قال تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ
الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ
فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ
وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)
(الحديد:25).
سورة الحديد سورة مدنية, وهي السورة الوحيدة من سور القرآن الكريم التي تحمل أسم عنصر
من العناصر المعروفة لنا والتي يبلغ عددها مائة وخمسة عناصر; ويعجب القارئ للقرآن
لاختيار هذا العنصر بالذات اسما لهذه السورة التي تدور حول قضية إنزاله من
السماء, وبأسه الشديد, ومنافعه للناس.....!! وتبدأ السورة الكريمة بتأكيد
أن كل ما في السماوات والأرض خاضع بالعبودية لله, مسبح بحمده, منزه له عن كل
وصف لايليق بجلاله, لأنه( تعالي) هو العزيز الحكيم, الذي له ملك السماوات
والأرض, الذي يحيي ويميت وهو علي كل شيء قدير; وتواصل الآيات مزيدا من صفات هذا
الخالق العظيم فهو الأول بلا بداية, والآخر بلا نهاية, والظاهر فليس فوقه
شيء, والباطن فليس دونه شيء, وهو العليم بكل شيء, فلا تخفي عليه خافية في
الأرض ولا في السماء; وأنه( تعالي) خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوي
علي العرش استواء يليق بجلاله, وأنه( سبحانه) يعلم مايلج في الأرض, وما
يخرج منها, وما ينزل من السماء, ومايعرج فيها, وأنه مع جميع خلقه أينما
كانوا, وفي أي زمان كانوا, فلا الزمان ولا المكان يقف عائقا أمام قدرة الله,
وهو( تعالي) مطلع علي جميع خلقه, بصير بما يعملون, وهو الذي له ملك
السماوات والأرض, الذي إليه ترجع الأمور, وأن من الدلائل علي طلاقة قدرته
أنه( تعالي) يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل, وهو( سبحانه)
عليم بذات
الصدور, فالكون كله خاضع لإرادته( تعالي) فهو خالقه ومبدعه, والمتصرف فيه
بما يشاء, وهذه الصفات العليا من خصائص الإله الواحد الأحد, الفرد الصمد,
الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد, فلا شريك له في ملكه, ولا منازع له
في سلطانه, فهو رب كل شيء ومليكه, بغير شريك ولا شبيه ولا منازع, المسيطر
سيطرة مطلقة علي الوجود كله بكل ما فيه, ومن فيه, فكل شيء بيديه, وكل شيء
راجع إليه, لا يخفى شيء عن علمه, ولا يخرج شيء عن أمره, يعلم خائنة الأعين
وما تخفي الصدور....!! ثم تتحرك الآيات بعد ذلك في إيقاع رقيق يخاطب جماعة
المؤمنين, وتدعوهم إلي تجسيد إيمانهم بالله ورسوله في بذل الأموال والمهج
والأرواح دفاعا عن هذا الدين, وإلي الإنفاق مما جعلوا مستخلفين فيه حتى ينالوا
الأجر الكبير من رب العالمين, فالذي يفعل ذلك كأنما يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه
له أضعافا كثيرة وله أجر كريم, وبالإضافة إلي عمومية الدعوة إلي تلك الحقيقة,
فهي تذكرة دائمة لجماعة المؤمنين بما بذله السابقون من المهاجرين والأنصار في سبيل
الله, حتى يتأسوا بهم في التجرد الكامل, والإخلاص الصادق لدين الله, والبذل
والتضحية بالأموال والأنفس من أجل إعلاء كلمة الله في الأرض فلا تشدهم الحياة
الدنيا عن الجهاد في سبيل الله مهما تكن المغريات, ومهما تكن
العوائق.....!! وبعد ذلك تعرض الآيات لحال كل من المؤمنين والمؤمنات في
جانب, والمنافقين والمنافقات في جانب آخر يوم العرض الأكبر, وشتان مابين
الحالين.
