إن تقدم الإنسان قد بلغ من الوجهة الطبيعية مبلغاً محموداً، ولا يبدو أن ثمة
مجالات لنمو تكوين جسدي جديد . ولكن ينبغي أن تتقدم صحته، وأن يبلغ تقدمه الطبيعي
درجة الكمال بفضل التغذية وعجائب الطب والجراحة، وتبعاً لذلك يجب أن ترقى الأذهان
بوجه عام . فهناك ـ على الأقل ـ متسع للعقلية الصالحة لكي تعبر عن نفسها، وبذا
تتحسن أحوال الإنسان المادية والخلقية والروحية، سواء من حيث الفرد أو المجتمع .
إن المدنية وقبول المقاييس الخلقية تتحركان إلى الأمام وإلى الخلف، ولكن
هناك كسباً دائماً، وقد كان تقدم الإنسان أمراً ملحوظاً بلا ريب، ولكن عليه أن يقطع
مراحل عدة . ويبدو لحسن الحظ أنه ليس هناك حدّ لما يمكن أن يقع من تقدم جديد في
الذهن البشري مع الوقت، أعني الوقت الكافي، بوصفه العامل الغالب .
..
إن الطيور لها غريزة العودة إلى الموطن، فعصفور الهزاز الذي عشش ببابك يهاجر
جنوباً في الخريف، ولكنه يعود إلى عشه القديم في الربيع التالي . وفي سبتمبر تطير
أسراب معظم طيورنا إلى الجنوب نحو ألف ميل فوق عرض البحار، ولكنها لا تُضل طريقها .
والحمام الزاجل إذا تحير من جراء أصوات جديدة عليه في رحلة طويلة داخل قفص يحوم
برهة ثم يسير قُدماً إلى موطنه دون أن يضل ... والنحلة تجد خليتها مهما طَمست الريح
في هبوبها على الأعشاب والأشجار، كل ذلك دليل يرى . وحاسة العودة إلى الوطن هذه هي
ضعيفة في الإنسان، ولكنه يكمل عتاده القليل منها بأدوات الملاحة .
و نحن في حاجة إلى هذه الغريزة، وعقولنا تسد هذه الحاجة ولابد أن للحشرات
الدقيقة عيوناً ميكروسكوبية لا ندري مبلغها من الإحكام، وأن للصقور بصراً تلسكوبياً
! وهنا أيضاً يتفوق الإنسان بأدواته الميكانيكية . فهو بتلسكوبه يمكنه أن يبصر
سديماًً يبلغ من الضعف أنه يحتاج إلى مضاعفة قوة إبصاره مليوني مرة ليراه، وهو
بميكروسكوبه الكهربائي يستطيع أن يرى بكتريا كانت غير مرئية، ( بل كذلك الحشرات
الصغيرة التي تعضها ) .
و أنت إذا تركت
حصانك العجوز وحده، فإنه يلزم الطرق مهما اشتدت ظلمة الليل . وهو يقدر أن يرى ولو
في غير وضوح، ولكنه يلحظ اختلاف درجة الحرارة في الطريق وجانبيه، بعينين تتأثر
قليلاً بالأشعة تحت الحمراء التي للطريق . والبومة تستطيع أن تبصر الفأر الدافئ
اللطيف وهو يجري على العشب البارد مهما كانت ظلمة الليل . ونحن نقلب الليل نهاراً
بإحداث إشعاع نسميه بالضوء .
إن عدسات عينك
تتلقى صورة على الشبكية، فتنظم العضلات العدسات بطريقة منفصلة آلية إلى بؤرة محكمة
. وتتكون الشبكة من تسع طبقات منفصلة، هي في مجموعها ليست أسمك من ورقة رفيعة .
