القرآن الكريم والحديث عن الثقوب السوداء |
والمدلول اللغوي لهاتين الآيتين الكريمتين: أقسم قسماً مؤكداً بالخنس
الجوار الكنس, والسؤال الذي يتبادر إلي الذهن هو: ما هي هذه الخنس الجوار الكنس
التي أقسم بها ربنا( تبارك وتعالى) هذا القسم المؤكد, وهو( تعالى) غني عن
القسم؟
وقبل الإجابة علي هذا التساؤل لابد لنا: أولا: من التأكيد تدل على حقيقة قرآنية مهمة مؤداها أن الآية أو الآيات القرآنية التي تتنزل بصيغة القسم تأتي بمثل هذه الصياغة المؤكدة من قبيل تنبيهنا إلى عظمة الأمر المقسوم به, وإلى أهميته في انتظام حركة الكون, أو في استقامة حركة الحياة أو فيهما معا, وذلك لأن الله( تعالى) غني عن القسم لعباده. ثانياً: أن القسم في القرآن الكريم بعدد من الأمور المتتابعة لا يستلزم بالضرورة ترابطها, كما هو وارد في سورة التكوير, وفي العديد غيرها من سور القرآن الكريم من مثل سور الذاريات, الطور, القيامة, الانشقاق, البروج, الفجر, البلد, الشمس, والعاديات, ومن هنا كانت ضرورة التنبيه علي عدم لزوم الربط بين القسم الأول في سورة التكوير:
فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ {15}الْجَوَارِ الْكُنَّسِ {16} وَاللَّيْلِ
إِذَا عَسْعَسَ {17} وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ }
والقسم الذي يليه في الآيتين التاليتين مباشرة حيث يقول الحق( تبارك وتعالى): { وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ {17} وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ {18}
( التكوير:18,17)
وهو ما فعله غالبية المفسرين للأسف الشديد, فانصرفوا عن الفهم الصحيح لمدلول هاتين الآيتين الكريمتين. ثالثا: تشهد الأمور الكونية المقسوم بها في القرآن الكريم للخالق( سبحانه وتعالى) بطلاقة القدرة, وكمال الصنعة, وتمام الحكمة, وشمول العلم, ومن هنا فلابد لنا من إعادة النظر في مدلولاتها كلما اتسعت دائرة المعرفة الإنسانية بالكون ومكوناته, وبالسنن الإلهية الحاكمة له حتى يتحقق وصف المصطفي( صلى الله عليه وسلم) للقرآن الكريم بأنه: لا تنتهي عجائبه, ولا يخلق علي كثرة الرد, وحتى يتحقق لنا جانب من أبرز جوانب الإعجاز في كتاب الله وهو ورود الآية أو الآيات في كلمات محدودة يري فيها أهل كل عصر معني معينا, وتظل هذه المعاني تتسع باتساع دائرة المعرفة الإنسانية في تكامل لا يعرف التضاد, وليس هذا لغير كلام الله. رابعاً: بعد القسم بكل من الخنس الجوار الكنس والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس يأتي جواب القسم: إنه لقول رسول كريم( التكوير:19) ومعني جواب القسم أن هذا القرآن الكريم ـ ومنه الآيات الواردة في مطلع سورة التكوير واصفة لأهوال القيامة, وما سوف يصاحبها من الأحداث والانقلابات الكونية التي تفضي إلي إفناء الخلق, وتدمير الكون, ثم إعادة الخلق من جديد ـ هو كلام الله الخالق الموحي به إلي خاتم الأنبياء والمرسلين(صلى الله عليه وسلم) بواسطة ملك من ملائكة السماء المقربين, عزيز علي الله( تعالى), وهذا الملك المبلغ عن الله الخالق هو جبريل الأمين( عليه السلام), ونسبة القول إليه هو باعتبار قيامه بالتبليغ إلي خاتم الأنبياء