وتتساءل الآيات عن إمكان أن يكون الوقت قد حان لكي تخشع قلوب
المؤمنين لذكر الله, وما أنزل من الحق علي خاتم أنبيائه ورسله حتى لايكونوا
كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم
فاسقون. وتؤكد الآيات بعد ذلك مرحلية الحياة الدنيا, وأنها ليست إلا متاع
الغرور, فلا يجوز لعاقل أن ينخدع بها, ويفني عمره في خدمتها, لاهيا عن الآخرة
وهي دار القرار, ولذلك تنادي الآيات بالمسارعة إلي طلب المغفرة من الله, وإلي
العمل المخلص الدءوب من أجل الفوز بالجنة التي عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين
آمنوا بالله ورسله; وتضيف الآيات أن كل خطب جلل نزل بالأرض أو بالأنفس مدون في
كتاب الله من قبل وقوعه, وأن ذلك علي الله يسير, كي ترضي كل نفسي مؤمنة بقدر
الله ـ خيره وشره ـ وتؤمن أن فيه الخير كل الخير, فلا تبطر عند مسرة, لأن الله
تعالي لا يحب كل مختال فخور, ولا تجزع عند مضرة لإيمانها بأن ذلك قدر مقسوم,
وأجل محتوم, وأنه لا ملجأ ولا منجي من الله إلا إليه....!!
وتنعي الآيات
علي الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل, لأن الله تعالي كريم يحب كل كريم, ومن
يتول عن منهج الله فإن الله هو الغني الحميد. وبعد هذه المقدمة الطويلة يأتي
قلب السورة وسر تسميتها في الآية التي يقول فيها ربنا( تبارك
وتعالي):
(لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا
معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس
وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز*)ثم تأتي الآيات
الأربع الأخيرة في السورة لتعرض خط سير رسالة الهداية الربانية, وتاريخ هذا الدين
ـ دين الإسلام الذي علمه ربنا( تبارك وتعالي) لأبينا آدم عليه السلام, وأنزله
علي فترة من الرسل من لدن نبي الله نوح( عليه السلام) إلي خاتم الأنبياء
والمرسلين سيدنا محمد بن عبد الله( عليه وعليهم أجمعين أفضل الصلاة وأزكي
التسليم), والذي لايرتضي ربنا( تبارك وتعالي) من عباده دينا سواه بعد أن
أكمله, وأتمه, وحفظه في بعثة هذا النبي الخاتم والرسول الخاتم( صلي الله وسلم
وبارك عليه, وعلي آله وصحبه أجمعين), وأشارت الآيات إلي حال بعض من أهل الكتاب
ومنهم أتباع نبي الله عيسي( عليه السلام), واختتمت السورة بالدعوة إلي الإيمان
بالنبي الخاتم والرسول الخاتم, ففي ذلك دخول في رحمة الله, وفي نوره ومغفرته,
وهو سبحانه صاحب الفضل العظيم, والمنن العديدة التي يمن بها علي من يشاء من
عباده. والآية الكريمة التي نحن بصددها تؤكد أن الحديد قد أنزل إنزالا كما
أنزلت جميع صور الوحي السماوي, وأنه يمتاز ببأسه الشديد, وبمنافعه العديدة
للناس, وهو من الأمور التي لم يصل العلم الإنساني إلي إدراكها إلا في أواخر
الخمسينيات من القرن العشرين. وهنا يبرز التساؤل: كيف أنزل الحديد؟ وما هو
وجه المقارنة بين إنزال وحي السماء وإنزال الحديد؟ ما هو بأسه الشديد؟ وما هي
منافعه للناس؟ وقبل الإجابة علي تلك الأسئلة لابد من استعراض سريع للدلالات اللغوية
لبعض ألفاظ الآية الكريمة, وكذلك للمواضع التي ورد فيها ذكر( الحديد) في كتاب
الله( تعالي).
الدلالات اللغوية لبعض ألفاظ الآية
الكريمة
(النزول) في الأصل هو هبوط من علو, يقال في اللغة:( نزل),(
ينزل)( نزولا), و(منزلا) بمعني حل, يحل, حلولا; والمنزل بفتح الميم
والزاي هو( النزول) وهو الحلول, و(نزل) عن دابته بمعني هبط من عليها,
و(نزل) في مكان كذا أي حط رحله فيه, و(النزيل) هو الضيف. ويقال:(
أنزله) غيره بمعني أضافه أو هبط به; و(استنزله) بمعني( نزله تنزيلا),
و(التنزيل) ايضا هو القرآن الكريم, وهو( الإنزال المفرق), وهو الترتيب;
وعلي ذلك فإن الإنزال أعم من التنزيل; و(التنزل) هو( النزول في مهلة),
و(النزل) هو ما يهيأ( للنزيل) أي مايعد( للنازل) من المكان,
والفراش, والزاد, والجمع( انزال); وهو أيضا الحظ والريع,و(النزل)
بفتحتىن, و(المنزل) الدار والمنهل( أي المورد الذي ينتهل منه لأن به(
ماء) أو هو عين ماء ترده الإبل في المراعي, وتسمي المنازل التي في المفاوز علي
طرق( السفار); و(المنزلة) مثله, أو هي الرتبة أو المرتبة;
و(المنزلة) لاتجمع. ويقال استنزل فلان( بضم التاء وكسر الزاي) أي حط
عن مرتبته, و(المنزل) بضم الميم وفتح الزاي( الإنزال), نقول:' رب
أنزلني( منزلا) مباركا, وأنت خير( المنزلين)*'; و(إنزال) الله(
تعالي) نعمه ونقمه علي الخلق هو إعطاؤهم إياها, وقال المفسرون في قول الحق(
تبارك وتعالي):( ولقد رآه نزلة أخري) إن( نزلة) هنا تعني مرة
أخري. وفي قوله( تعالي)' جنات الفردوس نزلا' قال الأخفش: هو من(
نزول) الناس بعضهم علي بعض, يقال: ماوجدنا عندك نزلا; و(النازلة):
الشديدة من شدائد الدهر تنزل بالناس, وجمعها( نوازل); و(النزال) في
الحرب( المنازلة); و(النزلة هي الزكمة من الزكام, يقال به( نزلة), وقد
نزل بضم النون.
