صفات الرسل عليهم السلام:
أ- الفطانة:
الفطانة:
هي الذكاء والنباهة، ولم يبعث نبي إلا وكان على جانب عظيم من الذكاء والنباهة مع
كمال العقل والرشد.
قال الله تعالى في وصف إبراهيم الخليل عليه السلام: {ولقد آتينا
إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين} [الأنبياء: 51].
فبالفطانة يستطيع النبي أو الرسول أن يعرف ما يُلقى إليه من الوحي، وبها
يستطيع أن يحفظه ولا ينساه، وبها يستطيع أن يبلغه كما أوحي به إليه، وبها يستطيع
بعد ذلك أن يعالج أمته بالتربية الحكيمة، والقيادة السليمة، وفق طبائعهم وأخلاقهم،
وبها يستطيع أن يحاجج ويجادل الخصوم.
ومن الأدلة التي تشهد لفطانة الرسل عليهم السلام الصلاة والسلام: قوله
تعالى في إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه
نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم} [الأنعام: 83].
فإن إبراهيم عليه السلام قد جادل النمروذ الطاغية الذي ادعى الألوهية،
فحاجّه وبهته(1) حيث إن
إبراهيم عليه السلام قال للنمروذ عندما سأله من ربك؟ فأجابه: ربي الذي يحي ويميت.
فقال النمروذ: أنا أحي وأميت؟ فأتى برجلين قد حكم عليهما بالإعدام، فأمر بعدم قتل
أحدهما مع الحكم بإعدامه، فبزعمه أنه أحياه وأمر بقتل الثاني فبزعمه أنه
أماته
فلم يشأ إبراهيم عليه السلام بما أوتي من فطنة عظيمة أن يشتغل بإبطال ما
ادعاه النمروذ، وإنما نقله إلى مظهر آخر من مظاهر أفعال الله سبحانه وتعالى فقال
له: فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب؟! عندئذ بهت النمروذ ولم يجد
جواباً فسقط بذلك ادعاؤه الربوبية.
قال الله تعالى في شأن ذلك: {ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربّه أن
آتاه الله الملك، إذ قال إبراهيم ربي الذي يحي ويميت قال أنا أُحي وأميت قال
إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا
يهدي القوم الظالمين} [البقرة: 258].
وقد ثبت له موقف آخر من قبل وهو فتى في المحاجة مع قومه حين حطم الأصنام
كلها بيده إلا صنماً كبيراً ثم علّق القَدُّوم(2) في عنق
هذا الصنم الكبير ليقيم الحجة على قومه... فحين علموا أنه هو الفاعل قدموه للمحاكمة
وسألوه: من الذي حطم آلهتنا وأقدم على تكسير الأصنام؟ هل أنت الذي فعلت ذلك يا
إبراهيم؟
فأجابهم
عليه السلام: إنني لم أحطمها ولكن الصنم الكبير والإله العظيم- بزعمهم-
هو
_________________
(1) أي حيَّره.
(2) آلة ينحت بها.
الذي حطمها
لأنه لم يرض أن تعبد معه، والدليل على ذلك أنه وضع القدوم في عنقه، وإذا لم تصدقوا
كلامي فاسألوهم عن ذلك الأمر وسلوه... وفي هذه المرحلة كان قد بلغ إبراهيم إلى
غايته وهدفه، فأقام عليهم الحجة بعد أن سفَّه عقولهم، وجعلهم يضحكون من أنفسهم...
وهكذا يكون منطق الأنبياء.
قال الله تعالى في شأن ذلك: {ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به
عالمين *إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها
عاكفون* قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين* قال لقد كنتم أنتم
وأباؤكم في ضلال مبين* قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من
اللاعبين* قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من
الشاهدين* وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين*
فجعلهم جذاذاً إلا كبيراً لهم لعلهم إليه يرجعون* قالوا من فعل هذا
بآلهتنا إنه لمن الظالمين* قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم
قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون* قالوا ءَأَنت فعلت هذا
بآلهتنا يا إبراهيم قال بل فعله كبيرهم هذا فاسئلوهم إن كانوا ينطقون*
فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون* ثم نكسوا على رُءوسهم لقد
علمت ما هؤلاء ينطقون* قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئاً ولا
يضركم، أفٍ لكم ولما تعبدون من دون الله، أفلا تعقلون}
[الأنبياء:51-67].
