً، والزيادة في المبيع بيعاً فاسداً.
      للبيع الفاسد عند الحنفية أحكام، منها : أن البيع ينعقد بقيمة المبيع أو بالمثل، لا بالثمن المسمى، ويفيد الملك في المبيع بالقبض، لأن ذكر الثمن المرغوب كالخمر مثلاً، أو إدخال شرط فاسد، أو وجود الجهالة في الثمن ونحوها، دليل على أن غرض المتعاقدين البيع، فينعقد بيعاً بقيمة المبيع باعتبار أن القيمة هي الواجب الأصلي في المبايعات، لأنها مثل المبيع في المالية. ويكون المبيع ببيع فاسد مضموناً في يد المشتري يلزمه مثله إن كان مثلياً، والقيمة إن كان قيمياً.
      وعند جمهور الفقهاء : لا ينعقد البيع الفاسد، ولا يفيد الملك أصلاً، وإن قبض المشتري المبيع، لأن المحظور لا يكون طريقاً إلى الملك، ولأن النهي عن البيع الفاسد يقتضي عدم المشروعية، وغير المشروع لا يفيد حكماً شرعياً.

      ويشترط في البيع الفاسد لإفادة الملك عند الحنفية شرطان :
      1- القبض : فلا يثبت الملك قبل القبض، لأنه واجب الفسخ رفعاً للفساد، وفي التسليم تقرير الفساد، كما بينا.
      2- أن يكون القبض بإذن البائع : فإن قبض بغير إِذنه أصلاً لا يثبت الملك، وذلك بأن نهاه عن القبض أو قبض بغير محضر منه من غير إذنه.
      فإِن لم ينهه عن القبض ولا أذن له في القبض صريحاً، فقبضه في مجلس العقد بحضرة البائع، أنه يثبت الملك، وهو الصحيح لأن ذلك إذن منه بالقبض دلالة، كما في باب الهبة إذا قبض الموهوب له بحضرة الواهب، فلم ينهه، صح قبضه، ولأن البيع تسليط من البائع على القبض، فإذا قبضه المشتري بحضرة البائع، كان بحكم التسليط السابق.
     
      التصرف في المشترى شراء فاسداً :
      من أحكام البيع الفاسد : أن المشتري بعد قبض المبيع يملك التصرفات الناقلة للملكية التي تتعلق بعين الشيء، وتكون نافذة مثل البيع والهبة والصدقة والرهن والإجارة، لأن هذه التصرفات تزيل حق الانتفاع بالحرام، ولكن الصحيح عند الحنفية أن هذه التصرفات تكون مكروهة لأنه يجب فسخ العقد الفاسد لحق الشرع، وفي هذه التصرفات إبطال أو تأخير لحق الفسخ، فتكره.
      وأما التصرفات التي تتعلق بعين الشيء، في الانتفاع بالعين كأكل الطعام ولبس الثوب وركوب الدابة وسكنى الدار، فلا تباح للمشتري شراء فاسداً، لأن الثابت بالبيع الفاسد ملك خبيث، والملك الخبيث لا يفيد إطلاق الانتفاع، لأنه واجب الرفع والبطلان، وهذا هو الصحيح عند الحنفية.
     
      ما يبطل حق الفسخ :
      1- التصرف الواقع على المشترى شراءً فاسداً :
      من المعروف أن الملك الثابت في البيع الفاسد ملك غير لازم، بل هو مستحق الفسخ، ويحق لكل من العاقدين قبل القبض فسخ العقد من غير رضا الآخر، كيفما كان الفساد، كما يحق لهما الفسخ بعد القبض إذا كان الفساد راجعاً إلى العوض، كأن يكون الثمن خمراً أو خنزيراً.

      هذا بالنسبة لأصل التصرف الفاسد، فهل يبطل حق الفسخ بسبب التصرف الواقع بعد القبض على المشترى شراء فاسداً ؟ فيه تفصيل.
      1- إن كان التصرف مزيلاً للملك من كل وجه كالبيع والهبة، فلا يفسخ (أي أن حق الفسخ في البيع الفاسد يبطل) وعلى المشتري القيمة أو المثل، لأنه تصرف في محل مملوك له، فنفذ تصرفه.
      2- وإن تصرفاص مزيلاً للملك من وجه، أو ليس مزيلاً للملك :
      فإن كان التصرف يحتمل الفسخ، كالإِجارة فإنه يفسخ، لو آجر رجل الشيء، حقَّ للمالك الأول فسخ الإجارة، ثم يفسخ البيع بسبب الفساد، لأن الإجارة وإن كانت عقداً لازماً، إلا أنها تفسخ بالعذر، ولا عذر أقوى من رفع الفساد.
      ولو أوصى شخص بالمبيع بيعاً فاسداً، صحت الوصية، ويجوز فسخها مادام الموصي حياً، لأن الوصية تصرف غير لازم حال حياة الموصي.
      فلو مات الموصي قبل الفسخ، سقط حق الفسخ، لأن الملك انتقل إلى الموصى له، كما ينتقل بالبيع.
      ويلاحظ أن حق الفسخ يورث، فلو مات المشتري شراء فاسداً فورثه الورثة، فيحق للبائع الفسخ، وكذا الورثة، لأن الوارث يقوم مقام الميت في حق الفسخ، وكذا يحق لورثة البائع إن مات أن يطالب ورثته باسترداد المبيع.

      2- الزيادة في المبيع بيعاً فاسداً :
      إذا حدثت زيادة في المبيع بيعاً فاسداً، فإما أن تكون زيادة منفصلة أو متصلة :
     
      1- الزيادة المتصلة : الزيادة المتصلة إما أن تكون متولدة من الأصل أو غير متولدة.
      آ- فإن كانت متولدة من الأصل كالسمن والجمال، فلا تمنع الفسخ، لأن هذه الزيادة تابعة للأصل حقيقة، والأصل مضمون الرد، فكذلك التبع، كما في الغصب.
      ب- وإن كانت غير متولدة من الأصل كخلط الدقيق بالسمن أو العسل، فإنها تمنع الفسخ لأنه لو فسخ إما أن يفسخ على الأصل وحده أو على الأصل والزيادة معاً، ولا سبيل إلى الأول لتعذر الفصل، ولا سبيل إلى الثاني، لأن الزيادة لم تدخل تحت البيع، لا أصلاً ولا تبعاً، فلا تدخل تحت الفسخ.

      2- الزيادة المنفصلة : هذه الزيادة أيضاً إِما متولدة من الأصل أو غير متولدة منه.
      آ- فإن كانت متولدة من الأصل كالولد واللبن والثمرة، فلا تمنع حق الفسخ، وللبائع أن يسترد الأصل مع الزيادة تابعة للأصل، لكونها متولدة منه، والأصل مضمون الرد، فكذلك الزيادة، كما هو المقرر في حالة الغصب.
      ب- وإن كانت غير متولدة، كالهبة والصدقة والكسب، فإنها لا تمنع الرد، وللبائع أن يسترد الأصل مع الزيادة، لأنها حصلت على ملكه، إلا أنها لا تطيب له، لأنها لم تحدث في ضمانه، بل في ضمان المشتري.
      والخلاصة : أن الزيادة المتصلة غير المتولدة : هي التي تبطل حق الفسخ فقط دون غيرها من أنواع الزيادة. ولا تضمن الزيادة بالهلاك، وتضمن بالاستهلاك.
      وكذلك الزيادة بالصنع تبطل حق الفسخ : وهي أن يحدث المشتري في المبيع بيعاً فاسداً صنعاً، لو فعله الغاصب في المغصوب يصير ملكاً له، كما إذا كان المبيع قطناً، فعزله، أو غزلاً فنسجه، أو حنطة فطحنها، أو سمسماً أو عنباً فعصره، أو ساحة فبنى عليها، أو شاة فذبحها وشواها أو طبخها ونحوها، إذ القبض في البيع الفاسد كقبض الغصب، لأن كل واحد منهما مضمون الرد حال قيامه، ومضمون القيمة أو المثل حال هلاكه، فكل ما يبطل حق المالك في الغصب يبطله في البيع. وحينئذ يلزم المشتري بدفع قيمة الشيء المبيع يوم القبض، كما في الغصب.
      وعلى هذا فليس للبائع المطالبة بنقض البناء الذي بناه المشتري في الأرض المبيعة بيعاً فاسداً، وإنما على المشتري قيمتها، هذا قول أبي حنيفة رضي الله عنه.
      وأما نقصان المبيع بيعاً فاسداً فلا يمنع البائع من الاسترداد، سواء حصل النقص بآفة سماوية أو بفعل المبيع أو بفعل المشتري، فإن حصل بفعل أجنبي، فالبائع بالخيار : إن شاء أخذ قيمة النقص من المشتري يرجع به على الجاني، وإن شاء طالب الجاني وهو لا يرجع على المشتري.

      1- خيار الوصف، أو خيار فوات الوصف المرغوب فيه :
      هو أن يكون المشتري مخيراً بين أن يقبل بكل الثمن المسمى أو أن يفسخ البيع حيث فات وصف مرغوب فيه، في بيع شيء غائب عن مجلس العقد. مثاله أن يشتري شيئاً يشترط فيه صفقة معينة غير ظاهرة، وإنما تعرف بالتجربة، ثم يتبين عدم وجودها، أو يشتري بقرة على أنها حلوب، فظهرت غير حلوب، أو يشتري جوهرة على أنها أصلية، فظهرت أنها تقليد صناعي للأصلية، فيكون المشتري مخيراً إن شاء فسخ البيع، وإن شاء أخذ المبيع بجميع الثمن المسمى، لأن هذا وصف مرغوب فيه، يستحق في العقد بالشرط، فإذا فات أوجب التخيير، لأن المشتري ما رضي به دونه، فصار كفوات وصف السلامة.
      وأما سبب أخذه بجميع الثمن في رأي الحنفية : فهو لأن الأوصاف لا يقابلها شيء من الثمن، لكونها تابعة في العقد.
      ودليل مشروعيته الأخذ باستحسان المصلحة على خلاف القياس. ويعده الشافعية والحنابلة داخلاً في خيار العيب.