الحديد في القرآن الكريم
ورد ذكر الحديد في كتاب الله( تعالي) في ست آيات متفرقات علي النحو
التالي: (1) قل كونوا حجارة أو حديدا* (
الإسراء:50)
(2) آتوني زبر الحديد.....*( الكهف:96) (3) ولهم
مقامع من حديد*( الحج:21) (4):.. وألنا له الحديد*( سبأ:10) (5)
لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد*.( ق:22) (6)..
وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس..*( الحديد:25)وكلها تشير
إلي عنصرالحديد ماعدا آية سورة ق والتي جاءت لفظة( حديد) فيها في مقام التشبيه
للبصر بمعني أنه نافذ قوي يبصر به ما كان خفيا عنه في الدنيا.
شروح المفسرين للآية الكريمة
ذكر ابن كثير( يرحمه الله) في تفسير قول الحق( تبارك وتعالي): وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس*.أي
وجعلنا الحديد رادعا لمن أبي الحق وعانده بعد قيام الحجة عليه, ولهذا أقام رسول
الله( صلي الله عليه وسلم) بمكة بعد النبوة ثلاث عشرة سنة توحي إليه السور
المكية, وكلها جدال مع المشركين, وبيان وإيضاح للتوحيد, وبيناته ودلالاته,
فلما قامت الحجة علي من خالف, شرع الله الهجرة, وأمرهم بالقتال بالسيوف وضرب
الرقاب, وقد روي الإمام أحمد, عن ابن عمر قال.. قال رسول الله( صلي الله
عليه وسلم) بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له, وجعل
رزقي تحت ظل رمحي, وجعل الذلة والصغار علي من خالف أمري, ومن تشبه بقوم فهو
منهم) ولهذا قال تعالي:( فيه بأس شديد) يعني السلاح كالسيوف والحراب والسنان
ونحوها( ومنافع للناس) أي في معايشهم كالسكة والفأس والمنشار والآلات التي
يستعان بها في الحراثة والحياكة والطبخ وغير ذلك.. وقوله تعالي( وليعلم الله من
ينصره ورسله بالغيب) أي من نيته في حمل السلاح نصرة لله ورسوله( إن الله قوي
عزيز) أي هو قوي عزيز ينصر من نصره من غير احتىاج منه إلي الناس, وإنما شرع
الجهاد ليبلو بعضكم ببعض. وذكر صاحبا تفسير الجلالين( رحمهما الله) في
تفسير هذه الآية الكريمة مانصه: لقد أرسلنا رسلنا الملائكة إلي الأنبياء(
بالبينات) بالحجج القواطع( وأنزلنا معهم الكتاب) بمعني الكتب ـو(الميزان)
العدل,( ليقوم الناس بالقسط( وأنزلنا الحديد) أي أنشأناه, وخلقناه, لقوله
تعالي( وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج) أي خلق, وقيل: أخرجناه من
المعادن,( فيه بأس شديد) يعني السلاح, يقاتل به من أبي الحق وعانده بعد قيام
الحجة عليه,( ومنافع للناس) في معايشهم كالفأس والمنشار وسائر الأدوات
والآلات,( وليعلم الله) علم مشاهدة, معطوف علي( ليقوم الناس)( من
ينصره) بأن ينصر دينه بآلات الحرب من الحديد وغيره( ورسله بالغيب) حال من
هاء( ينصره) أي غائبا عنهم في الدنيا, قال ابن عباس: ينصرونه ولايبصرونه(
إن الله قوي عزيز) لاحاجة له إلي النصرة لكنها تنفع من يأتي بها. وذكر صاحب
الظلال( رحمه الله رحمة واسعة): وفي النهاية يجيء المقطع الأخير في السورة,
يعرض باختصار خط سير الرسالة, وتاريخ هذه العقيدة من لدن نوح وإبراهيم, مقررا
حقيقتها وغايتها في دنيا الناس, ملما بحال أهل الكتاب, وأتباع عيسي ـ عليه
السلام ـ بصفة خاصة.. فالرسالة واحدة في جوهرها, جاء بها الرسل ومعهم البينات
