التسميات

الموسيقى الصامتة

Our sponsors

29‏/11‏/2014

غريق


غريق
ـــــــــــــ

بحر واسع غريب ... كنت أجلس أمامه الآن ... يهدر في غضب من هذا النهار الشتائي البارد ... رائحة اليود و أرواحٌ كثيرة دفنت بين أحضانه ... تحملها ريحٌ قويّة بعض الشيء ... فيها ملل ... و فيها تجدّد ... بالضبط كما أحس ... قف فوق سحابة أو داخل طائرة سيبدو هذا البحر مثل نقطة من الزيت ساكنة مُقبضة كأنّها لوحة حائط أو ورقة من أوراق كتاب ممل لا تتغيّر و لا تتحرّك ... يبدأ هذا البحر حركة ً منتظمة ً هادئة ً رتيبة لو استبدلت السحابة أو الطائرة بعمارة عالية أو جبل ... أمّا أنا ... و في مكاني هذا ... فهذا البحر بحر ... هادرٌ صاخب ... لا يُسر معه و لا سكون فيه ... فوضى ما بعدها فوضى ...
كم هي مختلفة طرق رؤيتنا للأشياء ...
زفرت في رفق مرّة ... ثم في ضيق المرّة الثانية ... في تلقائية امتدت يدي إلى الجيب العلوي لقميصي فتذكّرت أنّي توقّفت عن التدخين منذ فترة فزفرت للمرّة الثالثة على التوالي ... أحاول أن أتذكّر ما الّذي أحضرني في هذا المكان المُقفر وحدي ... لكنّي لا أستطيع ... أحس برودة ما تشمل جسدي إلاّ أنّ ذلك لم يجبرني على ترك مكاني الغريب ... لا بد أنّني أتيت هنا لسبب ما ... غرض ٍ ما ... هل سأقابل شخصاً ما هنا ؟!. في هذا الجو البارد و المكان القصيّ ... هل أردت أن أمسح بعضاً من همومي و أزيل عن كاهلي بعض الأعباء ؟!. لا بد إذن أنّي أحمق لكي أفعل ذلك من خلال إصابتي بالتهاب رئوي ... لا بد أنّني هنا لأتذكّر شيئاً ما ... و لكن المثير في الأمر أنّي لا أتذكّر ... و لو حتّى كوني جئت هنا ... لأتذكّر ...
نظرت للبحر ... علّه يُجبني و يُشفي غليلي ... و إذ التفتّت ... إذ بي ألمح ما يُشبه ذراعين ملوّحتين لجسد مغمور بالماء ... للوهلة الأولى ظننتني أحلم ... أو أتوهّم ... إلاّ أنّني – و بإطالة النظر – تأكّدت بما لا يدع مجالاً للشك أنّه ثمّة شخص يصارع الغرق باستماتة و يأس ٍ شديدين ... نسَق التلويح ذاته يحمل بعضاً من الإحباط و الإحساس بالفشل و الإخفاق ...
أيّ تعس هذا الّذي سوّلت له نفسه بالنزول للبحر في مثل هذا الطّقس ؟!!
اليدان البيضاوان ... لا زالا يلوحّان ... يستنجدان ... يستغيثان ...
لا ألبث أن ألمح رأساً يشب عن الماء في إصرار ... الملامح و السمت أشبه ما يكون لامرأة ... أتكون حورية بحر ؟! أم ندّاهة ... كالموجودة في أساطير القـُرى ؟! أيكون المر كلّه خُدعة ؟! أينسج خيالي هذا الشرَّك حولي بمثل هذا الإتقان و هذه الحرفية ؟!
يا لي من مريض ٍ أخرق ...
أنا ها هنا أحاول أن أفلسف الأمور و أجعل لكل شيءٍ في هذه الدُنيا منطقاً و مغزى بينما كل شيءٍ في هذه الدُنيا يفتقد لأيّ منطق ٍ او مغزى ... و في ذات الوقت الّذي أستمتع فيه بمشاهدة احتضار امرأة ... كل ما يفصلها عن هذه الدُنيا جذبةُ رجلمثلي – لبر الأمان !!!
لم أدر إلاّ بنفسي و أنا اندفع ... و بكامل ملابسي ... أخوض عباب البحر الهادر في طريقي نحو المرأة ... لا أشعر ببرودة الماء على جسدي أو بالموج العنيف الّذي يبدو أنّه غاضب لأن شخصاً ضعيفاً مثلي قد تجرّأ و تحدّاه ... بركان من دم يغلي يعتمل بداخلي و أنا أضرب بذراعيّ في منتهى القوّة و الحسم قاطعاً الأمتار القليلة الّتي تفصلني عن المكان حيث كانت المرأة تستغيث ... لكنّها لم تكن هناك ...