      وشروطه ثلاثة :
      1- أن يكون الوصف المشروط مباحاً شرعاً : فإذا كان حراماً لم يصح.
      2- أن يكون الوصف مرغوباً فيه عادة : فإذا لم يكون مرغوباً فيه في العرف، لغا الشرط، وصح البيع، ولا خيار، مثل وصف الذكورة والأنوثة في الحيوانات، فمن اشترى شيئاً على أنه ذكر فإذا هو أنثى، صح البيع ولم يثبت الخيار.
      3- ألا يكون تحديد الوصف المرغوب فيه مؤدياً إلى جهالة مفضية للمنازعة، فإن فعل فسد البيع والشرط، كأن يشترط في البقرة الحلوب أن تحلب كذا رطلاً يومياً، فهذا شرط فاسد، لأنه لا يمكن ضبطه.

      أحكام هذا الخيار :
      أ- يورث خيار الوصف، فلو مات المشتري الذي له خيار الوصف، فظهر المبيع خالياً من ذلك الوصف، كان للوارث حق الفسخ.
      ب- إذا تصرف المشتري الذي له خيار الوصف بالمبيع تصرف الملاك، بطل خياره.
      جـ- يثبت للمشتري الحق في فسخ البيع أو استبقاء المبيع بجميع الثمن، فإن هلك المبيع أو تعيب في يده، فله الرجوع على البائع بمقدار نقص المبيع بسبب فوات الوصف المرغوب فيه، ويعرف ذلك بتقويم المبيع مع الوصف، وبدون الوصف، ويضمن المشتري الفرق بينهما.
      2- خيار النقد :
      هو فرع عن خيار الشرط، وهو أن يشترط المتبايعان في عقد البيع بالنسيئة أن المشتري إذا لم يدفع الثمن في الأجل المعين، وهو ثلاثة أيام، فلا بيع بينهما. فإن اشترى على هذا النحو على أنه إن لم ينقد (يدفع) الثمن إلى أربعة أيام، لم يصح خلافاً لقول في المذهب لأن هذه هي المدة المشروعة في خيارالشرط. ورأعى محمد مصلحة العاقدين في اشتراطه إلى أي مدة كانت.
      فإن نقد في مدة الثلاثة الأيام، جاز باتفاق الحنفية، لأن خيار النقد ملحق بخيار الشرط. وهو جائز أيضاً عند الحنابلة كشرط الخيار، لكن ينفسخ البيع عندهم إن لم ينقد المشتري الثمن في المدة أو هو أن يشترط البائع على المشتري أنه إذا رد الثمن إلى المشتري في مدة ثلاثة أيام، فلا بيع بينهما، فله وجهان إذاً.
      والفرق بينه وبين خيار الشرط : أن الأصل في خيار الشرط اللزوم، فإذا انتهت المدة المشروطة دون فسخ، لزم. أما خيار النقد فالأصل فيه عدم اللزوم، فإذا لم ينقد الثمن في الثلاث فسد البيع إذا بقي المبيع على حاله، ولا ينفسخ، بدليل أن المشتري يتملك المبيع بالقبض. وعند الحنابلة : ينفسخ البيع.

      حكم سقوطه :
      1- إذا مات المشتري المخير بخيار النقد في أثناء مدة الخيار، بطل البيع.
      2- إذا تصرف المشتري بالمبيع بالبيع ونحوه في مدة الخيار، قبل أن ينقد الثمن، سقط خياره، وصح بيعه ولزم، ولزم المشتري نقد الثمن.
      3- إذا أتلف المشتري أو الأجنبي المبيع في مدة الخيار بعد القبض، سقط به الخيار، للعجز عن الرد.
      4- إذا أحدث المشتري في المبيع عيباً يمنع رده للبائع، ولم ينقد الثمن، سقط الخيار، ويخير البائع حينئذ بين أخذ المبيع ناقصاً، ولا شيء له من الثمن، وبين تركه وأخذ الثمن.

      3- خيار التعيين :
      هو أن يتفق العاقدان على تأخير تعيين المبيع الواجب التعيين إلى أجل، على أن يكون حق تعيينه لأحدهما، مثل أن يشتري أحد ثوبين أو ثلاثة غير معين على أن يأخذ أيهما شاء، على أنه بالخيار ثلاثة أيام.
      وله وجهان كخيار النقد : إما أن يأخذ المشتري أحد الأشياء المبيعة بالثمن الذي بينه له البائع لكل واحد، أو يعطي البائع أي واحد أراد من الأشياء المعينة، وله أن يلزم المشتري به إلا إذا تغيب فلا يلزمه إلا بالرضا. ولو هلك أحدهما كان له أن يلزمه بالباقي.
      وقد أجازه الحنفية استحساناً لحاجة الناس إليه، بالرغم من الجهالة، عملاً بالمصلحة والعرف للحاجة إلى اختيار ما هو الأوفق والأرفق، وأبطله الشافعية والحنابلة للجهالة.
      والأصح عند الحنفية أنه لا يشترط اقترانه بخيار الشرط، وإنما يجوز للعاقدين ذلك.

      شروطه : اشترط الحنفية لهذا الخيار شروطاً هي ما يأتي :
      1- أن يكون التخيير على شيء ما اثنين أو ثلاثة فقط : فإذا كان على شيء من أربعة لم يجز، لأن الحاجة في الثلاثة، لانقسام الأشياء إلى جيد ووسط ورديء.
      2- أن يوافق البائع صراحة على خيار التعيين : بأن يقول للمشتري : بعتك أحد الشيئين أو الثلاثة على أنك بالخيار في واحد منها، فإن لم يوافق على ذلك، فسد البيع للجهالة.
      3- أن يكون البيع في القيميات كأنواع الألبسة والمفروشات، لا في المثليات كالكتب المطبوعة الجديدة، لعدم الفائدة في التخيير بينها لعدم تفاوتها.
      4- أن تكون مدته كمدة خيار الشرط : وهي ثلاثة أيام عند أبي حنيفة، وأي مدة معلومة كانت على قول آخر في المذهب.

      أحكامه :
      أ- يلزم البيع في واحد غير معين من أفراد المبيع المتفق عليها، ويلزم صاحب الحق الخيار أن يعين الشيء الذي يأخذه في انقضاء المدة التي عينت ودفع ثمنه.
      ب- يورث هذا الخيار عند الحنفية، بخلاف خيار الشرط، فلو مات من له الخيار قبل التعيين، يكون الوارث مجبراً أيضاً على تعيين أحد المبيعات ودفع ثمنه.
      جـ- هلاك أو تعيب أحد الأشياء أو كلها :
      إذا هلك أحد المبيعين تعين الآخر مبيعاً، وكان الباقي أمانة في يد المشتري. وإذا هلك المبيعان معاً، ضمن المشتري نصف ثمن كل منهما لعدم التعيين، وإن هلك المبيعان على التعاقب، تعين الأول مبيعاً. فلو اختلف العاقدان في الهالك أولاً، فالقول للمشتري بيمينه، وبينة البائع أولى.
      والتعيب كالهلاك في الأحوال المذكورة. ولو باع المشتري المبيعين ثم اختار أحدهما، صح بيعه فيه. والمبيع مضمون بالثمن، وغيره أمانة.
      4- خيار الغبن :  
      هذا الخيار مشروع عند الحنفية إذا اشتمل الغبن على تغرير، فيسمى خيار الغبن مع التغرير : وهو أن يغرر البائع المشتري أو بالعكس تغريراً قولياً وهو التغرير في السعر، أو تغريراً فعلياً وهو التغرير في الوصف، ويكون الغبن فاحشاً : وهو ما لا يدخلتحت تقويم المقومين. أما الغبن اليسير : وهو ما يدخل تحت تقويم المقومين، فلا يؤثر، إذ لا يتحقق كونه زيادة، أما الفاحش فزيادته متحققة. فيثبت حينئذ حق إبطال العقد دفعاً للضرر عنه.
      والتغرير القولي في السعر : كأن يقول البائع أو المؤجر للمشتري أو للمستأجر : يساوي هذا الشيء أكثر ولا تجد مثله، أو دفع لي فلان فيه كذا، وكل ذلك كذب.
      والتغرير الفعلي في الوصف : يكون بتزوير وصف في محل العقد يوهم المتعاقد في المعقود عليه مزية ما غير حقيقية، كتوجيه البضاعة المعروضة للبيع، بجعل الجيد منها في الأعلى، وجعل الرديء منها في الأسفل. ومنه التصرية : جمع اللبن في الضرع، وهي حرام، توجب الخيار للعاقد المغرور كفوات الصفة المشروطة. أما تدليس العيب : وهو كتمان أحد المتعاقدين عيباً خفياً يعلمه في محل العقد عن المتعاقد الآخر في عقود المعاوضة، فهو المسمى عندهم خيار العيب.
      وحكمه : إعطاء المغبون المغرور حق خيار فسخ العقد دفعاً للضرر عنه، نظراً لعدم تحقق رضاه، بسبب التغرير والغبن الفاحش. وإذا مات المغرور بغبن فاحش لا تنتقل دعوى التغرير لوارثه.
      ويسقط حق المغرور في الفسخ للمشتري إذا تصرف في المبيع بعد أن اطلع على الغبن الفاحش، أو بنى بناء في الأرض المشتراة، أو إذا هلك المبيع أو استهلك أو حدث فيه عيب.
      وقال الحنابلة : هناك خيار غبن، وخيار تدليس، وخيار عيب.
      أما خيار الغبن عند الحنابلة فيثبت في ثلاث صور :
      إحداها- تلقي الركبان : وهم القادمون من السفر بجلوبة (وهي ما يجلب للبيع) وإن كانوا مشاة، وهو عند الجمهور : يحرم، وقال الحنفية : يكره، ولو كان تلقيهم بغير قصد التلقي لهم. فإذا اشترى المتلقي منهم أو باعهم شيئاً، ثبت لهم الخيار إذا هبطوا السوق، وعلموا أنهم قد غبنوا غبناً يخرج عن العادة، لقوله عليه السلام : "لا تلقوا الجَلَب فمن تلقاه فاشترى منه، فإذا أتى السوق، فهو بالخيار" رواه مسلم.