ومن الأدلة التي تشهد لفطانة الرسل عليهم السلام قصة نوح عليه السلام مع
قومه حيث جادلهم وسلك معهم مسلك الحكمة والأسلوب المقنع إلا أنهم ضاقوا ذرعاً بقوة
مجادلته وبيانه وردوه رداً غير جميلٍ.
قال الله تعالى في ذلك الشأن: {قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت
جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين} [هود: 32].
وممَّا يدل على فطنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، قوله تعالى:
{ولا تعجل بالقرءان من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل ربِّ زدني علماً} [طه:
114].
وتفسير ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم كان يتعجل بترديد آياته
من قبل أن يقضى إليه وحيه من كمال الذكاء والفطنة.
وقوله تعالى: {لا تحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه
وقرءانه} [القيامة:16-17].
وتفسير ذلك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان يحرك لسانه بالقرآن
الكريم لحفظه وخشية ذهابه، وهذا من حدة الفطانة والدعاء.
وقد شهد الله له بأنه لا ينسى وهذا دليل قوي على قمة الذكاء قال الله
تعالى: {سنقرئك فلا تنسى} [الأعلى: 6].
وقد أمره الله بمجادلة خصومه بالتي هي أحسن، والمجادل عليه أن يتميز
بنباهة زائدة وفطانة عالية حتى يوصل خصومه إلى طريق الحق ويعرفهم
به.
قال الله تعالى: {وجادلهم بالتي هي أحسن} [النحل: 125]. فأمر
الله له بمجادلة الخصوم يثبت له فطانة فائقة.
فالأنبياء عليهم السلام متصفون بالذكاء والفطانة، والله يختار لمنصب
النبوة الذكي الفطن ولا يختار لها من اتصف بالغباوة والبلادة وضعف
التفكير.
- إن صفة
الصدق صفة ملازمة للأنبياء عليهم السلام، فهي من الصفات الفطرية فيهم، فلا يمكن
للنبي أن يصدر منه صفة قبيحة أو ما يخلّ بالمروءة كالكذب وأكل أموال الناس بالباطل
والخيانة. أو سرقة لقمة لأن هذه الصفات لا تليق برجلٍ عادي، فكيف بنبي مقرب أو رسول
مكرم؟!
-
ولو وقع الكذب من الأنبياء عليهم السلام لانعدمت الثقة فيما ينقلونه من
أخبار الوحي أو ما يرونه من الله عزّ وجل ..
-
ولو عرف أحد الرسل بين الناس بالكذب، لم يسلموا له بدعوى الرسالة ورفضوا
الالتفات إليه إبتداءً لما يعلمون من كذبه، وذلك إخلال بمهمة الرسالة ونقض لها،
وعثرات في طريق المهتدين إلى الصراط المستقيم.
وقد ثبت صدق رسولنا صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {ولو
تقوّل(1)
علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين(2)
* ثم لقطعنا
منه الوتين(3)
* فما منكم
من أحدٍ عنه حاجزين} [الحاقة:
44- 47].
وتقرير صدقه صلى الله عليه وسلَّم: أن محمداً صلى الله عليه وسلم صادق
فيما أبلغ الناس وأنه لو افترى الكذب أو تقول بعض الأقاويل التي لم يوح بها إليه
لأخذه الله بقوة فقضى عليه، ولما كان هذا لم يقع فهو صلى الله عليه وسلم لابدَّ
صادق.
وقد شهد القرآن الكريم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به وحي
من عند الله وهو الحق، والحق في التبليغ هو الصدق. قال تعالى: {وما ينطق عن
الهوى * إن هو إلا وحي يوحى} [النجم: 3،4]. وقال تعالى:{يا أيها الناس قد
جاءكم الرسول بالحقّ من ربكم فآمنوا خيراً لكم وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات
والأرض وكان الله عليماً حكيماً} [النساء:170].
________________
(1) افترى الكذب.
(2) أي بالقوة.
(3) الوتين : نياط القلب والنخاع الذي متى قطع هلك
صاحبه.