عليها, ومعظمهم جاء بالبينات الخوارق.. والنص يقول:( وأنزلنا معهم الكتاب)
بوصفهم وحدة, وبوصف الكتاب وحدة كذلك, إشارة إلي وحدة الرسالة في
جوهرها. (والميزان).. مع الكتاب, فكل الرسالات جاءت لتقر في الأرض,
وفي حياة الناس ميزانا ثابتا ترجع إليه البشرية.. ميزانا لايحابي أحدا لأنه يزن
بالحق الإلهي للجميع, ولايحيف علي أحد لأن الله رب الجميع. فلابد من ميزان
ثابت يثوب إليه البشر..( ليقوم الناس بالقسط)! ( وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس, وليعلم الله
من ينصره, ورسله بالغيب) والتعبير بـ( أنزلنا الحديد) كالتعبير في
موضع آخر بقوله تعالي( وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج) كلاهما يشير إلي
إرادة الله وتقديره في خلق الأشياء والأحداث... أنزل الله الحديد( فيه بأس
شديد) وهو قوة الحرب والسلم( ومنافع للناس) وتكاد حضارة البشر القائمة الآن
تقوم علي الحديد( وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب) وهي إشارة إلي الجهاد
بالسلاح, تجيء في موضعها من السورة التي تتحدث عن بذل النفس والمال. ولما
تحدث عن الذين ينصرون الله ورسله بالغيب, عقب علي هذا بإيضاح معني نصرهم لله
ورسله, فهو نصر لمنهجه ودعوته, أما الله سبحانه فلا يحتاج منهم إلي نصر: إن
الله قوي عزيز.. وذكر صاحب ـ(صفوة البيان لمعاني القرآن):.. و(أنزلنا
الحديد) أي خلقناه لكم, كقوله تعالي( وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج)
أي هيأناه لكم, وأنعمنا به عليكم, وعلمناكم استخراجه من الأرض وصنعته
بإلهامنا,( فيه بأس شديد) أي فيه قوة وشدة, فمنه جنة وسلاح, وآلات للحرب
وغيرها, وفي الآية إشارة إلي احتىاج الكتاب والميزان إلي القائم بالسيف, ليحصل
القيام بالقسط,( ومنافع للناس) في معاشهم ومصالحهم, وما من صنعة إلا والحديد
آلتها, كما هو مشاهد, فالمنة به عظمي... وقال صاحب( صفوة التفاسير):(
وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد) أي وخلقنا وأوجدنا الحديد فيه باس شديد, لأن آلات
الحرب تتخذ منه, كالدروع والرماح والتروس والدبابات وغير ذلك ومنافع للناس أي
وفيه منافع كثيرة للناس كسكك الحراثة والسكين والفأس وغير ذلك, وما من صناعة إلا
والحديد آلة فيها, قال أبوحيان: وعبر تعالي عن إيجاده بالإنزال كما قال:(
وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج) لأن الأوامر وجميع القضايا والأحكام لما كانت
تلقي من السماء جعل الكل نزولا منها, وأراد بالحديد جنسه من المعادن قاله
الجمهور. وذكر أصحاب( المنتخب في تفسير القرآن الكريم) مانصه: لقد
أرسلنا رسلنا الذين اصطفيناهم بالمعجزات القاطعة, وأنزلنا معهم الكتب المتضمنة
للأحكام وشرائع الدين والميزان الذي يحقق الإنصاف في التعامل, ليتعامل الناس فيما
بينهم بالعدل, وخلقنا الحديد فيه عذاب شديد في الحرب, ومنافع للناس في السلم,
يستغلونه في التصنيع, لينتفعوا به في مصالحهم ومعايشهم, وليعلم الله من ينصر
دينه, وينصر رسله غائبا عنهم إن الله قادربذاته, لايفتقر إلي عون
أحد. وجاءوا في الهامش ببعض من صفات الحديد وفوائده.