      والثانية- النجش : وهو أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها. وهو حرام، لما فيه من تغرير المشتري وخديعته، فهو في معنى الغش، ويثبت للمشتري بالنجش الخيار إذا غبن غبناً غير معتاد.
      ولا يتم النجش إلا بحذق من زاد في السلعة، وأن يكون المشتري جاهلاً، فلو كان عارفاً واغتر بذلك، فلا خيار له لعجلته وعدم تأمله.
      فإن زاد من لا يريد الشراء بغير مواطأة مع البائع، أو زاد البائع في الثمن بنفسه، والمشتري لا يعلم ذلك، فيخير المشتري لوجود التغرير بين رد المبيع وإمساكه.

      الثالثة- بيع المسترسل أو إجارته : وهو الجاهل بالقيمة، من بائع ومشتر، ولا يحسن المماسكة. فله الخيار إذا غبن غبناً غير معتاد. ويقبل قوله بيمينه أنه جاهل بالقيمة، ما لم تكن قرينة تكذبه في دعوى الجهل، فلا تقبل منه.
      وخيار الغبن كخيار العيب على التراخي عندهم.
      وأما خيار التدليس : فهو بسبب التغرير، والعقد معه صحيح، والتدليس حرام وهو نوعان :
      أحدهما- كتمان العيب. ويسمى هذا عند الحنفية خيار العيب.
      والثاني- فعل يزيد به الثمن، وإن لم يكن عيباً، كجمع ماء الرحى وإرساله عند عرضها للبيع، ليزيد دوانها بإرسال الماء بعد حبسه، فيظن المشتري أن ذلك عادتها، فيزيد في الثمن. ومنه تحسين وجه الصبرة (الكومة)، وصقل السكاف وجه الحذاء، وتصنع النساج وجه الثوب، والتصرية أي جمع اللبن في ضرع بهيمة الأنعام، ونحو ذلك. وهذا النوع هو المسمى عند الحنفية بالتغرير الفعلي في الوصف.
      والتدليس بنوعية يثبت للمشتري خيار الرد إن لم يعلم به، أو الإمساك، لقوله عليه السلام : "لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبيها، إن شاء أمسك، وإن شاء ردها، وصاعاً من تمر" متفق عليه. وغير التصرية من التدليس ملحق بها.
      وقد أخذ الجمهور بضمون هذا الحديث : وهو التخيير بعد الحلب بين إمساك المبيع إن رضيه، وبين رده مع صاع من تمر إن سخطه.
      وقال أبو حنيفة : يرجع المشتري بالنقصان فقط إن شاء.
      وأما خيار العيب عند الحنابلة : فهو بسبب نقص عين المبيع، كخصاء، ولو لم تنقص به القيمة، بل زادت، أو نقص قيمته عادة في عرف التجار، وإن لم تنقص عينه.

      5- خيار كشف الحال :
      وهو أن يشتري شيئاً بوزن غير معلوم القدر، أو بكيل غير معلوم المقدار، كأن يشتري بوزن هذا الحجر ذهباً، أو هذه الصبرة (الكومة) كل صاع بكذا، يصح البيع في الحالتين، ويكون للمشتري الخيار : إن شاء أمضى البيع وإن شاء فسخه.

      6- خيار الخيانة :
      هو الذي يثبت في بيوع الأمانة من تولية أو شركة أو مرابحة أو وضيعة إذا أخبر البائع المشتري بزيادة في الثمن أو نحو ذلك، كإخفاء تأجيله، ثم يظهر كذبه أو خيانته بإقرار أو برهان على ذلك، أو بما عند الحنفية أيضاً بنكول عن اليمين. ويخير المشتري بسبب ذلك عند الحنفية والمالكية بين أخذ المبيع بكل ثمنه، أو رده لفوات الرضا، وله الحط من الثمن قدر الخيانة في التولية.
      وقال الشافعية في الأظهر والحنابلة : لا خيار للمشتري بسبب الخيانة، وإنما له الحط من الثمن مقدار الخيانة.

      7- خيار تفرق الصفقة :
      هو الذي يثبت للمشتري بسبب تجزئة المبيع، فيكون له الخيار بين فسخ البيع واسترداد الثمن كله إن دفعه، أو أخذ باقي المبيع مع حسم ما يقابل العيب أو الهلاك من الثمن. وله صور متعددة.
      فيثبت عند الحنفية بهلاك أو تعيب بعض المبيع بيد البائع قبل قبض المشتري، ومجمل حكم الهلاك : أنه إن كان بآفة سماوية أو بفعل البائع يبطل البيع وإن كان بفعل أجنبي يتخير المشتري إن شاء فسخ البيع، وإن شاء أجاز، وضمَّن المستهلك.
      وقال المالكية : يثبت هذا الخيار في حالة كون المبيع معيباً، أو استحقاق بعض مبيع متعدد اشتري صفقة واحدة، فإن كان وجه الصفقة نقضت، ولا يجوز له التمسك بالباقي، وإن كان غير وجهها، جاز التمسك به، وأخذ الباقي بالتقويم، لا بنسبته من الثمن المسمى، فيقال : ما قيمة هذا الباقي ؟ فإذا قيل : ثمانية، قيل : وما قيمة المستحق او المتعيب ؟ فإذا قيل : اثنان، رجع المشتري على بائعه بخمس الثمن الذي دفعه له.
      وقال الشافعية : أن في تفريق الصفقة قولين عند الشافعية، أظهرهما - أن البيع يبطل فيما لا يجوز، ويصح فيما يجوز، لأنه ليس بطلانه فيهما لبطلانه في أحدهما بأولى من تصحيحه فيهما، لصحته في أحدهما، فبطل حمل أحدهما على الآخر، وبقيا على حكمهما، فصح فيما يجوز، وبطل فيما لا يجوز. والقول الثاني أن الصفقة لا تفرق، فيبطل العقد فيهما.
      وقال الحنابلة : معنى تفريق الصفقة : أي تفريق ما اشتراه في عقد واحد : وهو أن يجمع بين ما يصح بيعه وما لا يصح بيعه، صفقة واحدة بثمن واحد. ولهذا الجمع ثلاث صور:

      إحداها- أن يبيع شخص معلوماً ومجهولاً تجهل قيمته أي يتعذر علمه، فلا مطمع في معرفته، مثل : بعتك هذه الفرس، وما في بطن هذه الفرس الأخرى بكذا، فلا يصح البيع فيهما، لأن المجهول لا يصح بيعه لجهالته، والمعلوم مجهول الثمن، ولا سبيل إلى معرفته، لأن معرفته إنما تكون بتقسيط الثمن عليهما، وحمل الفرس لا يمكن تقويمه، فيتعذر التقسيط.
     
      الثانية- أن يبيع شخص مشاعاً بينه وبين غيره بغير إذن شريكه، فيصح البيع في نصيبه بقسطه، وللمشتري الخيار بين الرد والإمساك إذا لم يكن عالماً بأن المبيع مشترك بينه وبين غيره، لأن الشركة عيب. فإن كان عالماً فلا خيار له وللبائع أيضاً. وللمشتري الأرش إن أمسك فيما ينقصه التفريق، كزوج خف.
     
      الثالثة- أن يبيع رجل متاعه ومتاع غيره بغير إذنه صفقة واحدة، أو يبيع خلاً وخمراً صفقة واحدة، فيصح البيع في متاعه بقسطه دون متاع غيره، ويصح في الخل بقسطه من الثمن، فيوزع على قدر قيمة المبيعين ليعلم ما يخص كلاً منهما. ويقدر الخمر إذا بيع مع الخلّ خلاً، ليقسط الثمن عليهما. ولا خيار للبائع.
      وقال الحنابلة أيضاً : إذا وقع العقد على مكيل أو موزون، فتلف بعضه قبلى قبضه، لم ينفسخ العقد في الباقي، رواية أخرى، ويأخذ المشتري الباقي بحصته من الثمن.
     
      8- خيار إجازة عقد الفضولي :
      هو الخيار الثابت للمالك إذا باع غيره له سلعة بغير أمره، ويعد البيع موقوفاً عند الحنفية والمالكية، ويخير المالك بين إجازة العقد فيصبح نافذاً، وبين رده فيبطل.

      9- خيار تعلق حق الغير بالمبيع :
      هو الخيار الثابت لمن له حق في المبيع من دائن مرتهن أو مستأجر، فإذا اشترى رجل داراً ثم ظهر أنها مرهونة أو مؤجرة، خير بين الفسخ وعدمه، دفعاً للضرر عن نفسه، حتى ولو كان عالماً بذلك.
      فإن أجاز المستأجر أو المرتهن فلا خيار للمشتري، وإن لم يجز ثبت الخيار له بين الانتظار حتى نهاية مدة الإجارة وفكاك الرهن، أو الفسخ.