والطبقة التي في أقصى الداخل تتكون من أعواد ومخروطات، ويقال إن عدد الأولى ثلاثون
مليون عود، وعدد الثانية ثلاثة ملايين مخروط . وقد نظمت هذه كلها في تناسب محكم،
بعضها بالنسبة إلى بعض، وبالنسبة إلى العدسات، فإنك ترى عدوك مقلوب الوضع والجانب
الأيمن منه هو الأيسر . وهذا أمر يربكك إذا حاولت أن تدافع عن نفسك .. ولذا أجريت
ذلك التصميم قبل أن تقدر العين على الإبصار، ورتبت إعادة تنظيم كاملة عن طريق
ملايين من خيوط الأعصاب المؤدية إلى المخ . ثم رفعت مدى إدراكنا الحسي من الحرارة
إلى الضوء، وبذا جعلت العين حساسة بالنسبة للضوء . وهكذا نرى صورة ملونة للعالم من
الجانب الأيمن إلى فوق، وهو احتياط بصري سليم . وعدسة عينك تختلف في الكثافة، ولذلك
تجمع كل الأشعة في بؤرة . ولا يحصل الإنسان على مثل ذلك في أية مادة من جنس واحد
كالزجاج مثلاً . وكل هذه التنظيمات العجيبة للعدسات والعيدان والمخروطات والأعصاب
وغيرها لابد أنها حدثت في وقت واحد، لأنه قبل أن تكمل كل واحد منها، كان الإبصار
مستحيلاً . فكيف استطاع كل عامل أن يعرف احتياجات العوامل الأخرى ويوائم بين نفسه
وبينها !!
إن المحار
العادي الذي تأكل عضله، له عيون عدة تشبه عيوننا كثيراً، وهي تلمع، لأن كل عين منها
لها عاكسات صغيرة لا تحصى، ويقال إنها تساعدها على رؤية الأشياء من اليمين إلى فوق
وهذه العاكسات غير موجودة في العين البشرية . فهل رتبت للمحار تلك العاكسات لأنه لا
يملك كالإنسان قوة ذهنية ؟ ولما كان عدد العيون في الحيوانات يترواح بين انثنين
وعدة آلاف، وكلها مختلفة، فلا ريب إن قوة حكيمة عالمة هي التي خلقت هذه العيون لهذه
الحيوانات هي قدرة الله تعالى .
إن نحلة العسل
لا تجذبها الأزهار الزاهية كما نراها، ولكنها تراها بالضوء فوق البنفسجي الذي
يجعلها أكثر جمالاً في نظرها . وفيما بين أشعة الاهتزازات البطيئة واللوحة
الفوتوغرافية وما وراءها، عوالم من الجمال والبهجة والإلهام، بدأنا نقدرها ونسيطر
عليها . فلنأمل أن يأتي علينا يوم نستطيع فيه أن نستمتع بعالم الضوء عن طريق النبوغ
في الابتكار . وها نحن أولاء قد أصبحنا قادرين على أن نكشف اهتزازات الحرارة في
كوكب بعيد، ونقيس طاقتها .
إن العاملات من
النحل تصنع حجرات مختلفة الأحجام في المشط الذي يستخدم في التربية . وتعد الحجرات
الصغيرات للعمال، والأكبر منها لليعاسيب ( ذكر النحل) ، وتعد غرفة خاصة للملكات
الحوامل . والنحلة الملكة تضع بيضاً غير مخصب في الخلايا المخصصة للذكور، وبيضاً
مخصباً في الحجرات الصحية المعدة للعاملات الإناث والملكات المنتظرات . والعاملات
اللائي هي إناث معدلات بعد أن انتظرن طويلاً مجيء الجيل الجديد، تهيأن أيضاً لإعداد
الغذاء للنحل الصغير بمضغ العسل واللقح، ومقدمات هضمه، ثم من تطور الذكور والإناث،
ولا يغذين سوى العسل واللقح . والإناث اللائي يعالجن على هذا الشكل يصبحن عاملات .