حديد الأرض في العلوم الكونية
بينما لاتتعدي نسبة الحديد في شمسنا0.0037% فإن نسبته في التركيب
الكيميائي لأرضنا تصل إلي35,9% من مجموع كتلة الأرض المقدرة بحوالي ستة آلاف
مليون مليون مليون طن, وعلي ذلك فإن كمية الحديد في الأرض تقدر بأكثر من ألفي
مليون مليون مليون طنا, ويتركز الحديد في قلب الأرض, أو مايعرف باسم لب
الأرض, وتصل نسبة الحديد فيه إلي90% ونسبة النيكل( وهو من مجموعة الحديد)
إلي9% وتتناقص نسبة الحديد من لب الأرض إلي الخارج باستمرار حتى تصل إلي5,6% في
قشرة الأرض. وإلي أواخر الخمسينيات من القرن العشرين لم يكن لأحد من العلماء
إمكانية التصور( ولو من قبيل التخيل) أن هذا القدر الهائل من الحديد قد أنزل
إلي الأرض من السماء إنزالا حقيقيا!! كيف أنزل؟ وكيف تسني له اختراق الغلاف
الصخري للأرض بهذه الكميات المذهلة؟ وكيف أمكنه الاستمرار في التحرك بداخل الأرض
حتى وصل إلي لبها؟ وكيف شكل كلا من لب الأرض الصلب ولبها السائل علي هيئة كرة ضخمة
من الحديد والنيكل يحيط بها وشاح منصهر من نفس التركيب, ثم أخذت نسبته في التناقص
باستمرار في اتجاه قشرة الأرض الصلبة؟ لذلك لجأ كل المفسرين للآية الكريمة التي
نحن بصددها إلي تفسير( وأنزلنا الحديد) بمعني الخلق والإيجاد والتقدير
والتسخير, لأنه لما كانت أوامر الله تعالي وأحكامه تلقي من السماء إلي الأرض جعل
الكل نزولا منها, وهو صحيح, ولكن في أواخر القرن العشرين ثبت لعلماء الفلك
والفيزياء, الفلكية أن الحديد لايتكون في الجزء المدرك من الكون إلا في مراحل
محددة من حياة النجوم تسمي بالعماليق الحمر, والعماليق العظام, والتي بعد أن
يتحول لبها بالكامل إلي حديد تنفجر علي هيئة المستعرات العظام, وبانفجارها تتناثر
مكوناتها بما فيها الحديد في صفحة الكون فيدخل هذا الحديد بتقدير من الله في مجال
جاذبية أجرام سماوية تحتاج إليه مثل أرضنا الابتدائية التي وصلها الحديد الكوني,
وهي كومة من الرماد فاندفع إلي قلب تلك الكومة بحكم كثافته العالية وسرعته المندفع
بها فانصهر بحرارة الاستقرار في قلب الأرض وصهرها, ومايزها إلي سبع أرضين!!
وبهذا ثبت أن الحديد في أرضنا, بل في مجموعتنا الشمسية بالكامل قد أنزل إليها
إنزالا حقيقيا.