      10- خيار الكمية للبائع :
      هو أن يشتري إنسان بما في الخابية أو الوعاء أو اليد ونحوها، ولا يعرف البائع شيئاً عن الموجود كمية ونوعاً، فيكون البائع بعد فتح الخابية أو الوعاء أو اليد مخيراً بين إمضاء البيع وفسخه بعد رؤية الثمن. وهذا يسمى عند الحنفية خيار كمية، لا خيار رؤية، لأن خيار الرؤية لا يثبت في النقود.

      11- خيار الاستحقاق :
      هو الخيار الثابت للمشتري بسبب استحقاق المبيع كله أو بعضه، وتفصيله عند الحنفية : إن كان استحقاق المبيع قبل قبض الكل خير في الكل، وإن كان استحقاقه بعد القبض خيِّر في الشيء القيمي، لا في المثلي كالمكيل والموزون. وإن كان الاستحقاق لبعض المبيع قبل القبض، يبطل العقد في الجزء المستحق، ويخير المشتري في أخذ الجزء الباقي بحصته من الثمن أو رده.
      وإن كان الاستحقاق لبعض المبيع بعد القبض، يبطل البيع في الجزء المستحق أيضاً، وأما الجزء الباقي فيخير المشتري في قبول الباقي بحصته من الثمن إن أضره التبعيض كالثوب والدار، ويلتزم بالباقي إن لم يضره التبعيض كالمكيل والموزون.
      وذلك كله إن لم يجز المستحق البيع، فإن أجازه، لزم البيع، إذ لا ضرر بالتبعيض.

      12- خيار الشرط
      خطة الموضوع :
      المطلب الأول- الخيار المفسد للبيع والخيار المشروع :
      الخيار المفسد : اتفق الحنفية والشافعية والحنابلة في الصحيح من مذهبهم على أن العاقدين إذا ذكرا الخيار مؤبداً، كأن يقول أحدهما : "بعت، أو اشتريت على أني بالخيار أبداً" أو ذكر الخيار مطلقاً، كأن يقول أحدهما : "على أني بالخيار أو متى شئت" أو ذكرا وقتاً مجهولاً كقدوم زيد، أو هبوب ريح، أو نزول مطر، أو أياماً، فإن العقد غير صحيح لوجود الجهالة الفاحشة.
      إلا أن الشافعية والحنابلة قالوا : العقد باطل. وقال الحنفية : العقد فاسد فقط، فإذا أسقط الشرط قبل مضي مدة ثلاثة أيام، أو حذف الزائد، أو بينت مدة الخيار، صح البيع، لزوال المفسد.
      وقال مالك وأحمد في رواية عنه : يجوز الخيار المطلق، إلا أن الإمام أحمد قال فيه : "وهما على خيارهما أبداً، أو يقطعاه، أو تنتهي مدته". وقال الإمام مالك : السلطان يحدد له مدة كمدة خيار مثله في العادة، لأن اختيار المبيع في مثله مقدَّر في العادة، فإذا أطلق الخيار حمل على المعتاد، ويفسد البيع عند المالكية إذا وقع بشرط مدة زائدة على مدته بكثير "أي بعد يوم" أو بشرط مدة مجهولة كإِلى أن تمطر السماء أو يقدم زيد.
     
      الخيار المشروع : وهو أن يذكر وقت معلوم، وقد ثبتت مشروعية خيار الشرط بحديث حبان بن منقذ الذي كان يغبن في البيع والشراء، فشكا أهله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : "إذا بايعت فقل : لا خلابة(1) وليّ الخيار ثلاثة أيام" رواه البخاري ومسلم ولمساس الحاجة إليه لدفع الغبن. وخيار الشرط مشروع عند جمهور الحنفية، سواء أكان الشرط العاقد أم لغيره لتحقيق حاجة الناس. ولا يجوز الخيار والأجل في البيوع التي فيها الربا : وهي عقد الصرف، وبيع المكيل والموزون عند الحنفية، والطعام بالطعام عند الشافعية، لأنه يشترط فيها القبض قبل التفرق بالأبدان، وذكر الخيار أو الأجل ينافي القبض.

      المطلب الثاني- آراء الفقهاء في مدة الخيار المشروع :
      قال أبو حنيفة والشافعي : يجوز شرط الخيار في مدة معلومة لا تزيد على ثلاثة أيام، لأن الأصل امتناع الخيار، لكونه مخالفاً لوضع البيع، فإنه يمنع نقل الملك أو لزومه، إلا أنه ثبت على خلاف هذا الأصل بحديث حبان بن منقذ السابق ذكره.
      ويبطل العقد عند الشافعي. وكونه لا يجوز أكثر من ثلاثة، لأنه غرر، وفيما دون الثلاث رخصة، فلا يجوز الزيادة عليها، وفي الجملة : إن الخيار ينافي مقتضى البيع لولا ثبوته بالشرع.
      وعند الحنابلة وفي رواية في المذهب الحنفية : يجوز اشتراط مدة الخيار بحسب ما يتفق عليه البائع والمشتري من المدة المعلومة، قلَّت مدته أو كثرت. ودليلهم ما روي أن ابن عمر "أجاز الخيار إلى شهرين" ولأن الخيار حق يعتمد الشرط، فرجع في تقديره إلى مشترطه، كالأجل. وبعبارة أخرى: إن مدة الخيار ملحقة بالعقد، فكانت إلى تقدير المتعاقدين كالأجل.
      وقال المالكية : يجوز الخيار بقدر ما تدعو إليه الحاجة، ويختلف ذلك باختلاف الأمور، فالفاكهة التي لا تبقى أكثر من يوم لا يجوز شرط الخيار فيها أكثر من يوم، والثياب أو الدابة : ثلاثة أيام، والأرض التي لا يمكن الوصول إليها في ثلاثة أيام يجوز شرط الخيار فيها أكثر من ثلاثة أيام، والدار ونحوها تحتاج مدة شهر.
(1) لا خديعة.
      المطلب الثالث- طرق إسقاط الخيار :
      العقد الذي فيه الخيار عقد غير لازم، ويصبح لازماً إذا سقط الخيار بعد ثبوته، وطرق الإِسقاط ثلاثة :
      1- الإسقاط الصريح : هو أن يقول صاحب الخيار : أسقطت الخيار أو أبطلته أو أجزت البيع أو رضيت به، ونحوها، فيبطل الخيار، سواء علم المشتري بالإِجازة أو لم يعلم، لأن الخيار شرع للفسخ، فإذا سقط يبطل الخيار رجوعاً إلى الإصل في العقد : وهو لزومه ونفاذه.
      وكذلك يسقط الخيار إذا قال من له الحق فيه : "فسخت العقد، أو نقضته، أو أبطلته" لأن الخيار هو التخيير بين الفسخ والإِجازة، فأيهما وجد سقط الخيار.

      2- الإسقاط دلالة : وهو أن يوجد ممن له الخيار تصرف يدل على إجازة البيع وإثبات الملك، فالإقدام عليه يكون إجازة للبيع دلالة.
      وبناء على هذا :
      إذا كان الخيار للمشتري، والمبيع في يده، فعَرَضه على البيع، يبطل خياره، لأن عرض المشتري المبيع على البيع معناه اختيار التملك وهو يكون بابطال الخيار.
      وإذا كان الخيار للبائع فعَرَضه على البيع، فالأصح من الروايتين عن أبي حنيفة : أن يكون إسقاطاً للخيار، لأنه دليل على اختيار إبقاء الملك في المبيع.
      وكذلك يسقط خيار المشتري إذا باع الشيء الذي اشتراه أو رهنه أو وهبه - سلم أو لم يسلم - أو آجره، لأن نفاذ هذه التصرفات مختص بقيام الملك، فيكون الإقدام عليها دليلاً على قصد إبقاء الملك، وهو يتم بإجازة البيع.
      ويسقط الخيار أيضاً بهذه التصرفات في الثمن إذا صدرت من البائع الذي له الخيار، إذ أنه لا تصح هذه التصرفات إلا بعد نقض التصرف الأول.
      إلا أن هناك فرقاً بين البائع والمشتري بالنسبة لتسليم الهبة والرهن، فإنه إذا كان الخيار للبائع لا يسقط في الهبة والرهن إلا بعد التسليم بخلاف المشتري كما عرفنا.
      وأما الإجازة فلا فرق فيها بين البائع والمشتري، فإنها تسقط الخيار من غير شرط القبض، لأنها عقد لازم، بخلاف الرهن والهبة قبل القبض، فإنهما عقدان غير لازمين.
      ومن مسقطات الخيار دلالة : أن يُسكن المشتري الدار المبيعة رجلاً بأجر أو بغير أجر، أو يرمم شيئاً منها بالتطيين أو التجصيص، أو يحدث فيها بناء أو يهدم شيئاً منها، لأن هذه التصرفات دليل اختيار الملك.
      ومن مسقطات الخيار دلالة أيضاً : أن يسقي المشتري الزروع والثمار أو يحصدها أو يقطع منها شيئاً لدوابه، لأنه يعد إجازة للبيع واختياراً للتملك كما ذكرنا.
      أما ركوب الدابة لسقيها أو لردها على البائع، فلا يسقط الخيار استحساناً، لأن الدابة قد لا يمكن تسييرها إلا بالركوب، ويسقط قياساً، لأن الركوب دليل اختيار الملك.
      وكذا ركوب السيارة لينظر إلى سيرها وقوتها، لا يسقط الخيار.
      وكذا أيضاً لبس الثوب لينظر إلى طوله وعرضه لا يسقط الخيار، لاحتياجه إلى التجربة والاختبار، أما لبسه ثانية لنفس الغرض الأول، فيسقط الخيار.
      ويرى بعض مشايخ الحنفية أن ركوب السيارة للمرة الثانية لنفس الغرض الأول : لا يسقط الخيار، لأن الاختبار لا يحصل بالفعل مرة، لاحتمال وقوع ذلك صدفة، فيحتاج إلى معرفة العادة الثابتة، بخلاف الثوب : فإن الغرض يحصل بالمرة الواحدة.