توقفت وهلة لالتقاط أنفاسي اللاّهثة ...
لا بد أنّ مقاومتها قد كفّت و اجتذب البحر جسدها و هي الآن في طريقها إلى القاع ... و لكن حتّى لو حدث هذا ... فإنّه لم يحدث إلاّ منذ بُرهة وجيزة فقد كانت تلوّح حتّى مسافة قريبة من هنا ...
كالمجنون ... أخذت نفساً عميقاً ... ملأت به صدري ... و في اصرار أشد نزلت برأسي عن مستوى سطح الماء ... الملح يحرق عيوني كماء النار الاّ أنّ هذا لا يهمّني الآن ...
القاع مظلم ... و التفاصيل متداخلة ... و الدوار يكتنفني ... كنت أحس رئتيّ تكادان تنفجران .. إلاّ أنّني ضغطت على نفسي في محاولة يائسة للعثور عليها و هي لا زالت على قيد الحياة ... أخذت أغوص بين الصخور ... أحاول الوصول إلى القاع ... لم أستطع ... صعدت .... كنت أحس ألماً شديداً بصدري ... زفرت في عنف ... أخذت عدّة أنفاس متلاحقة لاهثة ... أتبعتهم بنفس عميق للغاية ... حبسته داخلي ... و إذ أهمّ باستئناف الغطس ... إذ بي ألمح أن بعضاً من الناس قد تجمهروا على الشاطيء ... لو يأتوا ها هنا و يساعدوني ؟!!
و لكنّي لن انتظر ... الوقت يمر ... و المسكينة قد يفصلها عن الحياة هذه الّلحظات الغالية ... كان الغيظ يملؤني ... بل القهر ... بل الغضب ... و انا أعاود البحث و الغطس إلى عمق أكثر و أكثر من السابق ... برؤية ضبابية أكاد المح قاع البحر ... أدور بعينيّ ... هنا ... هناك ... و لكن لا أثر البتّة لهذه المسكينة ... ساعدني يا الله ... ماذا أفعل الآن ؟!
كنت الآن أحس دواراً أكثر و أكثر من المرّة السابقة ... و النفـس داخل صدري قد نفذ و صداع رهيب قد بدأ ينفذ إلى رأسي ... لا أدري من أين بدأ اليأس المُقبض يتسرّب إلى نفسي ... في بطء و ارهاق شديدين اتخذّت طريق الصعود ... سواد شديد يحيط بي من كل جانب ... أردت أن أبكي ... أن استغيث ...
و بعد ألف مليون سنة ... و بعد أن طفت على سطح الماء ... كان الوهن يشملني كلّي ... الجمع الغفير يلوّح ببلاهة ... و انا لا أستوعب ما يطلبونه منّي ...
اتُراهم انقذوا الفتاة ؟!
لكن مهلاً ....
أظن أن ......
كـلاّ ... كـلاّ ... لا يُـعـقـل ........
في وسط الجمهرة تماماً ... و كما لو كانت ترتفع عن الأرض قليلاً ... و على الشاطيء البعيد للغاية الآن ... و حيث بر الأمان ... و الأهل ... و الناس ... و الخـلاّن ...
وقفت هي... بمنتهى الوقاحة... بمنتهى القذارة... بمنتهى الشناعة...
شعرها أسود منسدل على كتفيها كالّليل ... و جسدها ابيض كالمرمر ... ترتدي غُلالة شفيفة رقيقة من قماش ورديّ لذيذ ... الماء يتقاطر عن جسدها و شعرها و غلالتها الّتي ترتديها ... في رتابة و ملل ...
و لا زالــت تـــلـــوّح ...
الوقحة ... القذرة ... الشنيعة ...
أنتِ هناك ... بينهم ... و أنا ها هنا أبحث عن بقاياكِ ؟!!
أنا ضعيفٌ للغاية الآن ... مهزومٌ جدّاً ... مُخدّر الإحساس ... يتمكّن منّي الدوار الأسود الّلذيذ ... حتّى أنّني توقّفت عن تلويح ذراعيّ بعد أن أدركني اليأس ... بعد أن أدركني اليأس ...
هـيـه ...
أنــتِ ...
يــا فــتــاة ...
أنتِ أيّتها الجميلة الفاتنة ... أرجوكِ ...
تفصلني عن هذه الحياة ...
جـذبـةٌ مـنـكِ ...
فـهـل تـنـتـشـلـيـنـي ؟!!!

0 التعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة الموضوع

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More