-
وحين سأل (هرقل) ملك الروم أبا سفيان بن حرب - قبل إسلامه - عن أمر محمد
صلى الله عليه وسلم، هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال أبو سفيان: ما
عرفنا عليه كذباً قط! فقال هرقل بعد ذلك قولة مشهورة: ما كان ليذر الكذب على الناس
ويكذب على الله.
ومن خلال تتبع تاريخ الرسل عليهم السلام نجد أنهم قبل بعثتهم كانوا
صادقين مع الناس لا يكذبون وكانوا مؤتمنين لا يخونون، وهذا واقع لا ينكره أحدٌ من
الناس.
وقد اشتهر الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم قبل البعث بأنه الصادق
الأمين، وكان المشركون يسمونه بهذا.
والله سبحانه وتعالى يؤيد رسلَه بالمعجزة التي لا يعارضها أحد وهي دليل
على صدقهم، فلو كان أحدهم كاذباً ما أجرى على يديه المعجزة.
وقد أشار موسى عليه الصلاة والسلام في خطابه إلى فرعون إلى أن شاهد
المعجزة دليل صدقه في النقل عن ربه، ولو كان كاذباً لم يجر الله على يديه
المعجزة.
قال الله تعالى في ذلك: {وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين
* حقيقٌ على أن لا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل
معي بني إسرائيل} [الأعراف: 104، 105] ومعنى ذلك: أنا لا أقول إلا الحق عن ربي
ودليل هذا الحق المعجزة الباهرة، وقد أيدني بها الله جلَّ
وعلا.
وهكذا بقية الرسل عليهم الصلاة والسلام يوصفون بالصدق ولا يوصفون بالكذب
مطلقاً.
ج-
الأمانة:
صفة الأمانة من الصفات الضرورية للأنبياء عليهم السلام، والنبي أمين على
الوحي، فهو يبلغ أوامر الله ونواهيه إلى الناس دون زيادة أو نقص، ودون تحريف أو
تبديل.
فكل الأنبياء عليهم السلام مؤتمنون على الوحي يبلغون ما أوحي إليهم كما
نزل، لا يمكن لهم أن يخونوا، أو يخفوا ما أمرهم الله به، لأن الخيانة تتنافى مع
الأمانة.
فالرسل الكرام عليهم السلام قد أدوا الأمانة على الوجه الذي يرضاه الله
سبحانه وتعالى، وكانت الرسل تنصح أقوامها وتردد على ألسنتها أو حالها ينطق
بذلك.
{ولكني
رسولٌ من ربِّ العالمين* أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين} [الأعراف:
67، 68].
قال الله تبارك وتعالى في ذلك الشأن: {الذين يبلغون رسالات الله
ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله وكفى بالله حسيباً} [الأحزاب:
39].
فكل الرسل عليهم السلام المبلغين لرسالات الله يخافون الله ويخشون
عذابه، ولا تحدثهم أنفسهم بالخوف من أحد إلا من الله عزّ
شأنه.
فمن خاف الله وخشيه، فهل يخون ما ائتمنه عليه؟!
فالرسول لا يستطيع أن يبدِّل أو يغير شيئاً مما أوحي إليه إنما يفعل ما
يأمره الله به.
قال الله تبارك وتعالى: {وإذا تتلى عليهم آياتنا بيناتٍ قال الذين لا
يرجون لقاءنا ائت بقرءانٍ غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن
أتبع إلا ما يوحى إليَّ إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم} [يونس:
15].
ولو لم يكن في الأنبياء عليهم السلام الأمانة لتغيرت معالم الرسالة
وتبدَّلت، ولما اطمأنَّ المرء على الوحي المنزل فالرسول ليس بمتهم على الوحي والغيب
بل هو أمين .
صفة التبليغ وهي أن يخبر الرسل أحكام الله، ويبلغوا الوحي الذي نزل
عليهم، ولا يكتموا شيئاً منه، ولو في تبليغه للناس ايذاء عظيم لهم أو شر كبير يلحق
بهم من أعدائهم.
قال الله تبارك وتعالى: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً* إلا من
ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً(1)* ليعلم أن
قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيءٍ عدداً} [الجن:
26-28].
{وما كان
ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها(2) رسولاً
يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون} [القصص:
59].