      3- إِسقاط الخيار بطريق الضرورة :
      يسقط الخيار ضرورة بأمور :

      1- مضي مدة الخيار : يسقط الخيار بمضي مدته دون اختيار فسخ العقد، لأن الخيار مؤقت بها، فيبقى العقد بلا خيار، فيصبح لازماً.
      وكذلك قال الشافعية والحنابلة : يسقط الخيار إذا انقضت مدته، ولم يفسخ أحدهما العقد ويصبح لازماً، لأن مدة الخيار ملحقة بالعقد فبطلت بانقضائها كالأجل، ولأن الحكم ببقائها يفضي إلى بقاء الخيار في غير المدة المشروطة، والشرط سبب الخيار، فلا يجوز أن يثبت به ما لم يتناوله، ولأنه حكم مؤقت، فصار بفوات وقته كسائر المؤقتات، ولأن البيع يقتضي اللزوم، وإنما تخلَّف موجبه بالشرط، ففيما لم يتناوله الشرط يجب أن يثبت موجبه لعدم وجود ما ينافي مقتضى العقد كما لو أمضوا العقد.
      وقال الإمام مالك : لا يلزم البيع بمضي المدة بل لا بد من اختيار أو إجازة، لأن مدة الخيار جعلت حقاً لصاحب الخيار لا واجباً عليه، فلم يلزم الحكم بنفسه مرور الزمان، كمضي الأجل في حق المولى بالنسبة للمكاتب، لا يلزم المولى بالعتق بمجرد مضي المدة.
     
      2- موت المشروط له الخيار :
      إذا مات المشروط له الخيار، يسقط الخيار، سواء أكان الخيار للبائع أم للمشتري، أو لهما، ويصير العقد لازماً، لأنه وقع العجز عن الفسخ، فيلزم ضرورة.
      أما خيار الشرط فاختلفوا في إرثه :
      فقال الحنفية : لا يورث خيار الشرط، وإنما يسقط بموت المشروط له.
      والخلاصة : أن خيار القبول والإجازة في بيع الفضولي والأجل وخيار الشرط لا يورث. أما خيار العيب والتعيين والقصاص وخيار الرؤية وخيار الوصف وخيار التغرير، فإنه يورث.
      وقال الحنابلة : المذهب أن خيار الشرط يبطل بموت صاحبه، ويبقى خيار الآخر بحاله، إلا أن يكون الميت قد طالب بالفسخ قبل موته في مدة الخيار، فيكون حينئذ لورثته.
      وقال المالكية والشافعية : إذا مات صاحب الخيار : فلورثته من الخيار مثل ما كان له، لأن الخيار حق ثابت لضمان صلاحية المال المشترى، فلم يسقط بالموت كالرهن وحبس المبيع على الثمن ونحوها من الحقوق المالية، فينتقل إلى الوارث كالأجل وخيار الرد بالعيب، ولأنه حق فسخٍ للبيع، فينتقل إلى الوارث كالرد بالعيب، والفسخ بالتحالف.
     
      3- ما هو في معنى الموت : كالجنون والإغماء والنوم والسُكْر والردة واللحاق بدار الحرب. فإذا ذهب عقل صاحب الخيار بالجنون أو بالإغماء، في مدة الخيار، ومضت المدة على تلك الحال صار العقد لازماً لأنه عجز عن الفسخ فتزول فائدة الخيار، فإن أفاق في مدة الخيار، بقي الخيار، لإِمكان ممارسة حق الفسخ والإجازة وهذا عند الحنفية.
      وقال الشافعية والحنابلة : لو جن صاحب الخيار أو أغمي عليه أو أصابه خرس فلم تفهم إشارته، ينتقل الخيار إلى وليه من حاكم أو غيره.

      4- هلاك المبيع في مدة الخيار : فيه تفصيل، لأن الهلاك إما أن يكون قبل القبض أو بعد القبض، والخيار إما للبائع، أو للمشتري.
      آ- فإن هلك المبيع قبل القبض أي (في يد البائع) بطل البيع وسقط الخيار، سواء أكان الخيار للبائع أم للمشتري، أم لهما معاً، لأنه لو كان العقد باتاً لبطل البيع بسبب العجز عن التسليم، فيبطل إذا كان فيه خيار شرط من باب أولى.
      ب- وإن هلك المبيع بعد القبض أي "في يد المشتري" : فإن كان الخيار للبائع، فيبطل البيع أيضاً، ويسقط الخيار، ولكن يلزم المشتري القيمة إن لم يكن له مثل، والمثل إن كان له مثل.
      وإن كان الخيار للمشتري فهلك المبيع بفعل المشتري أو البائع أو بآفة سماوية : لا يبطل البيع، ولكن يسقط الخيار، ويلزم البيع، ويهلك على المشتري بالثمن، لأن المشتري وإن لم يملك المبيع عند أبي حنيفة إلا أنه اعترض عليه في يده ما يمنع الرد وهو التعيب بعيب لم يكن عند البائع، لأن الهلاك في يده لا يخلو عادة عن سبب له، وهذا السبب يكون عيباً، وتعيب المبيع في يد المشتري يمنع الرد، ويلزم البيع إذ لا فائدة من بقاء الخيار، فيهلك بالثمن، لأن العقد قد انبرم.
      وقال الشافعية كالحنفية فيما إذا حدث الهلاك بآفة سماوية قبل القبض: ينفسخ البيع ويسقط الخيار، كما ينفسخ العقد ويسقط الخيار إذا كان الهلاك بعد القبض ويضمن المشتري القيمة إذا كان الخيار للبائع.
      فإن كان الخيار للمشتري فيقرر الشافعية أنه يضمن المبيع في هذه الحالة بقيمته، لأنه إن فسخ البيع تعذر رد العين، فوجب رد القيمة، وإن أمضى العقد فقد هلك من ملكه فيجب عليه قيمته.
      وقال المالكية : إن هلك المبيع بيد البائع، فلا خلاف في ضمانه إياه وينفسخ البيع. وإن كان هلك بيد المشتري فالحكم كالحكم في الرهن والعارية :
      إن كان المبيع مما يغاب عليه "أي يمكن اخفاؤه" كالحلي والثياب، فيضمن المشتري للبائع الأكثر من ثمنه الذي بيع به، أو القيمة، لأن من حق البائع إمضاء البيع إن كان الثمن أكثر، ورد البيع إن كانت القيمة أكثر، إلا إذا ثبت الهلاك ببينة فلا يضمن المشتري.
      وإن كان المبيع مما لا يغاب عليه "أي لا يمكن اخفاؤه" كالدور والعقارات فالبائع يضمنه، حيث لا يظهر كذب المشتري.
      وقال الحنابلة : إن تلفت السلعة في مدة الخيار قبل القبض، وكان المبيع مكيلاً أو موزوناً انفسخ البيع، وضمنه البائع، ويبطل خيار المشتري.
      وإن كان المبيع غير مكيل ولا موزون ولم يمنع البائع المشتري من قبضه، فظاهر المذهب أنه من ضمان المشتري، ويكون كتلفه بعد القبض.
      وأما إن تلف المبيع بعد القبض في مدة الخيار، فهو من ضمان المشتري، ويبطل خياره. وأما خيار البائع ففيه روايتان :
      إحداهما : يبطل كخيار الرد بالعيب إذا تلف المبيع، وهو اختيار الخرقي وأبي بكر.
      والثانية : لا يبطل، وللبائع فسخ البيع، ومطالبة المشتري بالقيمة.
     
      5- تعيب المبيع : فيه تفصيل أيضاً، لأن الخيار إما أن يكون للبائع أو للمشتري.
      آ- فإن كان الخيار للبائع : فيسقط خياره إذا تعيب المبيع بآفة سماوية أو بفعل البائع، سواء أكان المبيع في يد البائع أم في يد المشتري، لأنه هلك بعض المبيع بلا بدل عنه، إذ لا يجب الضمان على البائع، لأن المبيع ملكه، فينفسخ البيع في هذا البعض، ولا يمكن بقاء العقد في الجزء الباقي، لما يترتب عليه من تفريق الصفقة على المشتري قبل تمام العقد، وهو لا يجوز.
      فإذا تعيب المبيع بفعل المشتري، أو بفعل أجنبي لم يبطل البيع، ويبقى البائع على خياره لأنه يمكنه إجازة البيع فيما بقي وفيما نقص، لأن قدر النقصان انتقل إلى بدل عنه : وهو الضمان بالقيمة على المشتري أو الأجنبي لإتلافهما ملك الغير بغير إذن، فكان قدر النقصان قائماً معنى.
      وإذا بقي البائع على خياره والمبيع في يد المشتري : فإما أن يجيز العقد أو يفسخ : فإن أجاز البيع، وجب على المشتري جميع الثمن، لأن البيع جاز في الكل، ولا يكون للمشتري خيار الرد بحدوث التغير في المبيع، لأنه حدث في يده وفي ضمانه.
      غير أنه إذا كان التعييب بفعل المشتري، فلا سبيل له على أحد، لأنه ضمن القيمة بفعل نفسه، وإن كان بفعل الأجنبي فللمشتري أن يتبع الجاني بالأرش "أي الغرامة" لأنه بإجازة البيع ملك المبيع، من وقت البيع فحصلت الجناية على ملكه.
      وإن فسخ البائع العقد ينظر :
      إن كان التعييب بفعل المشتري : فإن البائع يأخذ الباقي، ويأخذ أرش الجناية من المشتري لأن المبيع كان مضموناً على المشتري بالقيمة، وقد عجز عن رد ما أتلفه بالجناية، فعليه رد قيمته.
      وإن كان التعييب بفعل أجنبي : فالبائع بالخيار إن شاء اتبع الجاني بالأرش، لأن الجناية حصلت على ملكه، وإن شاء اتبع المشتري لأن الجناية حدثت في ضمان المشتري.
      فإن اختار اتباع الأجنبي : فالأجنبي لا يرجع على أحد، لأنه ضمن القيمة بفعل نفسه، وإن اختار اتباع المشتري، فالمشتري يرجع بما ضمن من الأرض على الجاني، لأن المشتري بأداء الضمان قام مقام البائع في حق تملك بدل الشيء المجني عليه، وإن لم يقم مقامه في حق ملك نفس الشيء المجني عليه.
      ب- وإن كان الخيار للمشتري : فيسقط خياره بالتعييب ولا ينفسخ البيع سواء حصل بآفة سماوية أو بفعل البائع، أو بفعل المشتري أو بفعل الأجنبي لأن في حالة الآفة السماوية واعتداء البائع حدث التعيب في المبيع في يد المشتري وفي ضمانه، فيلزمه رد قيمته. وأما في حالة اعتداء المشتري أو الأجنبي فلأنه تعذر رد المبيع، لأنه لا يمكن المشتري أن يرد جميع ما قبض كما قبض سليماً، وفي رد البعض تفريق للصفقة على البائع قبل تمام العقد.
      وعلى هذا إذا حدث نقص في المبيع في يد المشتري كأن سقط حائط من دار بغير صنع أحد، يسقط الخيار بهذا النقصان لتعذر رد الشيء على صاحبه كما قبضه سليماً من أي نقص، ويتقرر على المشتري جميع الثمن لأن النقصان حصل في ضمانه.