أولا: إنزال الحديد من السماء
في دراسة لتوزيع العناصر المختلفة في الجزء المدرك من الكون لوحظ أن غاز
الإيدروجين هو أكثر العناصر شيوعا إذ يكون أكثر من74% من مادة الكون المنظور,
ويليه في الكثرة غاز الهيليوم الذي يكون حوالي24% من مادة الكون المنظور, وأن
هذين الغازين وهما يمثلان أخف العناصر وأبسطها بناء يكونان معا أكثر من98% من
مادة الجزء المدرك من الكون, بينما باقي العناصر المعروفة لنا وهي(103) عناصر
تكون مجتمعة أقل من2% من مادة الكون المنظور,وقد أدت هذه الملاحظة إلي
الاستنتاج المنطقي أن أنوية غاز الإيدروجين هي لبنات بناء جميع العناصر المعروفة
لنا وأنها جميعا قد تخلقت باندماج أنوية هذا الغاز البسيط مع بعضها البعض في داخل
النجوم بعملية تعرف باسم عملية الاندماج النووي تنطلق منها كميات هائلة من
الحرارة,. وتتم بتسلسل من أخف العناصر إلي أعلاها وزنا ذريا وتعقيدا في
البناء. فشمسنا تتكون أساسا من غاز الإيدروجين الذي تندمج أنويته مع بعضها
البعض لتكون غاز الهيليوم وتنطلق طاقة هائلة تبلغ عشرة ملايين درجة مئوية, ويتحكم
في هذا التفاعل( بقدرة الخالق العظيم) عاملان هما زيادة نسبة غاز الهيليوم
المتخلق بالتدريج, وتمدد الشمس بالارتفاع المطرد في درجة حرارة لبها, وباستمرار
هذه العملية تزداد درجة الحرارة في داخل الشمس تدريجيا, وبازديادها ينتقل التفاعل
إلي المرحلة التالية التي تندمج فيها نوي ذرات الهيليوم مع بعضها البعض منتجة نوي
ذرات الكربون12, ثم الأوكسجين16 ثم النيون20, وهكذا. وفي نجم عادي مثل
شمسنا التي تقدر درجة حرارة سطحها بحوالي ستة آلاف درجة مئوية, وتزداد هذه
الحرارة تدريجيا في اتجاه مركز الشمس حتى تصل إلي حوالي15 مليون درجة مئوية,
يقدر علماء الفيزياء الفلكية أنه بتحول نصف كمية الإيدروجين الشمسي تقريبا إلي
الهيليوم فإن درجة الحرارة في لب الشمس ستصل إلي مائة مليون درجة مئوية, مما يدفع
بنوي ذرات الهيليوم المتخلقة إلي الاندماج في المراحل التالية من عملية الاندماج
النووي مكونة عناصر أعلي في وزنها الذري مثل الكربون ومطلقة كما أعلي من الطاقة,
ويقدر العلماء أنه عندما تصل درجة حرارة لب الشمس إلي ستمائة مليون درجة مئوية
يتحول الكربون إلي صوديوم ومغنيسيوم ونيون, ثم تنتج عمليات الاندماج النووي
التالية عناصر الألومنيوم, والسيليكون, والكبريت والفوسفور, والكلور,
والأرجون, والبوتاسيوم, والكالسيوم علي التوالي, مع ارتفاع مطرد في درجة
الحرارة حتى تصل إلي ألفي مليون درجة مئوية حين يتحول لب النجم إلي مجموعات
التيتانيوم, والفاناديوم, والكروم, والمنجنيز والحديد( الحديد والكوبالت
والنيكل) ولما كان تخليق هذه العناصر يحتاج إلي درجات حرارة مرتفعة جدا لاتتوافر
إلا في مراحل خاصة من مراحل حياة النجوم تعرف باسم العماليق الحمر والعماليق العظام
وهي مراحل توهج شديد في حياة النجوم, فإنها لاتتم في كل نجم من نجوم السماء,
ولكن حين يتحول لب النجم إلي الحديد فانه يستهلك طاقة النجم بدلا من إضافة مزيد من
الطاقة إليه, وذلك لأن نواة ذرة الحديد هي أشد نوي العناصر تماسكا, وهنا ينفجر
النجم علي هيئة مايسمي باسم المستعر الأعظم من النمط الأول أو الثاني حسب الكتلة
الابتدائية للنجم, وتتناثر أشلاء النجم المنفجر في صفحة السماء لتدخل في نطاق
جاذبية أجرام سماوية تحتاج إلي هذا الحديد, تماما كما تصل النيازك الحديدية إلي
أرضنا بملايين الأطنان في كل عام. ولما كانت نسبة الحديد في شمسنا
لاتتعدي0.0037% من كتلتها وهي أقل بكثير من نسبة الحديد في كل من الأرض والنيازك