قال الله تبارك وتعالى في شأن نوحٍ مع قومه: {قال يا قوم ليس بي
ضلالة ولكني رسول من رب العالمين* أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم، وأعلم من الله ما
لا تعلمون} [الأعراف:61-62].
وقال تبارك وتعالى في شأن هود عليه السلام مع قومه: {قال يا قوم ليس
بي سفاهة(3) ولكني
رسول من رب العالمين * أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح
أمين} [الأعراف: 67، 68].
وقال عزَّ وجلَّ في شأن صالح عليه السلام مع قومه: {فتولى عنهم وقال
يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين} [الأعراف:
79].
وقال عزَّ وجلَّ في شأن شعيب عليه السلام مع قومه: {فتولى عنهم وقال
يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف ءاسَى على قوم كافرين} [الأعراف:
93].
وقال تبارك وتعالى في شأن محمد صلى الله عليه وسلم: {يا أيها الرسول
بلّغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس}
[المائدة: 67].
___________________
(1) حرساً من الملائكة يحرسونه.
(2) أي في جماعتها.
(3) أي خفة عقل وضلالة عن الحقّ.
ومما يدل على أن الرسل لم يكتموا وبلغوا ما أنزل الله
عليهم:
أولاً:
أن الله شهد لهم بأنهم بلغوا، وذلك كثير في القرآن الكريم: {الذين
يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله وكفى بالله حسيباً}
[الأحزاب: 39].
{ليعلم أن
قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عدداً} [الجن:
28].
ثانياً: إن الله
سبحانه وتعالى قد ذم أهل الكتاب الذين يكتمون شيئاً من التوراة والإنجيل فلم يرضَ
منهم هذا الكتمان وهم أشخاص عاديون، فكيف يرضاه ممن اختارهم الله لحمل
رسالاته؟!
قال الله تبارك وتعالى: {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون
أبناءهم وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون} [البقرة:
146].
{إن الذين
يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم
الله ويلعنهم اللاعنون} [البقرة:
159].
{إن الذين
يكتمون ما أنزل الله في الكتاب ويشترون به ثمناً قليلاً أولئك ما يأكلون في بطونهم
إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم* أولئك الذين
اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النّار}
[البقرة:174، 175].
ثالثاً:
إن الرسول الأكرم محمداً صلى الله عليه وسلَّم بلَّغ الرسالة وأدى
الأمانة ونصح الأمة ولم يكتم شيئاً مما أمره الله بتبليغه.
قال الله عزّ من قائل: {وما هو على الغيب بضنين} [التكوير:24].
ومعنى الآية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبخل بالوحي بل يعلمه كما علم ولا
يكتم شيئاً مما علمه.
ولو كان محمد صلى الله عليه وسلَّم كاتماً شيئاً مما نزل عليه لكتم
العتابات التي وجهت إليه من قبل الله عزَّ وجلَّ في القرآن
الكريم:
مثل قوله تعالى في قصة زينب مطلَّقة زيد بن حارثه الذي كان قد تبناه قبل
أن ينزل عليه تحريم التبني.
{وإذ تقول
للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله
مبديه وتخشى الناس والله أحقُّ أن تخشاه فلما قضى زيدٌ منها وطراً زوجناكها لكي لا
يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهنَّ إذا قضوا منهن وطراً وكان أمر الله
مفعولاً} [الأحزاب:
37].
ومثل قوله تعالى في أسرى بدرٍ حيث مال الرسول صلى الله عليه وسلَّم إلى
عدم قتلهم.
{ما كان
لنبي أن يكون له أسرى حتى يُثخِنً في الأرض، تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة
والله عزيز حكيم * لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب
عظيم} [الأنفال: 67].
ومثل قوله تعالى في قصة انشغال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ابن ام
مكتوم الضرير(1) بدعوة
كبار المشركين إلى دين الإسلام فعاتبه الله تعالى على ذلك: {عبس وتولى*
أن جاءه الأعمى* وما يدريك لعله يزكّىَ(2)
* أو يذكر
فتنفعه الذكرى* أما من استغنى* فأنت له تصدى* وما
عليك ألا يزكى*وأما من جاءك يسعى*وهو يخشى* فأنت
عنه تلهى} [عبس:
1-10].