والمرسلين(صلى الله عليه وسلم). خامسا: إن هذا القسم القرآني العظيم جاء في سياق التأكيد علي حقيقة الوحي الإلهي الخاتم الذي نزل إلي خاتم الأنبياء والمرسلين(صلى الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه أجمعين وعلي من تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين), والذي جاء للناس كافة لينقلهم من ظلمات الكفر والشرك والضلال إلي نور التوحيد الخالص لله الخالق بغير شريك ولا شبيه ولا منازع, ومن فوضي وحشية الإنسان إلي ضوابط الإيمان وارتقائها بكل ملكات الإنسان إلي مقام التكريم الذي كرمه به الله, ومن جور الأديان إلي عدل الرحمن, كما جاء هذا القسم المؤكد بشيء من صفات الملك الذي حمل هذا الوحي إلي خاتم الأنبياء والمرسلين(صلى الله عليه وسلم), وعلي شيء من صفات هذا النبي الخاتم الذي تلقي الوحي من ربه, وحمله بأمانة إلي قومه, رغم معاندتهم له, وتشككهم فيه, وادعائهم الكاذب عليه(صلى الله عليه وسلم) تارة بالجنون( وهو المشهود له منهم برجاحة العقل وعظيم الخلق), وأخري بأن شيطانا يتنزل عليه بما يقول( وهو المعروف بينهم بالصادق الأمين), وذلك انطلاقا من خيالهم المريض الذي صور لهم أن لكل شاعر شيطانا يأتيه بالنظم الفريد, وأن لكل كاهن شيطانا يأتيه بالغيب البعيد. وقد تلقي رسول الله(صلى الله عليه وسلم) كل ذلك الكفر والجحود والاضطهاد بصبر وجلد واحتساب حتى كتب الله تعالى له الغلبة والنصر فأدي الأمانة, وبلغ الرسالة, ونصح البشرية, وجاهد في سبيل الله حتى أتاه اليقين. وتختتم سورة التكوير بالتأكيد علي أن القرآن الكريم هو ذكر للعالمين وأن جحود بعض الناس له, وصدهم عنه, وإيمان البعض الآخر به وتمسكهم بهديه هي قضية شاء الله تعالى أن يتركها لاختيار الناس وفقا لإرادة كل منهم, مع الإيمان بأن هذه الإرادة الإنسانية لا تخرج عن مشيئة الله الخالق الذي فطر الناس علي حب الإيمان به, ومن عليهم يتنزل هدايته علي فترة من الرسل الذين تكاملت رسالاتهم في هذا الوحي الخاتم الذي نزل به جبريل الأمين علي قلب النبي والرسول الخاتم(صلى الله عليه وسلم), وأنه علي الرغم من كل ذلك فإن أحدا من الناس ـ مهما أوتي من أسباب الذكاء والفطنة ـ لا يقدر علي تحقيق الاستقامة علي منهج الله تعالى إلا بتوفيق من الله. وهذه دعوة صريحة إلي الناس كافة ليطلبوا الهداية من رب العالمين في كل وقت وفي كل حين.والقسم بالأشياء الواردة بالسورة هو للتأكيد علي أهميتها لاستقامة أمور الكون وانتظام الحياة فيه, وعلي عظيم دلالاتها علي طلاقة القدرة الإلهية التي أبدعتها وصرفت أحوالها وحركاتها بهذه الدقة المبهرة والإحكام العظيم. الخنس الجوار الكنس في اللغة العربية
جاء في معجم مقاييس اللغة لابن فارس( المتوفى سنة395 هـ), تحقيق عبد
السلام هارون( الجزء الخامس, الطبعة الثانية1972 م, ص141, ص223) وفي
غيره من معاجم اللغة تعريف لغوي للفظي الخنس والكنس يحسن الاستهداء به في فهم مدلول
الخنس الجوار الكنس كما جاءا في آيتي سورة التكوير علي النحو
التالي:
أولا: الخنس:
خنس: الخاء والنون والسين أصل واحد يدل
علي استخفاء وتستر, قالوا: الخنس الذهاب في خفيه, يقال خنست عنه, وأخنست
عنه حقه.
