التسميات

الموسيقى الصامتة

Our sponsors

29‏/11‏/2014

في مطعم




كان الجو يشبه جو بلاد أخرى سمعت عنها ولكني لم أعش فيها.
بارد جداً.
أبخرة مجهولة المصدر كأنها أنفاس أناس تحت الأرض.
تلتمع الأضواء كألف نجمة متكسرة على سطح أسفلت الطريق الذي يبدو في ظلام الليل لامعاً نظيفاً كمرآة سوداء .
قدّرت أن الوقت مناسب لبعض الدفء.
لذا لم أتردد في دخول هذا المطعم قليل الزبائن خافت الأضواء والذي يبدو كما لو أن الأقدار قد ساقته في طريقي لغرض ما, إذ أنني كثيراً ما مشيت في هذا الطريق ولم ألحظه!
فركت يداي فور دخولي وزفرت في عمق, متخذاً مجلسي جوار الطاولة المشغولة الوحيدة بالمكان لعلي آنس بشاغليها.
سيدة بدينة ذات شعر هائش نافر, أصباغ غير متناسقة, ملابسها غالية الثمن مفتقدة للذوق. يصلني عطرها الفوّاح, يكاد يقتحمني, فأجده منفراً. اكتئاب ملحوظ في قسمات وجهها, ترفع يدها مكرمشة الجلد من أثر السنين بسيجارة تدخنها في نهم. متلذذة بضم شفتيها – في شبق ربما تفتقده في حياتها الشخصية – على المبسم الرفيع.
كان النادل الوحيد للمكان واقفاً بجوارها منتظراً طلبها.
بجوارها جلست فتاة صغيرة, ضئيلة الجسد, ذات ملامح أسيوية, ترتدي الخمار البسيط, على جلباب فضفاض من اللون الأبيض. هدوء عجيب في قسمات وجهها والذي يبدو ساكناً بلا تعبير.
تقلّب المرأة البدينة في قائمة المأكولات مرة واثنين وثلاثة. والنادل المسكين واقف يتصبب عرقاً بجوارها رغم الجو البارد.
وأخيراً جداً تمخّض الجبل:
-         عايزة موزة بتلو ... بس تكون حلوة ... لو وحشة هارميها ف وشّك ... إنت فاهم؟! وطبق سلطة كبير ... مش تضحك عليا بخيارة وطماطماية وتقولّلي ده طبق سلطة ... فاهم؟! فاهم ولا لأ؟!!

النادل يدون الطلبات والملاحظات في ارتباك لا مبرر له.
إلا أن المرأة هزّت يدها الحرّة ذات الغوايش الذهبية العريضة والخواتم الضخمة:
-         آه ... وعايزة طبق (بومفريت) حلو كده مش عيّنات ... وورق عنب ... وطرشي ... والعيش يكون سُخن ... فاهم؟! سخن أوي زي اللي طالع م الفرن ... بتكتب عندك ولا واقف كده زي قِلّتك؟!

تلعثم النادل: - باكتب يا أفندم ... باكتب ...

توقف النادل وهلة بانتظار التعليمات الجديدة. إلا أن البركان الهادر توقف, فتردد قليلاً قبل أن يسأل في لطف:
-         والآنسة؟! هاتطلب حاجة؟!

نظرت له الفتاة الأسيوية في ذعر كأنها تلومه على وضعها في حيز الاهتمام. تهكمت المرأة وهي تنفث دخان السيجارة في وجه النادل: - آنسة؟! ها ... آنسة إيه؟! دي الشغالة بتاعتي ... بس مابروحش حتّة من غيرها ...

مالبثت أن التفتت ناحيتها, نظرت لها شذراً وهي تهدر:
-         ها ... (آمنة) ... عايزة تاكلي حاجة؟! قولي ...

ارتبك الكيان الضئيل حتى ظننت أنها سيغشى عليها, إلا أنها تماسكت في اللحظة الأخيرة وقالت بصوت واهن للغاية وباللغة العربية الفصحى:
-         من فضلك ... حساء ... حساء ساخن ... شكراً لك ...

ابتسم لها النادل في عذوبة بينما سخرت المرأة منها وهي تشعل سيجارة جديدة:
-         شوربة؟! ... قال شوربة قال ... وده أكل ده ... هاتلها يا ابني اللّي عايزاه ... دي خايبة !!

أردفت قبل أن يغادرها النادل:
-         آه ... بأقولك ... ماتنساش تجيبلي (كولا دايت) ... (دايت) فاهم؟! بيقولوا اللّي مش (دايت) بيتخّن ...

في اللحظة الأخيرة سيطرت على نفسي قبل أن تفلت مني الضحكة التي ستصمني بقلة الذوق!!

انشغل النادل بطلبات السيدة الثرية, فنسي أن يحضر لي قائمة طعام أو يسألني عمّا أريد. ولمّا لم أكن في عجلة من أمري فلم أتكبّد مشقة أن ألفت نظره لذلك, وتركته لمهمته المستحية لإرضاء من لا يرضى!!

مر بعض الوقت ليعود بطلبات السيدة وخادمتها الأسيوية, وكنت أنا قد انشغلت بقراءة كتاب معي, فتنبهت على صوت النادل يتنحنح بجواري معتذراً عن التأخير ومقدماً لي نسخة من قائمة الطعام وابتسامته العريضة تملأ صفحة وجهه الشاب.

بدأت أتصفح قائمة الطعام في هدوء متنقلاً ما بين صفحتها اللامعة وجارتيّ المثيرتين.

صوت المرأة وهي تلوك الطعام في صوت مسموع وتضرب سطح الأطباق بأدوات المائدة في صخب, تقضم قضمة من هذا وتمزق قطعة من ذا, ثم تدس اصبعاً من ورق العنب في فمها المملوء بالطعام!!
كانت الفتاة الضئيلة آنذاك تملأ ملعقة الحساء حتى منتصفها, وتمسح ظهر الملعقة في حافة طبق الحساء ثلاث مرات في تؤدة, تقرّب الملعقة ببطء تجاه فمها شبه المغلق, تزم شفتيها في رقة, ثم ترتشف الملعقة المنقوصة بلا صوت. تتمهّل عدة ثوان قيل أن تعيد الكرّة في حركات غاية في التناسق والأناقة.

عاود النادل سؤالي عمّا أطلب.

نظرت للسيدة الفجّة والفتاة الرقيقة مرة أخيرة.
ودون وعي مني.
نظرت للنادل وابتسمت له في دفء قائلاً:
-         من فضلك ... حــســـــــاء ...
حــســـاء ســـاخــن ...
         حـسـاء سـاخن ولـذيـذ ...
                            شـــكراً لـــــك ...






0 التعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة الموضوع

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More