الحديدية التي تصل إليها من فسحة الكون, ولما كانت درجة حرارة لب الشمس لم تصل
بعد إلي الحد الذي يمكنها من انتاج السيليكون, أو المغنيسيوم, فضلا عن
الحديد, كان من البديهي استنتاج أن كلا من الأرض والشمس قد استمد ما به من حديد
من مصدر خارجي عنه في فسحة الكون, وأن أرضنا حينما انفصلت عن الشمس لم تكن سوي
كومة من الرماد المكون من العناصر الخفيفة, ثم رجمت هذه الكومة بوابل من النيازك
الحديدية التي انطلقت إليها من السماء فاستقرت في لبها بفضل كثافتها العالية
وسرعاتها الكونية فانصهرت بحرارة الاستقرار, وصهرت كومة الرماد ومايزنها إلي سبع
أرضين: لب صلب علي هيئة كرة ضخمة من الحديد(90%) والنيكل(9%) وبعض العناصر
الخفيفة من مثل الكبريت, والفوسفور, والكربون(1%) يليه إلي الخارج, لب سائل
له نفس التركيب الكيميائي تقريبا, ويكون لب الأرض الصلب والسائل معا حوالي31%
من مجموع كتلة الأرض, ويلي لب الأرض إلي الخارج وشاح الأرض المكون من ثلاثة
نطق, ثم الغلاف الصخري للأرض, وهو مكون من نطاقين, وتتناقص نسبة الحديد من لب
الأرض إلي الخارج باستمرار حتى تصل إلي5,6% في قشرة الأرض وهي النطاق الخارجي من
غلاف الأرض الصخري. من هنا ساد الاعتقاد بأن الحديد الموجود في الأرض والذي
يشكل35,9% من كتلتها لابد وأنه قد تكون في داخل عدد من النجوم المستعرة من مثل
العماليق الحمر, والعماليق العظام والتي انفجرت علي هيئة المستعرات العظام
فتناثرت أشلاؤها في صفحة الكون ونزلت إلي الأرض علي هيئة وابل من النيازك
الحديدية, وبذلك أصبح من الثابت علميا أن حديد الأرض قد أنزل إليها من السماء,
وأن الحديد في مجموعتنا الشمسية كلها قد أنزل كذلك إليها من السماء, وهي حقيقة لم
يتوصل العلماء إلي فهمها إلا في أواخر الخمسينيات, من القرن العشرين, وقد جاء
ذكرها في سورة الحديد, ولايمكن لعاقل أن يتصور ورودها في القرآن الكريم الذي أنزل
منذ أكثر من أربعة عشر قرنا علي نبي أمي( صلي الله عليه وسلم) وفي أمة كانت
غالبيتها الساحقة من الأميين, يمكن أن يكون له من مصدر غير الله الخالق الذي أنزل
هذا القرآن بعلمه, وأورد فيه مثل هذه الحقائق الكونية لتكون شاهدة إلي قيام
الساعة بأن القرآن الكريم كلام الله الخالق, وأن سيدنا محمدا( صلي الله عليه
وسلم) ما كان ينطق عن الهوي( إن هو إلا وحي يوحي* علمه شديد
القوي.
ثانيا: البأس الشديد للحديد
الحديد عنصر فلزي عرفه القدماء, فيما عرفوا من الفلزات من مثل الذهب,
والفضة, والنحاس, والرصاص, والقصدير والزئبق, وهو أكثر العناصر انتشارا في
الأرض(35,9%) ويوجد أساسا في هيئة مركبات الحديد من مثل أكاسيد, وكربونات,
وكبر يتيدات, وكبريتات وسيليكات ذلك العنصر, ولايوجد علي هيئة الحديد النقي إلا
في النيازك الحديدية وفي جوف الأرض. والحديد عنصر فلزي شديد البأس, وهو أكثر
العناصر ثباتا وذلك لشدة تماسك مكونات النواة في ذرته التي تتكون من ستة وعشرين
بروتونا, وثلاثين نيوترونا, وستة وعشرين إليكترونا, ولذلك تمتلك نواة ذرة
الحديد أعلي قدر من طاقة التماسك بين جميع نوي العناصر الأخرى, ولذا فهي تحتاج
إلي كميات هائلة من الطاقة لتفتيتها أو للإضافة إليها. ويتميز الحديد وسبائكه
المختلفة بين جميع العناصر والسبائك المعروفة بأعلي قدر من الخصائص المغناطيسية,
والمرونة( القابلية للطرق والسحب وللتشكل) والمقاومة للحرارة ولعوامل التعرية
الجوية, فالحديد لاينصهر قبل درجة1536 مئوية, ويغلي عند درجة3023 درجة
مئوية تحت الضغط الجوي العادي عند سطح البحر, وتبلغ كثافة الحديد7,874 جرام
للسنتيمتر المكعب عند درجة حرارة الصفر المطلق.