والخنس: النجوم تخنس في المغيب, وقال قوم: سميت بذلك لأنها تخفي نهارا وتطلع ليلا, والخناس في صفة الشيطان, لأنه يخنس إذا ذكر الله تعالى, ومن هذا الباب الخنس في الأنف انحطاط القصبة, والبقر كلها خنس. ومعني ذلك أن الخنس جمع خانس أي مختف عن البصر, والفعل خنس بمعني استخفي وتستر, يقال خنس الظبي إذا اختفي وتستر عن أعين المراقبين. والخنوس يأتي أيضا بمعني التأخر, كما يأتي بمعني الانقباض والاستخفاء. وخنس بفلان وتخنس به أي غاب به, وأخنسه أي خلفه ومضي عنه. ثانيا: الجوار:
أي الجارية.( في أفلاكها) وهي جمع جارية, من الجري وهو المر
السريع.
ثالثا: الكنس:
( كنس)
الكاف والنون والسين تشكل أصلين صحيحين, أحدهما يدل علي سفر شئ عن وجه شئ وهو
كشفه والأصل الآخر يدل علي استخفاء, فالأول كنس البيت, وهو سفر التراب عن وجه
أرضه, والمكنسه آلة الكنس, والكناسة ما كنس.
والأصل الآخر: الكناس: بيت الظبي, والكانس: الظبي يدخل كناسه, والكنس: الكواكب تكنس في بروجها كما تدخل الظباء في كناسها, قال أبو عبيدة: تكنس في المغيب. وقيل الكنس جمع كانس( أي قائم بالكنس) أو مختف من كنس الظبي أي دخل كناسه وهو بيته الذي يتخذه من أغصان الشجر, وسمي كذلك لأنه يكنس الرمل حتى يصل إليه. وعندي أن الكنس هي صيغة منتهي الجموع للفظة كانس أي قائم بعملية الكنس, وجمعها كانسون, أو للفظة كناس وجمعها كناسون, والكانس والكناس هو الذي يقوم بعملية الكنس( أي سفر شيء عن وجه شيء آخر, وإزالته), لأنه لا يعقل أن يكون المعني المقصود في الآية الكريمة للفظة الكنس هي المنزوية المختفية وقد استوفي هذا المعني باللفظ الخنس, ولكن أخذ اللفظتين بنفس المعني دفع بجمهور المفسرين إلي القول بأن من معاني فلا أقسم بالخنس* الجوار الكنس*: أقسم قسما مؤكدا بالنجوم المضيئة التي تختفي بالنهار وتظهر بالليل وهو معني الخنس, والتي تجري في أفلاكها لتختفي وتستتر وقت غروبها كما تستتر الظباء في كناسها( أي مغاراتها) وهو معني الجوار الكنس, قال القرطبي: هي النجوم تخنس بالنهار, وتظهر بالليل, وتكنس وقت غروبها أي تستتر كما تكنس الظباء في المغار وهو الكناس, وقال مخلوف: أقسم الله تعالى بالنجوم التي تخنس بالنهار أي يغيب ضوؤها فيه عن الأبصار مع كونها فوق الأفق, وتظهر بالليل, وتكنس أي تستتر وقت غروبها أي نزولها تحت الأفق كما تكنس الظباء في كنسها.. وقال بعض المتأخرين من المفسرين: هي الكواكب التي تخنس أي ترجع في دورتها الفلكية, وتجري في أفلاكها وتختفي. ومع جواز هذه المعاني كلها إلا أني أري الوصف في هاتين الآيتين الكريمتين: فلا أقسم بالخنس* الجوار الكنس*. ينطبق انطباقا كاملا مع حقيقة كونية مبهرة تمثل مرحلة خطيرة من مراحل حياة النجوم يسميها علماء الفلك اليوم باسم الثقوب السود(Black Holes). وهذه الحقيقة لم تكتشف إلا في العقود المتأخرة من القرن العشرين, وورودها في القرآن الكريم الذي أنزل قبل ألف وأربعمائة سنة بهذه التعبيرات العلمية الدقيقة علي نبي أمي(صلى الله عليه وسلم), في أمة كانت غالبيتها الساحقة من الأميين.
المصدر: بحث للدكتور زغلول النجار
|
0 التعليقات:
إرسال تعليق