      المطلب الرابع- حكم العقد في مدة الخيار :
      يقول الحنفية : لا ينعقد البيع بشرط الخيار في الحال في حق الحكم (أي نقل الملكية) بالنسبة لمن له الخيار من المتعاقدين، بل يكون موقوفاً إلى وقت سقوط الخيار : إما بإجازة البيع أو فسخه، فإن أجازه ظهر أن العقد كان قد انعقد حال وجوده أي قبل الإجازة متى كان موضوع العقد قابلاً له، وإن فسخه استمر على عدم انعقاده استصحاباً للحالة الأولى.
      قال المالكية وفي رواية عن أحمد : للبائع ملك المبيع زمن الخيار، حتى ينقضي الخيار. وإمضاء البيع : معناه نقل المبيع من ملك البائع لملك المشتري، وليس تقريراً للملك. ودليلهم أن المبيع على ملك البائع، وأما المشتري فملكه غير تام لاحتمال رده. وعلى هذا : تكون غلة المبيع الحاصلة في زمن الخيار للبائع.
      وقال الشافعية في الأظهر عندهم : إن كان الخيار المشروط للبائع فملك المبيع وتوابعه كلبن ومهر وثمر وكسب له. وإن كان الخيار للمشتري فيكون الملك له، لأنه إذا كان الخيار لأحدهما كان هو وحده متصرفاً في المبيع، ونفوذ التصرف دليل على الملك.
      وإن كان الخيار للبائع والمشتري معاً، فالملك موقوف لأنه ليس أحد الجانبين أولى من الآخر، فيحصل التوقف، فإن تم البيع تبين أن الملك للمشتري من حين العقد، وإلا فللبائع، وكأنه لميخرج عن ملكه.
      وقال الحنابلة في ظاهر المذهب : ينتقل الملك إلى المشتري في بيع الخيار بنفس العقد، ولا فرق بين كون الخيار لهما، أو لأحدهما أيهما كان. ودليلهم قول النبي صلى الله عليه وسلم : "من باع عبداً وله مال، فماله للبائع، إلا أن يشترط المبتاع" وقوله عليه السلام : "من باع نخلاً بعد أن تؤبر، فثمرته للبائع إلا أن يشترطه المبتاع" رواه الموطأ فقد جعل الرسول عليه السلام المبيع للمبتاع (أي المشتري) بمجرد اشتراطه، وهو عام في كل بيع، ولأنه بيع صحيح، فنقل الملكية عقبه كالذي لا خيار له، ولأن البيع تمليك بدليل قوله : "ملكتك" فثبت به الملك كسائر البيوع.

      المطلب الخامس- كيفية الفسخ والإجازة :
      الفسخ والإجازة إما بطريق الضرورة أو بطريق القصد والاختيار :
      أما الفسخ والاجازة بطريق الضرورة : فيصح من غير وجود الخصم وعلمه، كمضي مدة الخيار وهلاك المبيع ونقصانه، كما ذكرنا في طرق إسقاط الخيار.
      وأما الفسخ والإجازة بطريق القصد : فقد اتفق الحنفية على أن صاحب الخيار يملك إجازة العقد بغير علم صاحبه، لأنه كان قد رضي بالبيع، وتوقف نفاذ البيع على رضا صاحب الخيار، فإذا رضي نفذ البيع، علم الآخر أو لم يعلم.
      ولكن يشترط الرضا باللسان بأن يقول : أجزت هذا العقد أو رضيت به، فإذا رضي بقلبه فقط، فإنه لا يسقط خياره، لأن الأحكام الشرعية تتعلق بالأقوال والأفعال الظاهرة الدالة على القلوب.

      وأما الفسخ : فإنه ينبغي أن يكون باللسان دون القلب، فإن فسخ بلسانه بعلم صاحبه، فيصح بالاتفاق بين علماء الحنفية، سواء رضي به الطرف الآخر أو أبى. وإن فسخ بغير علم صاحبه فلا يصح عند أبي حنيفة، سواء أكان الخيار للمشتري أم للبائع، ويكون الفسخ حينئذ موقوفاً : إن علم به صاحبه في مدة الخيار نفذ، وإن لم يعلم حتى مضت المدة لزم العقد، لأن الفسخ تصرف في حق الغير، لأن العقد تعلق به حق كل واحد من المتعاقدين، فلم يملك أحدهما فسخه بغير علم صاحبه، لما في ذلك من المضرة. فإن كان الخيار للبائع : فربما يتصرف المشتري بالمشترى اعتماداً منه على نفاذ البيع بسبب مضي المدة دون فسخ، فتلزمه غرامة القيمة بهلاك المبيع، وقد تكون القيمة أكثر من الثمن، وفي هذا ضرر.
      وإذا كان الخيار للمشتري : فربما لا يطلب البائع لسلعته مشترياً آخراً اعتماداً على تمام البيع، وهذا ضرر أيضاً.
      قال المالكية والشافعية والحنابلة : يصح لصاحب الخيار فسخ البيع في حضور صاحبه وفي غيبته، إذا أن صاحبه لما رضي لأخيه بالخيار، فكأنه أذن له في الفسخ متى شاء، فلا يحتاج إلى حضوره (أي علمه) عند الفسخ، ولأن الفسخ رفع للعقد، فلا يفتقر إلى رضا صاحبه، فلم يفتقر إلى حضوره كالطلاق.

      13- خيار العيب :
      المطلب الأول- في مشروعية خيار العيب وحكم العقد :
     
      مشروعية خيار العيب : الأصل في مشروعية هذا الخيار أحاديث منها - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "المسلم أخو المسلم، لا يحل لمسلم باع من أخيه بيعاً، وفيه عيب إلا بينه له" رواه أحمد.
      ومنها- أن النبي صلى الله عليه وسلم مر برجل يبيع طعاماً، فأدخل يده فيه، فإذا هو مبلول، فقال : "من غشنا فليس منا" رواه مسلم.
     
      حكم البيع :
      حكم البيع لشيء معيب : هو ثبوت الملك للمشتري في المبيع للحال لأن ركن البيع مطلق عن الشرط، وإنما يثبت فيه دلالة شرط سلامة المبيع عن العيوب، فإذا لم تتوافر السلامة تأثر العقد في لزومه، لا في أصل حكمه، بخلاف خيار الشرط، لأن الشرط المنصوص عليه ورد على أصل الحكم، فمنع انعقاده بالنسبة للحكم في مدة الخيار.
      وصفة حكم البيع لشيء معيب : هو أنه يفيد الملك غير لازم، لأن سلامة البدلين في عقد المعاوضة مطلوبة عادة، فكانت السلامة مشروطة في العقد دلالة أي ضمنا، فكانت كالمشروطة نصاً، فإذا لم تتحقق صفة السلامة في البدلين، كان للعاقد الخيار، فيكون العقد غير لازم.

      المطلب الثاني- العيوب الموجبة للخيار :
      العيب : هو كل ما يخلو عنه أصل الفطرة السليمة ويوجب نقصان الثمن في عرف التجار نقصاناً فاحشاً أو يسيراً كالعمى والعور والحول.

      والعيوب نوعان :
      أحدهما- ما يوجب نقصان جزء من المبيع أو تغييره من حيث الظاهر دون الباطن. ثانيهما- ما يوجب النقصان من حيث المعنى، دون الصورة.
     
      أما الأول- فكثير نحو العمى، والعور، والحَوَل، والشلل، والزمانة (أي الأمراض المزمنة).

      وأما الثاني- فنحو جماح الدابة، وبطء غير معتاد في سيارة ونحوها.