ثالثا: منافع الحديد للناس
للحديد منافع جمة وفوائد أساسية لجعل الأرض صالحة للعمران بتقدير من الله,
ولبناء اللبنات الأساسية للحياة التي خلقها ربنا( تبارك وتعالي) فكمية الحديد
الهائلة في كل من لب الأرض الصلب, ولبها السائل تلعب دورا مهما في توليد المجال
المغناطيسي للأرض, وهذا المجال هو الذي يمسك بكل من الغلاف الغازي والمائي
والحيوي للأرض, وغلاف الأرض الغازي يحميها من الأشعة والجسيمات الكونية ومن
العديد من أشعات الشمس الضارة, ومن ملايين الأطنان من النيازك, ويساعد علي ضبط
العديد من العمليات الأرضية المهمة من مثل دورة كل من الماء, والأوكسجين, وثاني
أكسيد الكربون, والأوزون وغيرها من العمليات اللازمة لجعل الأرض كوكبا صالحا
للعمران. والحديد لازمة من لوازم بناء الخلية الحية في كل من النبات والحيوان
والانسان إذ تدخل مركبات الحديد في تكوين المادة الخضراء في النباتات(
الكلوروفيل) وهو المكون الأساسي للبلاستيدات الخضراء التي تقوم بعملية التمثيل
الضوئي اللازمة لنمو النباتات, ولانتاج الأنسجة النباتية المختلفة من مثل الأوراق
والأزهار, والبذور والثمار والتي عن طريقها يدخل الحديد إلي أنسجة ودماء كل من
الانسان والحيوان, وعملية التمثيل الضوئي هي الوسيلة الوحيدة لتحويل طاقة الشمس
إلي روابط كيميائية تختزن في أجساد جميع الكائنات الحية, وتكون مصدرا لنشاطها
أثناء حياتها, وبعد تحلل أجساد تلك الكائنات بمعزل عن الهواء تتحول إلي مختلف صور
الطاقة المعروفة( القش, والحطب, والفحم النباتي, والفحم الحجري, والغاز
الفحمي والنفط, والغاز الطبيعي وغيرها), والحديد يدخل في تركيب بروتينات نواة
الخلية الحية الموجودة في المادة الحاملة للشفرة الوراثية للخلية( الصبغيات)
كما يوجد في سوائل الجسم المختلفة, وهو أحد مكونات الهيموجلوبين وهي المادة
الأساسية في كرات الدم الحمراء, ويقوم الحديد بدور مهم في عملية الاحتراق الداخلي
للأنسجة والتمثيل الحيوي بها. ويوجد في كل من الكبد, والطحال والكلي,
والعضلات والنخاع الأحمر, ويحتاج الكائن الحي إلي قدر محدد من الحديد إذا نقص
تعرض للكثير من الأمراض التي أوضحها فقر الدم والحديد عصب الصناعات المدنية
والعسكرية فلا تكاد صناعة معدنية أن تقوم في غيبة الحديد.
العلاقة بين رقم
سورة الحديد في المصحف الشريف ورقم الآية في السورة بكل من الوزن الذري والعدد
الذري للحديد علي التوالي للحديد ثلاثة نظائر يقدر وزنها الذري بحوالي57,56,54
ولكن أكثرها انتشارا هو النظير الذي يحمل الوزن الذري56(55,847). ومن الغريب
أن رقم سورة الحديد في المصحف الشريف هو57, وهو يتفق مع الوزن الذري لأحد نظائر
الحديد, ولكن القرآن الكريم يخاطب المصطفي( صلي الله عليه وسلم) في سورة
الحجر بقول الحق( تبارك وتعالي): ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن
العظيم( الحجر:87) وواضح من هذه الآية الكريمة أن القرآن الكريم بنصه يفصل
فاتحة الكتاب عن بقية القرآن الكريم, وبذلك يصبح رقم سورة الحديد(56) وهو الوزن
الذري لأكثر نظائر الحديد شيوعا في الأرض, كذلك وصف سورة الفاتحة بالسبع المثاني
وآياتها ست يؤكد أن البسملة آية منها( ومن كل سورة من سور القرآن الكريم ذكرت في
مقدمتها, وقد ذكرت في مقدمة كل سور القرآن الكريم ماعدا سورة( التوبة) وعلي
ذلك فإذا أضفنا البسملة في مطلع سورة الحديد إلي رقم آية الحديد وهو(25) أصبح رقم
الآية(26) وهو نفس العدد الذري للحديد, ولايمكن أن يكون هذا التوافق الدقيق قد
جاء بمحض المصادفة لأنها لايمكن أن تؤدي إلي هذا التوافق المبهر في دقته, وصدق
الله العظيم الذي قال في وصفه للقرآن الكريم. لكن الله
يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفي بالله شهيدا*
(النساء:166) وقوله تعالي (أفلا
يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا
)(النساء82)
المصدر : بحث علمي للدكتور
زغلول النجار على شبكة الإنترنت
|
0 التعليقات:
إرسال تعليق