-
فالرسل عليهم السلام بلغوا ما أمرهم الله ولم يكتموا شيئاً من
ذلك.
العصمة صفة يتصف بها الأنبياء عليهم السلام على الخصوص دون غيرهم من
البشر.
ومعنى العصمة: حفظ الله تعالى أنبياؤه ورسله عن الوقوع في الذنوب
والمعاصي وارتكاب المنكرات والمحرمات.
العصمة من
الكفر للأنبياء: الأنبياء
معصمون عن الكفر مطلقاً قبل النبوة وبعدها.
عصمة
الأنبياء قبل النبوة من الصغائر والكبائر: لم يرد نص
قاطع في عصمة الأنبياء قبل النبوة لا عن الصغائر ولا عن الكبائر إلا أن سيرتهم التي
أثرت عنهم قبل نبوتهم تثبت أنهم أبعد الناس عن المعاصي كلها كبيرها وصغيرها وإن وقع
منهم شيء من ذلك فهفوات نادرة لا تمس ولا تطعن علو فطرتهم وصفاء نفوسهم
وأرواحهم.
والحكمة في ذلك: أن هذه الهفوات تثبت بشريتهم أمام الخلائق، فلا يستطيع
البشر عندئذٍ رفعهم فوق المستوى البشري ولا وصفهم بصفات الألوهية وبهذا يظهر الفرق
بين أحوالهم قبل النبوة وأحوالهم بعدها.
عصمة
الأنبياء بعد النبوة من الصغائر والكبائر: تمنع
المعاصي الكبائر بعد النبوة مطلقاً، فالأنبياء معصومون عن الكبائر
مطلقاً.
وكذا تمنع المعاصي الصغائر عمداً فلا يقع من الأنبياء صغائر عمداً ولا
صغائر فيها خمسة: كسرقة لقمة، وإنما تقع منهم الصغائر سهواً سوى ذلك من الصغائر
كالسهو والنسيان لكن لا يصرون ولا يُقَرون بل يُنبهون فينتبهون ويتوبون قبل أن
يقتدي بهم أحدٌ.
قال الله تعالى في حق جميع الرسل عليهم السلام: {أولئك الذين هدى
الله فبهداهم اقتده} [الأنعام].
______________
(1) الأعمى.
(2) يتطهر بتعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم من دنس
الجهل.
وقال الله تعالى في شأن رسولنا محمد صلى الله عليه وسلَّم:
{لقد كان
لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخِر وذكر الله
كثيراً}
[الأحزاب: 21].
تقرير ذلك: إن الله أمر الناس أن يتبعوا رسولهم ويقتدوا به في اعتقاداته
وأقواله وأفعاله لأنه هو الأسوة الحسنة -إلا ما كان خاصاً به أي خصه الله به ولم
يأمر أمته بذلك- وهذا كله بعد الرسالة. فالرسول في هذه الحالة كل أفعاله وأقواله
موافقة لطاعة الله عزَّ وجلَّ، فلو وقعت منه معصية لوجب على الناس اتباعه لأنهم
مأمورون من الله بالاتباع، والله سبحانه لا يأمر باتباع المعصية وإنما يأمر باتباع
العمل الصالح فلذلك كانت العصمة لهم
إن صفة
السلامة من العيوب المنفرة من خصائص الأنبياء عليهم السلام. فالأنبياء عليهم السلام
لا يتصفون بصفة فيها عيبٌ خلقي يبتعد الناس عنهم، فلا تتعرض أبدانهم لأمراضٍ وأعراض
شائقة التي تتقزز منها طبائع الناس، كجذام وبرص.
___________________
(1) من تبتنَّوهم من أبناء غيركم.
(2) أُعدل.
(3) أولياؤكم في الدين.
الحكمة من ذلك: لما كانت مهمة الرسل عليهم السلام تستدعي مخالطة الناس
لدعوتهم وإرشادهم، ولما كانت طبائع الناس تنفر من بعض الأمراض المشينة كان من حكمة
الله أن يحفظ رسله من كل هذه الأعراض المنفرة التي تشمئز الناس
منها.