      المطلب الثالث- طرق إثبات العيب وشروط ثبوت الخيار
      شرائط ثبوت الخيار : يشترط لثبوت الخيار شرائط هي :
      1- ثبوت العيب عند البيع أو بعده قبل التسليم، فلو حدث بعدئذ لا يثبت الخيار.
      2- ثبوت العيب عند المشتري بعد قبضه المبيع، ولا يكتفى بالثبوت عند البائع لثبوت حق الرد في جميع العيوب عند عام المشايخ.
      3- جهل المشتري بوجود العيب عند العقد والقبض، فإن كان عالماً به عند أحدهما فلا خيار له، لأنه يكون راضياً به دلالة.
      4- عدم اشتراط البراءة عن العيب في البيع، فلو شرط فلا خيار للمشتري، لأنه إذا أبرأه فقد أسقط حق نفسه.
      5- أن تكون السلامة من العيب غالبة في مثل المبيع المعيب.
      6- ألا يزول العيب قبل الفسخ.
      7- ألا يكون العيب طفيفاً مما يمكن إزالته دون مشقة، كالنجاسة في الثوب الذي لا يضره الغسل.
      8- عدم اشتراط البراءة من العيب في البيع.

      طرق إثبات العيب :
      يختلف طريق إثبات العيب باختلاف العيب، والعيب أنواع :
      إما عيب ظاهر مشاهد.
      أو عيب باطن خفي لا يعرفه إلا المختصون.
      أو عيب لا يطلع عليه إلا النساء.
     
      1- فإن كان عيباً مشاهداً : فلا حاجة لتكليف القاضي للمشتري بإقامة البينة على وجود العيب عنده، لكونه ثابتاً بالعيان والمشاهدة، وللمشتري حق خصومة البائع، بسبب هذا العيب، وللقاضي حينئذ النظر في الأمر.
     
      آ- وأما إذا كان العيب باطناً خفياً لا يعرفه إلا المختصون :
      كالأطباء والبياطرة مثل وجع الكبد والطحال ونحوه، فإنه يثبت لممارسة حق الخصومة بشهادة رجلين مسلمين أو رجل مسلم عدل، وبعده يقول القاضي للبائع : "هل حدث عندك العيب المدعى به" فإن قال : "نعم" قضى عليه بالرد، وإن أنكر أقام المشتري البينة، فإن لم يكن له بينة استحلف البائع على الوجه السابق ذكره في العيب المشاهد. فإن حلف، لم يرد عليه، وإن نكل قضىعليه بالرد، إلا أن يدعي الرضا أو الإِبراء.

      3- وإن كان العيب مما لا يطلع عليه إلا النساء : فيرجع القاضي إلى قول النساء، فيريهن العيب لقوله تعالى : {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] ولا يشترط العدد منهن، بل يكتفي بقول امرأة واحدة عدل، والثنتان أحوط، لأن قول المرأة فيما لا يطلع عليه الرجال حجة في الشرع، كشهادة القابلة في النسب.

      المطلب الرابع- مقتضى الخيار وكيفية الفسخ والرد بالعيب :

      مقتضى الخيار : يترتب على ظهور العيب في المبيع أن يكون المشتري مخيراً بين أمرين :
      إما أن يمضي العقد، وفي هذه الحالة يلتزم بأداء الثمن كاملاً، أو يفسخ العقد، فيسترد الثمن إن كان قد دفعه، ويعفى من أدائه إن لم يكن قد أداه، وعليه أن يرد العين المعيبة إذا كان قد استلمها.
      وقال الشافعية والحنابلة : إذا تعيب المبيع في يد البائع أو تلف بعضه بأمر سماوي، فيكون المشتري مخيراً بين قبوله ناقصاً بجميع الثمن، ولا شيء له، وبين فسخ العقد والرجوع بالثمن.

      كيفية الفسخ والرد : المبيع لا يخلو من أحد حالين :
      1- إما أن يكون في يد البائع، فينفسخ البيع بقول المشتري : "رددت" ولا يحتاج إلى قضاء القاضي، ولا إلى التراضي بالاتفاق بين الحنفية والشافعية.
      2- وإما أن يكون في يد المشتري، فلا ينفسخ إلا بقضاء القاضي أو بالتراضي عند الحنفية، لأن الفسخ بعد القبض يكون على حسب العقد، لأنه يرفع العقد، وبما أن العقد لا ينعقد بأحد العاقدين فلا ينفسخ بأحدهما من غير رضا الآخر، ومن غير قضاء القاضي، بخلاف الفسخ قبل القبض، لأن الصفقة ليست تامة حينئذ، بل تمامها بالقبض، فكان بمنزلة القبض.
      وعند الشافعي : ينفسخ العقد بقوله : "رددت" بغير حاجة إلى قضاء.

      هل الفسخ بعد العلم بالعيب على الفور أم على التراخي ؟
      قال الحنفية والحنابلة : خيار الرد بالعيب على التراخي، ولا يشترط أن يكون رد المبيع بعد العلم بالعيب على الفور، فمتى علم العيب فأخر الرد، لم يبطل خياره حتى يوجد منه ما يدل على الرضا، وإذا أعلن المشتري البائع بالعيب وخاصمه في رد المبيع، ثم ترك مخاصمته بعدئذ، ورجع إليها وطلب الرد، فإن له أن يرد مالم يمتنع الرد لمانع، لأنه خيار لدفع ضرر متحقق، فكان على التراخي كالقصاص، ولا نسلم دلالة الإِمساك على الرضا به.

      وقال الشافعية : يشترط أن يكون رد المبيع بعد العلم بالعيب على الفور، فلو علم ثم أخر رده بلا عذر، سقط حقه في الرد، والمراد بالفور : مالا يعد تراخياً في العادة، فلو اشتغل بصلاة دخل وقتها، أو بأكل أو نحوه، فلا يكون تراخياً في العادة، فلا يمنع الرد، وكذا لو علم بالعيب، ثم تراخى لعذر كمرض أو خوف لص أو حيوان مفترس أو نحوه، فإن حقه لا يسقط، وإنما يكون له حق الرد بعد العلم بالعيب إذا لم يفعل ما يدل على الرضا، كاستعمال الحيوان ولبس الثوب أو نحوه.

      المطلب الخامس- موانع الرد بالعيب وسقوط الخيار :
      يمتنع الرد بالعيب ويسقط الخيار بعد ثبوته ويلزم البيع بأسباب، منها : ما يكون بعد ثبوت التزام البائع بضمان العيب. ومنها : مالا يكون البائع ملتزماً فيها بضمان العيوب من أول الأمر.
      أما ما يكون بعد ثبوت التزام البائع بضمان العيب فهي :
      1- الرضا بالعيب بعد العلم به : إما صراحة كأن يقول : رضيت بالعيب أو أجزت البيع، أو دلالة كالتصرف في المبيع تصرفاً يدل على الرضا بالعيب كصبغ الثوب أو قطعه، أو البناء على الأرض أو طحن الحنطة أو شيّ اللحم، أو بيع الشيء أو هبته أو رهنه ولو بلا تسليم أو استعماله بأي وجه كلبس الثوب وركوب الدابة أو مداواة المبيع ونحوها.
      وذلك لأن حق الرد لفوات السلامة المشروطة في العقد ضمناً، ولمَّا رضي المشتري بالعيب بعد العلم به، دل على أنه ما شرط السلامة، ولأنه إذا رضي بالعيب فقد رضي بالضرر : وهو إسقاط ضمان العيب الذي يعوض به عن الجزء المعيب، وفي حالة العوض : إذا حصل التعويض، فكأن الجزء المعيب عاد سليماً معنىً، بقيامة بدله، وهذا في ظاهر الرواية، لأنه لما وصلت إليه قيمته، قامت القيمة مقام العين، فصار كأنه باعه.

      2- إسقاط الخيار صراحة أو في معنى الصريح : مثل أن يقول المشتري : أسقطت الخيار أو أبطلته، أو ألزمت البيع أو أوجبته، وما يجري مجراه.
      وأما ما يمنع الرد دون أن يكون البائع ملتزماً بالضمان من أول الأمر فهو ما يأتي :
     
      1- المانع الطبيعي : وهو هلاك المبيع بآفة سماوية، أو بفعل المبيع، أو باستعمال المشتري كأكل الطعام، فيمتنع الرد في هذه الحالات لهلاك المبيع، ويثبت للمشتري حق الرجوع على البائع بنقصان العيب.
     
      2- المانع الشرعي : وهو أن يحدث في المبيع قبل القبض زيادة متصلة غير متولدة من الأصل كصبغ الثوب والبناء على الأرض، أو يحدث بعد القبض زيادة متصلة غير متولدة أو زيادة منفصلة متولدة كالولد والثمرة. وأما بقية أنواع الزيادات فلا تمنع الرد.
      وتفصيله ما يأتي :
      الزيادة في المبيع : إما أن تحدث قبل القبض أو بعده، وكل منهما إما متصلة أو منفصلة.
     
      فالزيادة الحادثة قبل القبض :
      1- إذا كانت متصلة :
      فإما أن تكون متولدة من الأصل كالحسن والجمال والكبر والسمن ونحوها، فلا تمنع الرد، لأنها تابعة للأصل حقيقة.
      أو تكون غير متولدة كصبغ الثوب أو خياطته، وكالبناء أو الغرس على الأرض، فتمنع الرد، لأنها أصل قام بذاته، وليست تابعة، فلا يرد المبيع بدونها، لتعذر الرد، ولا يرد معها، لأنها ليست تابعة في البيع فلا تتبع في الفسخ.
     
      2- وإن كانت منفصلة :
      فإما أن تكون أيضاً متولدة من الأصل كالولد والثمرة واللبن، فلا تمنع الرد، فإن شاء المشتري ردهما جميعاً، وإن شاء رضي بهما بجميع الثمن.
      أو تكون غير متولدة، كالكسب والصدقة والغلة، فلا تمنع الرد، لأنها ليست بمبيعة، وإنما هي مملوكة بملك الأصل.
     