أما الإناث
اللائي في حجرات الملكة، فإن التغذية بالمضغ ومقدمات الهضم تستمر عندهن . وهؤلاء
اللائي ينتجن بيضاً مخصباً . وعملية تكرار الإنتاج هذه تتضمن حجرات خاصة، وبيضاً
خاصاً، كما تتضمن الأثر العجيب الذي لتغيير الغذاء . وهذا يتطلب الانتظار والتمييز
وتطبيق اكتشاف أثر الغذاء . وهذه التغيرات تنطبق بوجه خاص على حياة الجماعة، وتبدو
ضرورة لوجودها . ولابد أن المعرفة والمهارة اللازمتين لذلك قد تم اكتسابها بعد
ابتداء هذه الحياة الجماعية، وليستا بالضرورة ملازمتين لتكوين النحل ولا لبقائه على
الحياة . وعلى ذلك فيبدوا أن النحل قد فاق الإنسان في معرفة تأثير الغذاء تحت ظروف
معينة .
و الكلب بما
أوتي من أنف حساس، يستطيع أن يحس الحيوان الذي مرَّ . وليس ثمة أداة من اختراع
الإنسان لتقوي حاسة الشم الضعيفة لديه، ونحن لا نكاد ندري أين نبدأ لنفحص امتدادها
.
و مع هذا فإن
حاسة الشم الخاصة بنا هي على ضعفها قد بلغت من الدقة أنها يمكنها أن تتبين الذرات
الميكروسكوبية البالغة الدقة . وكيف نعرف أننا نتأثر جميعا نفس التأثير من رائحة
بعينها ؟ الواقع أننا لا نتأثر تأثيراً واحداً . كذلك حاسة الذوق تعطي كلا منا شعور
الآخر . والعجيب أن اختلافات الإحساس هذه هي وراثية !
و كل الحيوانات
تسمع الأصوات التي يكون كثير منها خارج دائرة الاهتزازات الخاصة بنا، وذلك بدقة
تفوق كثيراً حاسة السمع المحدودة عندنا . وقد أصبح الإنسان يستطيع بفضل وسائله أن
يسمع صوت ذبابة تطير على بعد أمتار كما لو كانت فوق ( طبلة ) أذنه، ويستطيع بمثل
تلك الأدوات أن يسجل وقع شعاع شمس .
إن جزءاً من أذن
الإنسان هو سلسلة من نحو أربعة آلاف ( قوس ) دقيقة معقدة، متدرجة بنظام بالغ في
الحجم والشكل . ويمكن القول بأن هذه الأقواس تشبه آلة موسيقية، ويبدوا أنها معقدة
بحيث تلتقط، وتنقل إلى المخ، بشكل ما، كل وقع صوت أو ضجة، من قصف الرعد على خفيف
الشجر فضلاً عن المزيج الرائع من أنغام كل أداة موسيقية في الاوركسترا، وحدتها المنسجمة .
لو كان المراد
عند تكوين الأذن أن تحسن خلاياها الأداء، كي يعيش الإنسان، فلماذا لم يمتد مداها
حتى تصل إلى إرهاف السمع ؟ لعل " القوة " التي وراء نشاط هذه الخلايا قد توقعت حاجة
الإنسان في المستقبل إلى الاستماع الذهني أم أن المصادفة قد شاءت تكوين الأذن خيراً
من المقصود؟...
عن إحدى
العناكب ( جمع عنكبوت ) المائية تصنع لنفسها عشاً على شكل منطاد ( بالون ) من خيوط
بيت العنكبوت وتعلقه بشيء ما تحت الماء . ثم تمسك ببراعة فقاعة هواء في شعر تحت
جسمها، وتحملها إلى الماء ثم تطلقها تحت العش ثم تكرر هذه العملية حتى ينتفخ العش،
وعندئذ تلد صغارها وتربها، آمنة عليها من هبوب الهواء . فهما هنا نجد طريقة النسج
،بما يشمله من هندية و تركيب وملاحة جوية .
ربما كان ذلك
كله مصادفة .. ولكن ذلك لا يفسر لنا عمل العنكبوت
.
المصدر : كتاب العلم يدعو للإيمان أ.
كريسي مورسون
|
0 التعليقات:
إرسال تعليق