ولو تعرض الرسل للأمراض المنفرة لاستدعى هذا الأمر الابتعاد عن الرسل،
وهذا فيه منافاة لمهمة الرسالة التي تستدعي جلب قلوب أهل الكفر إلى الحق والطاعة
بأفضل سبل وأحكمها، وتستدعي تأليف قلوب المسلمين للإقبال على رسولهم ومحبته والشوق
إلى مجالسته.
أمَّا الأمراض غير المنفرة فهي تعرض على الأنبياء عليهم السلام، وهذا لا
يؤدي إلى نقص مراتبهم ولكن فيه ابتلاء من الله عزَّ وجلَّ.
وقد أصيب أيوب عليه السلام بمرضٍ ابتلي به، وأصيب بضرٍ في أولاده، قال
الله تعالى في شأنه: {وأيوب إذ نادّى ربَّه أني مسني الضرُّ وأنت أرحم
الراحمين * فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضرٍ وآتيناه أهله ومثلهم معهم
رحمة من عندنا وذكرى للعابدين} [الأنبياء: 83، 84].
تنبيه: ما روي
أن أيوب عليه السلام مرض واشتد به المرض حتى تعفن جسده وأصبح الدود يخرج من بدنه
فصار يعافه الجليس، ويتوحش منه الأنيس، وانقطع عنه الناس، حتى كرهته زوجته، فأخرج
من البلد وألقي في مزبلة .. كله لا أصل له وهو من الحكايات المنقولة من
الإسرائيليات ولا يصح تصديقها ولا الاعتقاد بها، لأنها تتنافى مع منصب
النبوة.
وحسبنا أن نعتقد أن أيوب عليه السلام أبتلي بمرض ليس بمنفر وصبر على هذا
الابتلاء فدعا الله أن يكشف عنه هذا الضر. فاستجاب الله دعاءه فأزال عنه ما ألمَّ
به.
إن صفة
البشرية للأنبياء والرسل لا تنسلخ عنهم، فهم بشرمثلنا إنما يختلفون بالوحي الذي
يؤيدهم الله به، وبما يتصفون من صفات خاصة تتعلق بوظائف الرسل والأنبياء قال الله
تعالى: {إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليَّ أنما إلهكم إله واحد * فمن
كان يرجو لقاء ربه فليعمل عمل صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً} [الكهف: 109،
110].
-
الحكمة من ذلك:
إن الله بعث إلى البشر رسلاً منهم، فيهم جميع مواصفات البشر ليكونوا في
أقوالهم وأفعالهم ودعوتهم حجة على الناس، وليكون هذا أدعى للقدوة بالرسل لأنه داخل
في استطاعة البشر وفي مقدورهم.
ولو كان الرسل أو الأنبياء من الملائكة لبرر الناس مخالفتهم ولاحتجوا
عليهم: لو أنكم بشر مثلنا لوقعتم في المخالفات والمعاصي لأنَّ أجسادنا فيها من
الغرائز الشهوانية، وانتم لا تختزنون في أنفسكم شيئاً من الشهوة، ولا شيئاً من
الغرائز البشرية، فلذا لا نستطيع متابعتكم.
فمن هنا اقتضت حكمة الله عزَّ وجلَّ ان يبعث رسلاً من
البشر.
فالأنبياء عليهم السلام بشر، فيجوز في حقهم الأعراض البشرية التي لا
تنافي أصل مهمتهم كالأمراض غير المنفرة والأكل والشرب والنكاح وغير
ذلك.
قال الله تعالى في حق الأنبياء عليهم السلام: {وما جعلناكم جسداً لا
يأكلون الطعام وما كانوا خالدين} [الأنبياء: 8]
وقد ذكر القرآن الكريم اعتراض الكافرين على طعام رسول الله ومشيه في
الأسواق، وطلبهم أن ينزل إليه ملك يكون معه رسولاً، فرُدَّ على اعتراضهم بأن هذا
الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم لم يكن بدعاً في الرسل، فكل الرسل كانوا على
شاكلته يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق.
-
اعتراض الكافرين:
{وقالوا
مالِ هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه
نذيراً} [الفرقان:
7].
الردُّ عليهم:
{وما أرسلنا
قبلك من المرسلين إلا أنهم يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق} [الفرقان:
20].
__________________
0 التعليقات:
إرسال تعليق