      وأما الزيادة الحادثة في المبيع بعد القبض (أي عند المشتري) :
      1- إن كانت زيادة متصلة.
      فإن كانت متولدة من الأصل كسمن الدابة، فلا تمنع الرد عند الحنفية والشافعية والحنابلة والمالكية، ويبقى حكم العيب معها على موجبه الأصلي : فإن رضي المشتري أن يردها مع الأصل ردها، وإن أبى وأراد أن يأخذ نقصان العيب، وأبى البائع إلا الرد ودفع جميع الثمن، فقال أبو حنيفة: ليس للبائع أن يأبى وللمشتري أخذ نقصان العيب منه، لأن الزيادة المتصلة بعد القبض تمنع الفسخ عندهما إذا لم يوجد الرضا من صاحب الزيادة.
      وإن كانت غير متولدة : فإنها تمنع الرد بالاتفاق، لأن هذه الزيادة ملك للمشتري، فلا يحق للبائع عندئذ أخذها بلا مقابل، ويتعين الرجوع بنقصان العيب.
     
      2- وإن كانت زيادة منفصلة : فإن كانت متولدة من الأصل كالولد والثمرة واللبن، فإنها تمنع الرد عند الحنفية، لأنها لو رد الأصل دونها تبقى للمشتري بلا مقابل، وهو ممنوع شرعاً، لأنه ربا.
      وقال الشافعية والحنابلة : لا تمنع هذه الزيادة الرد، وهي للمشتري بعد القبض، لأنها حدثت في ملك المشتري، فلا تمنع الرد، كالزيادة غير المتولدة، ولما روي "أن رجلاً ابتاع من آخر غلاماً، فأقام عنده ما شاء الله، ثم وجد به عيباً، فخاصمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فرده عليه، فقال : يا رسول الله، قد استغل غلامي، فقال : الخراج بالضمان" رواه أبو داود وأبن ماجه ومعناه أن فوائد المبيع للمشتري في مقابلة أنه لو تلف كان من ضمانه، وقيس الثمن على المبيع.
      وإن كانت الزيادة غير متولدة كالكسب والصدقة، لم يمتنع الرد، ويرد الأصل على البائع، والزيادة للمشتري طيبة له، لأن هذه الزيادة ليست بمبيعة أصلاً، فأمكن فسخ العقد بدون الزيادة.
     
      3- المانع بسبب حق البائع : وهو حدوث عيب جديد عند المشتري بعد قبضه، إذا كان المبيع معيباً بعيب قديم عند البائع، كأن انكسرت يد الدابة المبيعة عند المشتري، وظهر فيها مرض قديم كان عند البائع، لأن المبيع خرج عن ملك البائع معيباً بعيب واحد، فلو رد يرد بعيبين، فيتضرر البائع. وشرط الرد أن يرد على الوجه الذي أخذ، وإنما يكون للمشتري أن يرجع على بائعه بالنقصان. ولو زال العيب الحادث، كما لو شفيت الدابة المريضة، عاد الموجب الأصلي : وهو حق الرد.

      4- المانع بسبب حتى الغير : كما لو أخرج المشتري المبيع عن ملكه بعقد من عقود التمليك كبيع أو هبة أو صلح، ثم اطلع على أنه كان معيباً بعيب قديم، فلا يمكن المشتري الأول أن يفسخ البيع بينه وبين بائعه، لأنه قد تعلق بالمبيع حق مالك جديد، أنشأنه المشتري نفسه.

      5- إتلاف المشتري المبيع :
      كما لو كان المبيع دابة فقتلها، أو ثوباً فمزقه ونحوه، ثم علم بوجود العيب القديم فيه، فيستقر عليه الثمن المسمى نهائياً دون رجوع بنقصان. والفرق بين هذا العيب وبين المانع بسبب حق الغير : أنه في الحالة الثانية يحتمل زوال المانع، فيعود حق الرد، وفي الحالة الأولى لا يحتمل زواله.
      وإذا حصل في المبيع عيب عند المشتري، ثم اطلع على عيب كان عند البائع فله أن يرجع بالنقصان على البائع ولا يرد المبيع إلا أن يرى البائع أخذ المبيع بعينه فله أخذه. وتعتبر قيمة النقصان يوم البيع.
      والخلاصة : أنه يجوز الرجوع على البائع للمطالبة بفرق نقصان العيب في حالات ثلاث : هي هلاك المبيع، وتعيبه بعيب جديد، وتغيير صورته بحيث أصبح له اسم جديد.

      المطلب السادس- آراء الفقهاء في شرط البراءة عن العيوب :
      اختلف الفقهاء فيما إذا شرط البائع براءته من ضمان العيب (أي عدم مسؤوليته عما يمكن أن يظهر من عيوب في المبيع)، فرضي المشتري بهذا الشرط، اعتماداً على السلامة الظاهرة ثم ظهر في المبيع عيب قديم.
      فقال الحنفية : يصح البيع بشرط البراءة من كل عيب وإن لم تعين العيوب بتعداد أسمائها، سواء أكان جاهلاً وجود العيب في مبيعه فاشترط هذا الشرط احتياطاً، أم كان عالماً بعيب المبيع، فكتمه عن المشتري، واشترط البراءة من ضمان العيب ليحمي بهذا الشرط سوء نيته، فيصح البيع، لأن الإِبراء اسقاط، لا تمليك، والإسقاط لا تفضي الجهالة فيه إلى المنازعة، لعدم الحاجة إلى التسليم. ويشمل هذا الشرط كل عيب موجود قبل البيع أو حادث بعده قبل القبض، فلا يرد المبيع بالعيب حينئذ. وهذا في ظاهر الرواية عن أبي حنيفة، لأن غرض البائع إلزام العقد باسقاط المشتري حقه في وصف سلامة المبيع، ليلزم البيع على كل حال، ولا يتحقق هذا الغرض إلا بشمول العيب الحادث قبل التسليم، فكان داخلاً ضمناً.
      وقال مالك والشافعي : يشمل شرط البراءة العيب الموجود عند العقد فقط، لا الحادث بعد العقد وقبل القبض، لأن البراءة تتناول الشيء الثابت الموجود، بسبب أن الإِبراء عن المعدوم لا يتصور، والحادث لم يكون موجوداً عند البيع، فلا يدخل تحت الإِبراء.
      ويشمل هذا الشرط أيضاً كل عيب من العيوب الظاهرة والباطنة، لأن اسم العيب يقع على الكل.
      وإذا خصص الإبراء عن بعض العيوب لم يشمل غيرها، كأن يبرئ من القروح أو الكي أو نحوها، لأنه أسقط حقه من نوع خاص.
      هذا هو مذهب الحنفية في شرط البراءة عن العيوب عموماً.
      وأما مذاهب غيرهم من حيث العلم بالعيب والجهل به فهي ما يلي :
      قال المالكية : إن شرط البراءة عن العيوب يصح في كل عيب لا يعلم به البائع، أما ما يعلم به فلا تصح البراءة عنه.
      وقال الشافعية : لو باع بشرط براءته من العيوب، فالأظهر أنه يبرأ عن كل عيب باطن بالحيوان خاصة، إذا لم يعلمه البائع، ولا يبرأ عن عيب بغير الحيوان، كالثياب والعقار مطلقاً، ولا عن عيب ظاهر بالحيوان، علمه، أم لا، ولا عن عيب باطن بالحيوان كان قد علمه. والمراد بالباطن : مالا يطلع عليه غالباً.
      وينصرف الإِبراء إلى العيب الموجود عند العقد، لا الذي حدث قبل القبض ولو اختلف المتعاقدان في قدم العيب فيصدق البائع.
      ولو شرط البائع البراءة عما يحدث من العيوب قبل القبض ولو مع الموجود منها، لم يصح الشرط في الأصح، لأنه اسقاط للشيء قبل ثبوته، كما لو أبرأ عن ثمن ما يبيعه له.
      وأما الحنابلة فعندهم روايتان عن أحمد : رواية تقرر أنه لا يبرأ إلا أن يعلم المشتري بالعيب، ورواية كالمالكية : تقرر أنه يبرأ من كل عيب لم يعلمه، ولا يبرأ من عيب علمه.
      واختار بعض الحنابلة أن من باع حيواناً أو غيره بالبراءة من كل عيب أو من عيب معين موجود : لم يبرأ، سواء علم به البائع أو لم يعلم.
     
      بيع الثمار المتلاحقة الظهور أم المقاثي والمباطخ :
      إذا بيع ثمر أو زرع بعد بدو الصلاح ولو بعضه، وكان يغلب تلاحقه واختلاط حادثه بالموجود كتين، وقثاء، وموز، وورد، وبطيخ، وباذنجان، وخيار، وقرع، فقال الحنفية في ظاهر الرواية والشافعية والحنابلة يجوز بيع ما ظهر منها من الخارج الأول. وأما بيع ما ظهر وما لم يظهر، فلا يجوز، لأن العقد اشتمل على معلوم ومجهول، قد لا يخرجه الله تعالى من الشجرة. ولا يصح أيضاً البيع، لعدم القدرة على تسليم المبيع، والحاجة تندفع ببيع أصوله، ولأن مالم يبد صلاحه يجوز إفراده بالبيع بخلاف ما لم يخلق.
      إلا أن الحنفية يقولون فيما لا يجوز : إن البيع فاسد. وغيرهم يقولون : إنه باطل. وهناك قول ثان عند الحنفية بجواز هذا البيع، لأن الناس اعتادوا بيع الثمار على هذه الصفة، وفي نزع الناس عن عادتهم حرج وضيق وهو المرجح.
      وقال المالكية وهو الراجح عند متأخري الحنفية : يصح البيع عملاً بحسن الظن بالله تعالى وبمسامحة الإنسان لأخيه بجزء من الثمن المقابل للذي يخرجه الله تعالى من الثمرة، ولجريان العرف وعادة الناس به، ولأن ذلك يشق تمييزه، فجعل مالم يظهر تبعاً لما ظهر، كما أن ما لم يبد صلاحه تبع لما بدا.





0 التعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة الموضوع

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More